12-مايو-2021

إننا نستنزف الكثير من الزمن والطاقة ونكرر ذات التجارب (فيسبوك)

لا بد للإنسان من أن يحمي نفسه، لا من خطر فقدان حياته وحسب، بل كذلك من خطر فقدان عقله. إريك فروم.

إذا كان "التواضع" لا يعني أكثر من قدرة المرء على التعلّم من النقد، فهو ذو قيمة لا ريب فيها؛ ولكن إذا كان التواضع يعني إرادة الخضوع لسلطة.. فهو موت للروح: والاسم المناسب له، بالفعل، هو "الخنوع". الفيلسوف جون باسمور.

هذه الجزء الأخير من المقالة، والذي أأمل في المستقبل البعيد التمعّن فيها! إن كان ما يُكتب بمستوى الأهمية. لأنه، وعلى ما يبدو، أن جيل الشباب الجديد، فقدوا الصلة، نسبيًا، بهذا النمط من الكتابات، وأن العنصر الغالب في هذه الفترة المضطربة، هو الإساءة وعدم التفهم، والتسرّع في إطلاق الأحكام رغم بساطة ما يُكتَبُ هنا. هذه فترة عصيبة، ومخاض سياسي قد يطول، وعشرات الشباب سقطوا غدرًا، فلا ينفع التسرَع والاتهام والإساءة لبعضنا البعض. لكن متى كان الاهتمام بالإساءة معيارًا للتفكير بالكتابة من عدمها؟ لذا لديّ إيمان عميق بهذه العلاقة الطردية: كلما كانت الكتابة بدوافع خالية من التكبر والأنانية،  كانت إلى النفوس أقرب. غير أن هذه العلاقة محكومة بمشاعر إيمانية ذاتية تعوزها الكثير من الشواهد التاريخية. لكن أزعم أن هذه الشواهد ليست قليلة. وأيًا كان الأمر فكل ما أسطره من كلمات هنا بخصوص تشرين، فهي مهدات إلى أرواح شباب تشرين. فإلى أرواحهم السلام والطمأنينة.

ساحات الاحتجاج تتحول إلى مسلخ بشري في منطقتنا، وتُجابه بردّة دكتاتورية عنيفة

 فلنذكّر بداية بهذه الحقيقة التاريخية: في البلدان التي أحكمت قبضتها من قبل الاحتلال، سيكون من العسير للغاية إحداث تغييرات جذرية إلا باستنزافات هائلة أضحت شبه مستحيلة في بلد مثل العراق؛ فالإرادة الدولية والإقليمية حاضرة، وتتحكم بسير الأمور السياسية. بل ستحمي القوى المهيمنة زبائنها إن اقتضت المصلحة، وبخلافه ستضع نفسها كقائدة ورافعة لمشعل التغيير!. لم يستشرف البيت الأبيض هدفًا نافعًا في ولاية بوش الأب، فقرر هذا الأخير التراجع أبّان حرب الخليج، وعدم اجتياح بغداد. في حين قرر بوش الابن اجتياح بغداد وإسقاط سلطة البعث واحتلال بغداد. فالمصالح الاستراتيجية هي من تقرر متى يكون القرار المناسب وليس الأشخاص على أي حال. فالموضوع، برأيي البسيط، أكبر  من عملية احتجاج في الشوارع؛ فأنت أمام مصالح دولية وإقليمية ستكتفي بالبيانات "الحزينة" على سقوط الضحايا واحدًا تلو الآخر. أما الحالمون بـ "مشاعر" دولية، أو تدخل رسمي فأظنه وهم من الأوهام.

اقرأ/ي أيضًا: التشرينيون مرة أخرى (1ـ3)

إن ساحات الاحتجاج تتحول إلى مسلخ بشري في منطقتنا، وتُجابه بردّة دكتاتورية عنيفة؛ فالربيع العربي لم يسلم من هذه الردّة، رغم الطاقات الشبابية الهائلة، إذ جُوبه باستبداد جديد، وتخلّف سياسي جديد، وكأننا لم نفعل شيئًا. المهم، يبدو أن آليات الاحتجاج المُتّبَعَة لا تجدي نفعًا؛ فمزيد من الاحتجاج، أعني بصورته الكلاسيكية، يعني مزيد من الاغتيالات، التي سيعمّها النسيان بعد أيّام معدوداتٍ، وتغدو ذكريات، وعبارة عن صور نضعها في صفحاتنا الشخصية، وتُنسى عوائل الشهداء، أو بتعبير محمود درويش "تنسى كأنّك لم تكن". والنسيان في ثقافتنا ذاكرته ممتدة وواسعة وتغطي أحداث وأشخاص ومواضيع كثيرة. فلنتذكر حجم الكوارث التي حدثت في السنين الماضية، ونتذكر معها حجم الوعود، وحجم لجان التحقيق المزعومة، أين النتائج؟ لا توجد.. لقد اختفت في ظلام العدم ولم تر النور ثانية، فكيف بناشط أو إعلامي يسقط صريعًا مُضَرّجًا بدمائه من قبل قاتل مجهول؟!

