من لم يقرأ التاريخ؛ مكتوب عليه أن يعيده
. هيجلمنذ البداية، منذ نزول التيار الصدري بجماهيره بشكل رسمي وواضح في موجة احتجاج 2015، ولاعتبارات ودوافع سوقت على إنها أيديولوجية، شابت علاقة التيار الصدري بـ"القوى المدنية" توترات وتوجس متبادل، رغم أنّ كلا الطرفين ـ بغض النظر عن مسألة الاشتراك في السلطة ـ محتاجان، وظيفيًا، لبعضهما؛ فالقوى المدنية عارية تمامًا أمام الذئاب، لا حاضنة اجتماعية منظمة، ولا عناصر قوة رادعة. أما على الطرف الآخر، فكان التيار الصدري عبارة عن سيل من المحرومين وعمامة مقتدى الصدر فقط، لا يمتلك نخبًا تبلور خطابه ولا ناشطين يسوقون متبنياته إلى باقي شرائح المجتمع، كتلة بشرية شبه معزولة اجتماعيًا، كجزيرة وسط المحيط.
حالة التدافع بين القوى الشيعية قد وصلت إلى ذروتها في هذا الوقت
ومن هذه الفكرة، نشأ مشروع "سائرون" كمحاكات لمفهوم "الكتلة التاريخية" التي نظّر لها المفكر الماركسي "غرامشي" وسوقها عراقيًا بعض الباحثين والمهتمين بالشأن السياسي. ليدخل بعدها تحالف "سائرون" الانتخابات، ويحصد المركز الأول، ثم انتهى به المطاف إلى دخول مسارات تتناقض مع مشروعه وخطابه، لينتهي المشروع إلى ما انتهى إليه، ومع فشل مشروع "سائرون" انهارت الثقة بالصدر بشكل كبير، ولم تعد العوامل الموضوعية الداعية للتحالف مع التيار الصدري قادرة على ردم الفجوة، كانت الحمولة السلبية التي خرجنا منها بعد فشل تحالف سائرون أكبر من أن تُعالج.
الصدر ولحظة تشرين
على مضض، وتحت وطأة القنّاص و"الكاتم"، استقبلت "تشرين" جماهير التيار، وفسحت لهم المجال لأخذ دور تنظيمي داخل الساحة أيضًا. مضت العلاقة في الأشهر الثلاثة الأولى للانتفاضة تحت ضغط الحاجة إلى مصد يقي تشرين ضربات السلطة الغاشمة. ثمّ، وبشكل تدريجي، وقبالة الضعف الشديد في تنظيم الحراك المحتج، أخذ التيار مساحته الطبيعية داخل الساحات، ابتلعها تنظيميًا ولوجستيًا وأمنيًا، والنتيجة الموضوعية والطبيعية لهذه الهيمنة هي أن يستحوذ التيار على قرار الساحات. حاول الصدريون إعادة ضبط قرار الساحات وفقًا لسياسة التيار. ولكن، ولأسباب ودوافع عقلانية وغير عقلانية، وقفت بضع مجاميع من المحتجين ضدّ هذه الهيمنة، وفشل التيار بعملية الاختطاف الناعمة لقرار الساحات.
في لحظة مفصلية، وفارقة جدًا في تاريخ العراق الحديث، سقط على مقربة من مطار بغداد الدولي أخطر رجلين في المنطقة، "قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس"، اللذان تحولا إلى أشلاء متناثرة بفعل صواريخ "هيل فاير" الأمريكية. هرب قادة الفصائل المسلحة من هول الصدمة ـ وربما خوفًا من تغريدات فائق الشيخ علي الذي أخذ يبشر بصواريخ "هيل فاير" أخرى تلوح في الأفق. في اليوم التالي، صحى زعيم التيار ليجد معطيين اثنين:
- الأول: فراغ رهيب في موقع قيادة الشارع الإيراني في العراق.
- الثاني: إن تشرين باتت، في هذه اللحظة، عقبة أمام طريق مفتوح إلى السلطة عبر انتخابات مبكرة يضمن الصدر الفوز فيها إذا ما استثمر سريعًا حالة ضعف جبهة الولائيين.
كانت لحظة مواتية ومغرية جدًا لعقد اتفاق تاريخي مع الجمهورية الإسلامية: ملء الفراغ الذي تركه رجلا إيران، مقابل أن يكون شريكهم الأوحد في العراق.
لاحقًا، طُرح اسم محمد توفيق علاوي، ورفضت الساحات. مضت القوى الرئيسة إلى تكليف علاوي، وازدادت الساحات رفضًا. إذًا، من وجهة نظر التيار، كان السؤال الأهم: ما الحيلة؟لم تستغرق قيادة التيار كثيرًا في التفكير للإجابة عن هذا السؤال. ولدوافع غريبة ومجهولة، قرّر التيّار الصدري التمسك بعلاوي، ولكن هذا القرار كان يستلزم إنهاء الاحتجاج (لاحقًا ستدرك قيادة التيّار أي خطأ استراتيجي وقعت فيه).
قيّم الصدريون الموقف. وبعد محاولة ناعمة لإنهاء الاعتصامات عبر انسحاب جماهيرهم ومجاميع حماية الساحات، أدرك الصدريون أن السيف أصدق أنباءً من الكتب: فلتنزل جماعات القبعات الزرق بالمئات، وتقتحم أقوى رمزية تشرينية: "المطعم التركي"، عملية "تنظيف" واسعة النطاق، غدت بعدها التحرير شبحًا لساحة اعتصام. بعد أسابيع، لم تعد هناك ساحة اعتصام في العراق؛ احترقت خيام الحبوبي بالكامل، أما ساحة النجف، فكانت على موعد مع الرصاص والدم ويسقط مهند القيسي شهيدًا، والصفحة التالية للأحداث تعرفونها: تكليف الكاظمي وبدء عملية موت سريري لتشرين.
