فن الكتابة هو أم الخطباء وأبو الحرفيين (حكمة سومرية).
اعتمد الإنسان القديم في تطوره ونمو الحضارات بشكل رئيسي على مجموعة من الأنشطة المحدودة مثل اكتشاف النار، تدجين الحيوانات واكتشاف الزراعة، لكن أهم محصلة وصل إليها الإنسان هي اختراعه للكتابة التي حفظت المعرفة البشرية وسمحت بتمريرها للأجيال القادمة.
وجدت نصوص مسمارية عديدة اكتشفت في العراق القديم بيّنت الطريقة التي توصل الإنسان الرافديني من خلالها إلى اختراع الكتابة
تعد الكتابة من أبرز الوسائل الإنسانية المهمة التي استخدمت لتسجيل الأفكار، التعبير عنها، تدوين مختلف المعارف و العلوم، وتاريخ الحوادث والإنجازات على مر الأزمان والعصور، ويعد اكتشافها منعطفًا حضاريًا بالغ الأهمية في تاريخ البشرية، فهي ركيزة الحضارة الأولى والمعبرة عنها، ومن المعروف أن الكتابة ظهرت في بلاد الرافدين في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد بشكلها البدائي (الصوري) وهذا ما أثبتته التنقيبات التي أجريت ضمن مدينة الوركاء والتي عثر من خلالها على بوادر هذه الكتابة.
على مر التاريخ وطوال تلك المدة، كان اختراع هذا المنجز مدعاة للفخر لدى الملوك والأمراء في بلاد الرافدين، حتى حظي بأهمية كبيرة لدى السومريين والبابليين وغيرهم من الأقوام والشعوب ولشد التباهي ، الاعتزاز والتفاخر بتفردهم وأسبقيتهم لهذه المعرفة، تم تخصيص عدة آلهة من وظائفها أن تكون مسؤولة عن الكتابة، وأن تتولى حماية ورعاية العاملين بها مثل الآلهة نيسابا (نيدابا) آلهة الكتابة لدى السومريين والإله نابو، إله الكتابة والمعرفة عند البابليين والآشوريين.
أظهرت التنقيبات الأثرية عدة أساطير تبرر وتكشف الأسباب التي أدت إلى اختراع الكتابة لدى سكان بلاد الرافدين، فهناك عدة نصوص مسمارية اكتشفت في العراق القديم تشير إلى الكيفية التي من خلالها توصل الإنسان الرافديني إلى اختراع الكتابة.
إن أول هذه الأساطير تشير إلى كون المعرفة البشرية قد استنبطت من قبل كائنات بحرية تم إرسالها بواسطة الإله إنكي لكي يتعلم الإنسان أساسيات الحضارة، عرفت هذه الكائنات باسم أبكالو وهي كائنات أسطورية مركبة، أما تسميتهم فهي تعني الحكماء السبعة، كانت أجسادهم بهيئة جسد سمكة وتحت رأسه رأس إنسان، وله أرجل شبيهة برجلي البشر، وهذا الكائن الحي ذاته كان يمضي أيامه بين البشر دون أن يتناول طعامًا، وتفيد أسطورتهم بأن الإله أنكي كان وحده دائمًا هو الخالق والمبتكر الوحيد للحياة المتحضرة، إلهًا للحكمة و المعرفة قد بعث بسبعة حكماء في أزمان ما قبل الطوفان لكي يعلّموا الإنسان فنون الحضارة والمهارات الصناعية وقد تضمنت هذه المعارف الكتابة.
إن هؤلاء الأبكالو مرتبطون بإنكي سيدهم، كان أولهم يلقب أدابا الحكيم وآخر اسمه أونيس الذي كان يغطس ثانية في البحر ليقضي لياليه في الماء لكونه برمائيًا.وفي أسطورة أخرى جاءت بنص مسماري يرجع إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد يدور حول الآلهة إنانا (عشتار) والإله إنكي، يذكر ملخصه بكون الآلهة عشتار أرادت توفير المزيد من الرخاء لمدينتها (الوركاء) لهذا ذهبت إلى موطن الحضارة السومرية القديمة أريدو مدينة الإله إنكي إله الحكمة والمعرفة الذي تصدر عنه جميع المراسيم ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة للحضارة، بعد أن تصل عشتار يُسحر إنكي بجمالها الأخاذ، يقدم لها الشراب والمأكل ويجلسان معًا لينعما بالمسرات، بعد أن تلعب الخمرة في رأس إنكي وتأخذ منه مأخذًا يقدم للآلهة عشتار على دفعات متتالية ما يزيد عن مئة مرسوم مقدس تعتبر أساس الحضارة السومرية، ومن هذه المراسيم كانت الكتابة وهي من النواميس الإلهية التي تسلمتها عشتار بسرور وأخذتها معها إلى مدينة الوركاء، يستيقظ بعدها إنكي من سكرته يتأسف على ما قام به ويدرك فداحة فعله، فيأمر وزيره باللحاق خلف عشتار ليستعيد منها المراسيم.
