لم يمض الكثير من الوقت على انتعاش الملاعب العراقية، ورفع الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" الحظر عن الملاعب العراقية في ثلاث مدن "أربيل والبصرة وكربلاء"، على أمل أن تدخل العاصمة بغداد خلال الفترة المقبلة "الدائرة الخضراء"، فيما عمل اتحاد كرة القدم على إقامة عدد من المباريات الدولية لكسب ثقة المنتخبات لمواجهة التسويق الإعلامي بشأن انهيار الوضع في العراق، كان ثمارها إقامة بطولة غرب آسيا لكرة القدم على ملعب كربلاء الدولي، بمشاركة فلسطين واليمن وسوريا والأردن والكويت ولبنان والسعودية والبحرين.
شهدت افتتاحية بطولة غرب آسيا فعاليات فنية شاركت فيها مجموعة من الفتيات عبر تقديم عرض راقص، بالإضافة إلى عزف للنشيد الوطني العراقي على آلة الكمان
احتضن ملعب كربلاء الدولي مباراة الافتتاح بين المنتخبين العراقي واللبناني، وتولت شركة لبنانية تنظيم فعاليات الاحتفال، وبحضور رسمي رفيع المستوى، حيث شهد الحفل فعاليات فنية ومسرحية شاركت فيها مجموعة من الفتيات عبر تقديم عرض راقص، بالإضافة إلى عزف للنشيد الوطني العراقي على آلة الكمان أدته العازفة اللبنانية جويل سعادة.
عزف النشيد يثير جدل "القدسية"!
كان الحفل مبهجًا ومميزًا مقارنة بالظروف العراقية بحسب نشطاء كتبوا ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما امتلأت المدرجات بالعوائل العراقية، الأمر الذي لم يشهده العراق كثيرًا في سنوات ما بعد الاحتلال الأمريكي.
وما أن انتهت المباراة بفوز العراق على لبنان، استنهض مسؤولون محليون وقيادات دينية وسياسية قانون "قدسية كربلاء"، الذي "يجرّم" أية أجواء احتفالية أو سماع الأغاني في الأماكن العامة، كما يحظر دخول النساء غير المحجبات إلى المدينة، فيما دعوا إلى محاسبة القائمين على الحفل.
اقرأ/ي أيضًا: العصائب والمالكي ينتقدان انتهاك "قدسية كربلاء" بافتتاح غرب آسيا: لنا وقفة!
وبعد ردود فعل تراها وزارة الشباب والرياضة بأنها مفتعلة، أعلنت عدة مواقف، حيث أصدر ديوان الوقف الشيعي بيانًا اعتبر فيه ما حصل يمثل "فعلًا شنيعًا تجاوز الحدود الشرعية وتعدى الضوابط الأخلاقية".
أضاف الوقف الشيعي في بيان تابعه "ألترا عراق"، أنه "تلقينا ببالغ الأسف نبأ الانتهاك الصارخ لقدسية كربلاء المقدسة بما تضمنه احتفال افتتاح دورة رياضية في ملعب كربلاء"، لافتًا إلى أن "الوقف يعتزم رفع دعوى قضائية ضد وزارة الشباب بشأن تلك الفعالية".
في الأثناء، دخل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، والذي اجتاح تنظيم داعش المحافظات العراقية في وقت ولايته، على خط الاستنكار، وقال المالكي في بيان له، إننا "نستنكر وندين بشدة ما حصل في ملعب محافظة كربلاء المقدسة خلال افتتاح بطولة غرب آسيا، والتي رافقها حفل موسيقي راقص يعدّ تجاوزًا على حرمة المدينة وهتكًا لقدسية مدينة الإمام الحسين".
ناشطون تذكروا حفلًا سابقًا تم برعاية المالكي، إذ حضرته مادلين مطر وغنت فيه، مشيرين إلى أن تلك الحفلات كانت تقام على عهد المالكي بشكل طبيعي، لافتين إلى أن المالكي الآن، وبعد أن تراجعت شعبيته سياسيًا يحاول استقطاب مشاعر الناس بما يسمى "القدسية".
لكن موقفًا مغايرًا لسلسة المواقف الرسمية الرافضة للحفل، سجله عضو مجلس محافظة كربلاء، محمد حميد الموسوي، قائلًا إن "قدسية كربلاء المتأتية من وجود ضريح أبي عبدالله الحسين وأخيه العباس لهو أمر بعيد عن الجدال ولا غبار عليه، ونحن هنا لا نود أن نخوض كما خاض الجميع حول وجود كثير من الحالات التي تحتاج إلى معالجة ووجودها يتعارض أيضًا مع معنى القداسة، وأنه بحال وجود خطأ ما فلا ضير إن تم استحداث خطأ جديد".