على مقربة من الصدام.. الصدر يحاصر خصومه
تبدو اللحظة الحالية مكررة، ومشاهدها مألوفة: الصدر في الشارع والقوى السياسية برمتها في الزاوية. يُصَعِّدُ الصدر من خطابه، وتزداد حدّة توتر وارتباك خصومه. يرتخي الصدر لاحقًا، يأخذ نفسًا، ثم يتراجع خطوة، وقد انتزع بعض المكاسب الجديدة. مألوفة جدًا هذه المشاهد في السنوات الأخيرة. لكن نظرة فاحصة ستدرك العكس تمامًا هذه المرة؛ إنَّ حالة التدافع بين قوتين شيعيتين تتصارعان على السلطة منذ 2014 قد وصلت ذروتها.
وصلنا إلى مرحلة كسر العظم؛ ذلك أن المعادلة الحالية تطرح النقاش لمسارين:
الأول: أن يتنازل الصدر عن مشروع الأغلبية، وبالتالي التنازل عن كل مطالبه التي يطرحها كآليات لتحقيق هذا المشروع، والنتيجة الموضوعية لهذا القرار هي العودة لصيغة توافقية غير مستدامة بسبب نقمة الشارع على هذه الصيغة لدرجة القطع التام مع المرحلة السابقة. بمعنى: إنّ الصدر إذا ما قرّر العودة إلى التوافق فأنه سيضع مستقبله السياسي على كف عفريت.
الثاني: استمرار الصراع على شكل جولات يعيد كل طرف منهما تموضعه إلى أن تحين فرصة يدرك أحد الطرفين قدرته على الحسم، فننزلق إلى صدام مسلح تبقى نهاياته رهينة طبيعة المعادلة الدولية في تلك اللحظة.
ولذا، لا مسارات كثيرة أمام الصدر، فأما المضي في هذا الصراع حتى آخره، أو التراجع وسلوك مسار قد يفضي إلى تآكل مستقبله السياسي. أما خصومه فليسوا بأفضل حالٍ منه، فلا رفاهية خيارات لديهم، فأما المضي وكسب الصراع أو الاستسلام لهيمنة الصدر، وبالتالي خسارة وجودهم، ككل، بشكل تدريجي.
تشرين وصراع الفيلة.. ما العمل؟
الصورة البانورامية التي عرضناها بشيء من التفصيل أعلاه، تلخص مشهدين، الأول إنّ العلاقة بين الصدر وتشرين أكثر سوءًا من كونها تمر بأزمة ثقة. القصة قصة دم، فالقوم يرون أنهم والصدر، ورغم كل الخلافات السابقة، كانوا أمة واحدة، ولكن بعد أن وقع السيف في تشرين، صاروا والصدر أمتان على طرفي نقيض. أما المشهد الثاني، فيقول إنّ "القوى التشرينية" أمام صورة تناقض شديد بين القوى المهيمنة،وبوصفها، مع غض النظر عن مدى تنظيمها، شريحة أساس في المجتمع، فلا بد لها من موقف، خصوصًا وأنهم -التشرينيون- يطرحون أنفسهم كبديل سياسي للقوى الحالية.
إزاء صراع الفيلة هذا، يكون السؤال الأهم، والذي لا بد للتشرينين الإجابة عنه بوضوح، هو: ما العمل؟
لا ندعي طرح الإجابة هنا، لكن لا بدّ للفاعلين إدراك نقطتين أساسيتين تبدوان كبديهيات غائبة عنهم:
- الأولى: إنّ استثمار لحظة التداعي، والتناقض الشديد، بين القوى المهيمنة، لا يعني بالضرورة المرور بمسارات تؤدي إلى التحالف مع التيار الصدري. هذه الفكرة مغلوطة، وهذا الربط الشرطي كارثي؛ إذ يمكن للفاعل والمؤثر التشريني أن يطرح مطالبه بخطاب متمايز عن الخطاب الصدري، ومن دون تنسيق على أي مستوى كان، خصوصًا وأن معظم المطالب المطروحة والمهيمنة على الأجواء حاليًا هي مطالب تتسق مع روح تشرين.
- الثانية: إنّ الأجواء الحالية قابلة للاستثمار لناحية التحشيد والاستقطاب وإعادة فاعلية ونشاط الجمهور الناقم، فالفرصة مواتية جدًا لإحياء الشارع المحتج وضخ جرعة ثقة ضرورية بعد نكسة تشرين وما تبعها من خيبة أمل كبيرة.
ثم أنّ النزول إلى الشارع الآن، ووضع الصوت المحتج على خارطة الحدث، ليس ضروريًا لناحية إثبات القوة وكسب المطالب فحسب، بل مفيد وضروري جدًا لمرحلة ما بعد هذه الأزمة؛ فالمشهد السياسي، وبنسبة كبيرة، يتجه نحو انتخابات مبكرة، ومن سيشارك فيها يحتاج أن يصل إليها وفي ذهنه تصورًا كافيًا عن وضع الجمهور واتجاهاته وميولاته ومدى القدرة على استقطابه وإعادة توجيهه.
اللحظة الحالية إذا تم استثمارها بشكل عملي جيد ستساهم في إظهار مشروع جديد ينافس القوى الشيعية التقليدية
إنَّ اللحظة الحالية هي لحظة اختبار للأدوات التنظيمية واختبار لمدى قدرة الكيانات الناشئة على ضبط حواضنها الاجتماعية. إنها لحظة قد تسهم، إذا ما استثمرت جيدًا، في بلورة مشروع بناء مركز قوى جديد في الفضاء الشيعي.