ثمّة خطوة لا بد منّها، تتعلّق بالقوى المنضوية تحت لواء تشرين، وهي الاندماج في تنظيم سياسي واحد، لتحقيق أكبر سقف ممكن من الشرعية السياسية والشعبية، وتوسيع قاعدة الجمهور الموالي لحركة تشرين. أعتقد أن الفائدة الأساسية من وجود حزب تشريني، ليس للاحتجاج الكلاسيكي، ولا لاجترار الآليات، التي تبدو غير نافعة، بل لتحديد هوية الحزب السياسية، وتأطير شكله السياسي، والحصول على منصة إعلامية. فهذه السمات هي الخطوة الأولى لبلورة مشروع سياسي يحسب لخطواته ألف حساب. وقد تنعكس الفوائد لاحقًا، ونقطف ثمار هذه الخطوات. أما الحلم بالتغيير الآني، فهو، في الحقيقة، ليس حلمًا بل هذيان. وأنا لا أتهم الجميع بهذه الصفة، بل بعض الحالمين الذين أغرتهم مواقع التواصل الاجتماعي بشيء من الخفّة والحماس الزائد. وأحسب أن شباب تشرين تعوزهم العلاقات الاجتماعية المتينة، وهذه تحدث عن طريق الفعاليات والانشطة الاجتماعية المتنوعة. العلاقات المتينة ستؤسس قاعدة صلبة في المستقبل بلا أدنى شك، وستعمق روح التعاون بين الشباب.

سيتراكم بمرور الوقت رأس مال رمزي عظيم للغاية، وهو كسب ثقة الناس، فخسارة هذه الأخيرة تعني الانتحار السياسي. وأظن الكثير يفهم الجمهور السياسي العراقي؛ فهو سريع الغضب، متقلّب المزاج، يمكنه أن ينقلب عليك في أي لحظة (ما عدا الجمهور العقائدي الممسوك جيدًا). ليس لأنه مجبول على هذه الصفات بشكل حتميٍ، بل هو نتاج مسيرة سياسية حافلة بالدم والدموع؛ إنه وريث عقود مؤلمة من الاستبداد. إن المكسب الثمين والأرض التي سنقف عليها بقوة، هي ثقة الجمهور. وعلي هنا أن أذكّر: انتهت حركة "المدنيين" في الانتخابات السابقة، بعد أن تم الالتفاف عليها من قبل القوى المهيمنة، وأشركت هذه الأخيرة بعض الجماعات معها في الانتخابات باسم المدنية. وبنفس الطريقة، تعمل القوى المهيمنة حاليًا على زج البعض معها في الانتخابات باسم تشرين. وبمرور الزمن سيتم التشكيك بشرعية كل من يتبنى تشرين، وتغدو هذه الأخيرة حصصًا موزعة ومتناثرة على أسماء كثيرة: فلان يمثل تشرين، فلان لا يمثل تشرين، هذا التنظيم يمثل تشرين، وذاك لا يمثل تشرين، وهكذا دواليك. فمن الضروري الحفاظ على هوية تشرين ومكاسبها السياسية والاجتماعية، تحسبًا من مخاطر المستقبل ومفاجآته غير السارّة، وبالخصوص حين تكون في بلدٍ مثل العراق.

الشيء الذي يؤلمني شخصيًا هو إننا نستنزف الكثير من الزمن والطاقة ونكرر ذات التجارب. قد يبدو الأمر هيّنًا على المستوى الفردي فالنتائج المؤلمة يبقى تأثيرها محصورًا بالتجربة الشخصية بشكل عام، لكن حينما تنتقل التجربة من نطاقها الفردي الضيق وتتخذ مساحة اجتماعية واسعة وتتعلق بالصالح العام فستكون عواقبها وخيمة بالتأكيد. لذلك ليس كل حركة تفضي بنا إلى نتائج مغايرة، بل قد نبقى معلقين وسط الدائرة المغلقة: ذات الأخطاء وذات السلوكيات المتشابهة وذات التعالي عن التجربة العملية وذات الأثمان الباهظة. ترى لماذا لا نتعلم من أخطائنا؟ إنها العادات التي أضحت جزء من حياتنا الفردية والاجتماعية، وهي ذاتها من تقهرنا بتكرار ذات النتائج. قد يبدو الأمر مبالغ فيه بتوجيه الكلام لشباب لم يتجاوز عمرهم السياسي عامين! وهذه ملاحظة محقة، غير أن التجارب الماضية عادت بقوة وبنفس الحماس السابق والإصرار على التكرار! وهذا ما أخشاه على أصدقائي، أخشى أن يضعوا التجارب الماضية وراء ظهورهم.. لكن إن لم تعلمنا التجربة فمن أين نتعلم؟

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

التشرينيون مرة أخرى (2-3)

تشرين.. قلب واحد وعقول متعددة