أضاف في بيان تابعه "ألترا عراق"، "لم نرَ في حفل الافتتاح ما يخدش الحياء، ولم يتضمن ما يسيء إلى الآداب العامة، بل على العكس تمامًا فقد كان الإعداد رائعًا وإخراج كربلاء كحاضنة لكل الأطياف أروع، ولذا سعينا في إنشاء معلمًا مهمًا مثل "ملعب كربلاء الدولي"، وكلمة الدولي تعني: إنه لا بد له أن يستقبل القادمون من أرجاء المعمورة كافة".
من المسؤول؟
الجميع تقاذف كرة النار وحاول أن يبرئ ساحته من المسؤولية في التنظيم والعلم بتفاصيل الحفل، حيث أصدرت حكومة كربلاء بيانًا نفت فيه أي دور لها في إعداد برنامج افتتاح الحفل، قائلةً "تحفظنا على فقرات معينة من هذا البرنامج بكتابنا المرسل لوزارة الشباب والرياضة وإلى الاتحاد العراقي لكرة القدم".
عضو مجلس محافظة كربلاء: لم نرَ في حفل الافتتاح ما يخدش الحياء، ولم يتضمن ما يسيء إلى الآداب العامة، بل على العكس تمامًا فقد كان الإعداد رائعًا
وزارة الشباب والرياضة أوضحت أن الحفل نظمه اتحاد غرب آسيا، والوزارة هي من وفرت الدعم اللوجستي للاتحاد"، بينما أشار مدير عام العلاقات في وزارة الشباب والرياضة أحمد الموسوي إلى أن "الحفل لم يخرق أي قانون عراقي، ومسألة القدسية هي محفوظة لدى الوزارة وتراعيها في كل فعالياتها، ولن تقبل المزايدة من قبل بعض الجهات على ذلك، فنحن والجمهور الرياضي نعرف قدسية المحافظة، ولها اعتبار خاص لدينا".
اقرأ/ي أيضًا: قانون قدسية كربلاء.. "لمدينة أحلى وأجمل" بلا حياة!
أضاف الموسوي في تصريح صحفي تابعه "ألترا عراق" أن "ملعب كربلاء دولي ويشهد على الدوام فعاليات رياضية، بحضور وفود عالمية، وغالبًا ما يكون هناك جماهير وبالتأكيد النساء غير محجبات، فليس هناك قانون يوجب ارتداء الحجاب، وما حصل من ضجة هي بالتأكيد مفتعلة، خاصة وأن مسألة القدسية لم توضع لها قوانين واضحة".
وأكد الموسوي أن "الوزارة تتبع القوانين العراقية، وخصوصيات المدن، وقدمنا لاتحاد غرب آسيا مذكرة وإيضاح بواقع محافظة كربلاء، وطبيعتها، وبالفعل تم الالتزام، حتى أن موسيقى لم تكن موجودة في الحفل، إلا عزف النشيد الوطني، الذي يُعزف في كل مباراة تقام على أرض الملعب".
أي قدسية؟
ضجت مواقع التواصل الإجتماعي بالحديث عن ماهية "القدسية" في ظل تعاليم ومناقب آل البيت الذي ينادي الجميع بضرورة احترامها، في حين يعجز دعاة "القدسية" عن توفير أبسط مقومات العيش الكريم، بالإضافة إلى حالات القتل والانتهاكات التي تحصل في المدن المقدسة.
الصحفي ورئيس جمعية الدفاع عن حقوق الصحفيين، مصطفى ناصر استذكر الانتهاكات التي تعرض لها المواطن في كربلاء، قائلًا إن " أبشع انتهاكين شهدتهما كربلاء وصمتت إزائها كل الأحزاب السياسية، مقتل المدرب محمد عباس على أيدي قوات "سوات" عندما كان السيد نوري المالكي قائدًا عامًا للقوات المسلحة".
أضاف ناصر بمنشور على صفحته في فيسبوك ورصده "ألترا عراق"، أن "مقتل الطفل حسين مازن عندما عذبه الشرطة لأنه كان يتسكع، فانهار من الضرب ونزف داخليًا حتى الموت، وكان الضابط المتورط بالقتل هو أحد أقرباء المالكي وينحدر من منطقة طويريج"، لافتًا إلى أن "هذان الموقفان حصلا في مدينة الإمام الحسين، الثائر ضد الظلم والطغيان".
وتابع ناصر أن "ما تسموه "قدسية كربلاء" يظهر مزاجية سياسية بالتعامل مع الأحداث، فلظهور فتاة سافرة عزفت النشيد الوطني فقط ليس أبشع من قتل شخصين بريئين، أو ليس سفك دم إنسان مسلم أعظم عند الله من هدم الكعبة؟، اليس هذا دين محمد والحسين؟ أم دينكم يختلف؟".