و من النصوص التي تشير إلى انتشار الكتابة و شيوعها نص مسماري يعرف بـ"إينمركار وسيد ارتا" يقدم تفسيرًا آخر للتدوين، ويعود تاريخ هذا النص إلى العصر البابلي القديم، يعد إينميركار ثاني ملوك سلالة الوركاء الأولى يرجع حكمه إلى حدود 2700 قبل الميلاد، ويتمثل ملخص النص بمحاولة اينميركار السيطرة على مدينة ارتا الواقعة في بلاد فارس لغناها وكثرة مواردها من الأخشاب، الأحجار، المعادن، الذهب والفضة من أجل إعادة بناء المعابد الدينية، وبسبب كون مدينة الوركاء تفتقد لهذه الموارد فقد تم بعث رسوله الخاص لإنذار حاكم آرتا بتدمير المدينة في حال لم يقدم هو ورعاياه الطاعة، بعد عدة مراسلات ذهابًا وإيابًا وتهديدات والمناشدات بين الحاكمين جاء يوم الذي كانت تعليمات إينميركار صعبة للغاية على حفظها من قبل المبعوث الذي أرسله، مما اضطر حاكم الوركاء إلى اختراع الكتابة على الفور من أجل أن لا ينسى مبعوثه كلماته، حيث يذكر ضمن النص:
"المبعوث، فمه ثقيل، لم يستطع تكرار الرسالة، لأن المبعوث ثقل فمه لم يستطع تكرارها، ربت حاكم الوركاء على الطين وكتب الرسالة، وضع عليها كلمات مثل لوح حتى تلك الفترة لم تكن هناك كلمات تنقش على الطين"، كما ورد في النص أن سيد الوركاء برأي ناظم القصيدة أول من كتب على ألواح الطين وأنه فعل ذلك لأن رسوله كان ثقيل الكلام، ولا يقوى على تبليغ الرسالة الشفوية بنصها، ربما بسبب طولها، فسلم الرسول اللوح المكتوب إلى سيد ارتا، وأخذ ينتظر الجواب، ومما سبق يبدو أن سكان بلاد الرافدين لديهم معرفة بعدم وجود الكتابة في تلك الفترات القديمة.يتضح من خلال تتبع النصوص أن بداية الكتابة كان عبر جهود بشرية وليس للآلهة دخل في ذلك
ونلاحظ في نص إينميركار وحاكم ارتا؛ أن اختراع الكتابة كان بمجهود بشري دون تدخل الآلهة، على عكس بقية النصوص التي تشير إلى إرادة إلهية، كونها تحتكر هذا العلم ورغبتها في مشاركته مع باقي البشر، وبهذا ظهرت الكتابة في التاريخ وأصبحت في متناول الناس يدونون بها كل تاريخهم على مر الزمان.
المصادر:
- أدب الحكمة في وادي الرافدين/ صلاح سلمان رميض /2000/ صفحة 14 + 77.
- الكتابة المسمارية / د . فاروق إسماعيل /2017/ صفحة 9 + 89 - 91.
- حضارة العراق/ مجموعة مؤلفين / الجزء الأول/1985/ صفحة 221.
- how writing come about / Denise schmandt /1996/ p2.
- الأساطير السومرية / صموئيل نوح كريمر / 1971/ صفحة.
- الأساطير السومرية / صموئيل نوح كريمر / 1971/ صفحة 107 - 110.
- بلاد الرافدين (الكتابة، العقل، الآلهة) جان بوتيرو/ ترجمة د . وليد الجادر/ 1990/ صفحة 304.
- من ألواح سومر / صموئيل نوح كريمر / ترجمة طه باقر / صفحة 63 - 70 .
- الكاتب في بلاد الرافدين القديمة/ د . عامر عبدالله الجميلي/ رسالة ماجستير 2001/ صفحة 13 + 37.
- حقيقة السومريين/ نائل حنون / 2007/ صفحة 107.
- مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة الجزء الأول / طه باقر / 2009/ صفحة 340.