وعلق الشاعر والإعلامي فارس حرام بمنشور على صفحته في "فيسبوك"، أن "علامات المنافق ثلاث، إذا حكم العراق انشغل بأنفه، وإذا فشل في ولايتين أراد الثالثة، وإذا سأله الناس عن سبايكر يبكي على قدسية كربلاء"، في إشارة إلى نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق.
فيما تداول ناشطون صورًا وتسجيلات فيديو توثق انعدام الخدمات في المحافظة وتعكس الفقر والبؤس الذي يعانيه المواطنين، معلقين "من هنا تبدأ القدسية"، بينما استذكر بعضهم قتل الكاتب والروائي علاء مشذوب، مشيرين إلى أن دماءه لم تهتك "قدسية المدينة".
تداول ناشطون صورًا وتسجيلات فيديو توثق انعدام الخدمات في المحافظة وتعكس الفقر والبؤس الذي يعانيه المواطنين، قائلين: "من هنا تبدأ القدسية"
وتسائل الصحفي مهند الغزي عن معيار القدسية مقارنًا بين كربلاء ومدن تحوي على مراقد مقدسة، قائلًا " رجعتونا لأيام الخرائط، المسافة من ملعب الشعب إلى الإمام الكاظم تقريبًا 10 كم، والمسافة من ملعب كربلاء إلى الإمام الحسين تقريبًا 6 كم".
أضاف بمنشور على صفحته في "فيسبوك"، "يعني هذه الـ4 كيلوات تفرق بالقدسية؟، مبينًا "ليتكم تجعلون مقياسًا للقدسية، يعني مثلا تقولون 5 كم لو 10 لأن مستحيل محافظة كاملة تعتبر مقدسة، مشيرًا إلى أن "بغداد ـ بحسب منطقكم ـ كلها مقدسها، وصلاح الدين كلها مقدسة".
في مواجهة ردود الفعل الرسمية اتجه التفاعل الشعبي إلى "السخرية"، حيث أضاف مدونون الحجاب والنقاب إلى صور العازفة ومؤديات الرقصات الفلكلورية في حفل الافتتاح بواسطة برامج تحرير الصور.
فيما وثقت الكاميرا لقطة أخذت حيزًا ضمن ردود الفعل على الحفل، حيث كان هناك رجلًا وقف خلال عزف النشيد الوطني مؤديًا التحية العسكرية وعيونه تدمع، وسرعان ما تداولت صحفات الفيسبوك صورة أخرى للرجل وهو يمارس إحدى طقوس أحياء ذكرى وفاة الإمام الحسين.
الكاتب والصحفي أحمد عبد الحسين علق على الصورة، قائلًا "حين كان النشيد الوطنيّ العراقيّ يُعزف على آلة الكمان في ملعب كربلاء، كان هذا الرجل، من لحيته غير الحليقة أعرف أنه ملتزم دينيًا، وربما قدم إلى الملعب بعد زيارته الإمام الحسين مباشرة، من تقاسيم وجهه أعرف أنه طيّب وملتزم أخلاقيًا، من شيبه وتعب ملامحه أعرف أنّه عاش طويلًا أهوال العراق حروبًا وحصارًا واقتتالاً أهليًا، من بساطة ثيابه أعرف أنه فقير. ومن تحيّته أعرف أنه كان جنديًا تحمّل وزر العراق الذي لا يخرج من حرب إلا ليدخل في أخرى. ومن دموعه أعرف أنه يعشق وطنه".
أضاف بمنشور على صفحته في "فيسبوك" أن "الصورة تقول إنه لم يكن خارج العراق، لا يتقاضى راتب مجاهدين مليونيًا ولا راتب مهاجرين. ومع ذلك كلّه يحبّ العراق الذي لم يمنحه إلا الشيب وتعب الملامح والثياب البسيطة والنشيد الوطنيّ".
أشار عبد الحسين إلى انه "يعرف فقهاء كبارًا وسياسيين ورجال دين يتقاضون رواتب مجاهدين ومهاجرين، كانوا ـ لحظة عزف النشيد الوطنيّ ـ يتفرّسون في منحنيات جسد الفنانة الجميلة التي تعزف نشيد وطنٍ لا يحبونه".
ويرى مراقبون أن حديث "القدسية" الذي تبنته قوى سياسية هو يعبر عن أزمة المنجز عندهم، إذ أن فراغهم من المنجز في بناء الدولة والاقتصاد والاستقرار، يجعلهم يلجأون لاستنهاض مشاعر الناس من خلال هذه الأحاديث، آخرها الاعتراض على افتتاحية بطولة آسيا.
اقرأ/ي أيضًا: