كان يومًا شديدًا على العراقيين. مع حلول العاشر من حزيران/يونيو 2014، استيقظوا على سقوط ثاني أكبر مدينة في البلاد على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش". إنها الموصل، مركز محافظة نينوى، التي تحوّلت إلى منطلق لداعش للسيطرة على محافظات ومناطق أخرى في العراق.
لم يعرف كثيرًا من العراقيين الذين حاربوا داعش، أن دماءهم ستكون منجزًا انتخابيًا كبيرًا للقوى السياسية المشاركة في الانتخابات العراقية
كان المتحكمون في العملية السياسية ببغداد، لا يعرفون ما يجب عليهم القيام به. كانوا خائفين، وكانوا يدلون بتصريحات "نارية"، كلما اشتدت حماستها، كان التنظيم سيطر على مزيد من المساحات الواسعة.
اقرأ/ي أيضًا: كيف أدار داعش "دولة" سكانها 12 مليون نسمة؟.. وثائق الموصل تكشف "الخلافة" (3-3)
من رحم الخوف السياسي الذي هيمن على المشهد السياسي في المنطقة الخضراء، أكثر المناطق تحصينًا وأمانًا في العراق، والتي يقطنها جميع المسؤولين والسياسيين في الحكومة العراقية، خرج آلاف العراقيين لقتال داعش، خاصةً بعد فتوى السيستاني بـ"الجهاد الكفائي"، والتي أصدرها في 13 حزيران/يونيو 2014.
لكن العراقيين الذي قاتلوا داعش، لم يكونوا يعرفون أن دماءهم ستكون منجزًا انتخابيًا كبيرًا للقوى السياسية المشاركة في الانتخابات العراقية التي ستجري لأول مرة بعد أربع سنوات من ظهور داعش. لقد ألقي على عاتقهم مسؤولية فشل سياسي أفرزته 10 سنوات من التخبط والفوضى في إدارة الدولة.
وفي العاشر من كانون الأول/ديسمبر 2017، أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، انتصار العراق النهائي على داعش، واستعادة جميع الأراضي من سيطرة التنظيم. وكان هذا الإعلان قبل خمسة أشهر من انطلاق دعاية الانتخابات المقرر إجراؤها في الـ12 من أيار/مايو المقبل.
وفي منتصف كانون الثاني/يناير 2018، أي بعد ما يقارب الشهر على إعلان النصر على داعش، وحين بدأت التحالفات الانتخابية تتشكّل في المشهد العراقي، وفي خطوة جعلت الجميع في ذهول، دخل العبادي مع فصائل الحشد الشعبي التي شاركت في قتال تنظيم داعش أيضًا، في ائتلاف انتخابي موحد اسمه "ائتلاف نصر العراق"، وأطلق عليه المراقبون اسم "تحالف المنتصرون عسكريًا".
لم تمض ساعات على هذا التحالف، حتى أعلن قادة ائتلاف الفتح، وعلى لسان زعيمه هادي العامري، الانسحاب رسميًا من ائتلاف النصر، والمشاركة في الانتخابات بشكل منفرد، ليخوض المنتصرون عسكريًا، الانتخابات كل على حدة، بتنافس مُعلن على من هو أحق في تمثيل النصر.
الصراع على استثمار النصر انتخابيًا
في شوارع العراق، أينما تسير ستجد ملصقات انتخابية، مكتوبًا عليها أسماء القوائم والمرشحين، مع الإنجازات التي يدّعون أنهم حققوها، أو التي يطلقون الوعود في تحقيقها بعد أن يحصلوا على مقاعد البرلمان في الدورة المقبلة. لكن اللوائح التي استخدمت النصر على داعش كمنجز انتخابي، كانت الأبرز والأهم في المعركة الانتخابية.
التحالف الذي يرأسه حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، حمل اسم "تحالف النصر"، في إشارة إلى النصر على داعش، ومحاولة استثمار هذا "الرأسمال المعنوي" الذي يحمل أهمية كبيرة للعراقيين بسبب المعاناة التي لاقوها في وجود التنظيم. وتحت يافطة وضعت عليها صورة العبادي وتحالفه، كان مكتوبًا أسفل هذا الملصق: "هزيمة داعش"، مع صورة يرتدي فيها العبادي الزي العسكري للجيش العراقي، والذي ارتداه حين أعلن النصر عام 2017.
وقد حملت لافتة دعائية أخرى حرف "ن" في إشارة لكلمة نصر. لكن مراقبين يرون أن حرف النون في هذه اللافتة ربما يحمل تذكيرًا للمسيحيين بمأساتهم واستفزاز ذاكرتهم، إذ في ظل سيطرة داعش على الموصل وغيرها، كان التنظيم يصادر منازل المسيحيين، ويعلمها بحرف "ن"، إشارةً لكلمة "نصارى".
أما تحالف الفتح، الجناح السياسي لفصائل الحشد الشعبي، والذي تشكل عام 2018 للمشاركة في الانتخابات المقبلة، وهو يضم أغلب فصائل الحشد الشعبي التي ساهمت في قتال داعش، برئاسة الأمين العام لمنظمة بدر، هادي العامري؛ فقد وضع التحالف صورة أسد في الشعار الرسمي الخاص به، في إشارة أيضًا إلى "سطوة المنتصر"، مع كلمة فتح، اسم الائتلاف، الذي لا يخلو من الدلالات التراثية الواضحة.
وعلى مستوى الشعارات، فقد حمل شعار قائمة "الصادقون" التابعة لتحالف الفتح، والجناح السياسي لحركة عصائب أهل الحق المسلحة، شعار "حُماة بُناة"، إشارة أيضًا إلى "النصر على داعش" في كلمة حُماة.
تعتمد الأحزاب السياسية في العراق على الزبائنية السياسية في تجديد بقائها بالسلطة، بالتعيينات والهبات التي تقدمها لجمهورها
لا يتوقف الأمر عند ذلك، فالناطق الرسمي باسم الحشد الشعبي، والنائب في البرلمان العراقي، أحمد الأسدي، حملت دعايته ضمن تحالف الفتح، صورته وهو مصاب في المعارك ضد داعش، مع مسلحين يقفون وراءه، في إشارة واضحة إلى أنه كان مقاتلًا ومشاركًا في "النصر" الذي حقّقه العراق على داعش. ومن جديد دخل الانتخابات لإكمال مسيرة "النصر" في مجلس النواب العراقي!
اقرأ/ي أيضًا: العراق.. بيئة خصبة للإفلات من العقاب
وقد نُشرت صور كثيرة عن الفتح في شوارع بغداد، منها "من التحرير إلى التغيير"، وصور أخرى شاعت في مواقع التواصل الاجتماعي في الصفحات التابعة للائتلاف والمؤيدة له، كتب فيها من ضمن إنجازات الفتح، استجابة الحشد الشعبي لفتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها علي السيستاني، المرجع الأعلى في النجف، والتي كانت عبارة عن فتوى دينية أمر فيها اتباعه بأن يقاتلوا ضد داعش.
يذكر أن علي السيستاني أعلن في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 أن قوّات الحشد الشعبي لا ينبغي أن تشارك في الانتخابات، بحسب ما نشره الموقع الرسمي، ويوافقه في ذلك مقتدى الصدر، رجل الدين وزعيم التيار الصدري.
وفي حديثه لـ"ألترا صوت" يعتقد إياد العنبر، وهو أستاذ للعلوم السياسية في جامعة الكوفة، أن "الصراع مُعلن على محاولة استثمار النصر، وكلما اقترب موعد الانتخابات كلما برزت ملامح هذا الصراع بصورة جلية".
ويرى إياد العنبر، أن "الصراع تحوّل إلى تنافس على منصب رئيس الوزراء وتحت عنوان النصر على داعش، فهادي العامري رئيس تحالف الفتح يعتقد بأن لتحالفه الأولوية لاستثمار النصر، على اعتبار أن التحالف يضم فصائل الحشد الشعبي التي قاتلت داعش. وكذلك العبادي لا يرى منافسًا له إلا تحالف الفتح".
مطلب الحشد لرئاسة الوزراء المقبلة، انتشرت أصداؤه حتى في مواقع التواصل الاجتماعي التي وجدتها القوى السياسية أرضًا خصبة للدعاية الانتخابية، والمطالب السياسية التي تريد أن تأخذ طريقها إلى الجماهير بشكل طبيعي.
ونشرت صفحات كثيرة، رصدنا منها ستة منشورات مموّلة في وقت واحد، كتبت بنفس الطريقة وبنفس الصياغة، تقول إنه نقلًا عن شبكة "إيه بي سي نيوز" الأمريكية، فإن "تحالف الفتح بقيادة هادي العامري، سيحصد أغلبية أصوات الناخبين وحظوظه كبيرة لتشكيل الحكومة المقبلة". لكننا لم نجد أثرًا لهذا الحديث على شبكة "إيه بي سي نيوز".
غياب البرامج.. يحوّل "النصر" إلى برنامج
في أوقات الانتخابات، تنطلق أساليب كثيرة للدعاية، منها توزيع الهدايا والهبات للفقراء والمعدمين، واللعب على المشاعر الطائفية، وتخويف الناس من عودة البعث، وكذلك توزيع سندات الأراضي الوهمية، كما حدث في الانتخابات السابقة. ولجوء القوى السياسية إلى هذه الطرق ناتج عن عدم امتلاكها لبرامج سياسية بالإمكان ان تستقطب الناخب وتكسب ثقته.
"هذه الأحزاب والتحالفات، لا تهتم بالبرامج السياسية"، يقول إياد العنبر، موضحًا: "لأنها مدركة جيدًا أن الكثير من الناخبين لا يهتمون بالبرامج السياسية، فهذا الاهتمام نخبوي إلى حد ما في العراق". وهذه الأحزاب تعتمد على ما أسماه العنبر بـ"الزبائنية السياسية"، في تجديد بقائها في السلطة، وذلك من خلال التعيينات والهبات التي تقدمها لجمهورها من خلال سيطرتها على المناصب التنفيذية، على حد قوله.
يُمكن القول إن الحرب على داعش، شكلت فرصة استثنائية لتجديد بقاء هذه الأحزاب بالسلطة، خصوصًا وأنها تفتقد لأي منجز خدمي أو سياسي قادرة على تقديمه للجمهور.
من يحق له تمثيل "النصر"؟
وفي حمى هذا التنافس الانتخابي، يطلق المراقبون للشأن العراقي سؤالًا عن القائمة التي لها الحق في تمثيل النصر واحتسابه لها كمنجز انتخابي يؤهلها للوصول إلى قبة البرلمان، خصوصًا وأن معظم مدّعي المشاركة في تحقيق هذا النصر، هم أنفسهم كانوا مشاركين في مسار العملية السياسية قبل ظهور داعش، والتي مهدت الطريق بشكل أو بآخر للتنظيم المتشدد.
"لا يوجد ائتلاف له الحق في احتكار النصر"، يقول إياد العنبر، مؤكدًا أن "جميع من كانوا شركاء في السلطة قبل 2014، يتحملون مسؤولية سيطرة داعش على ثلثي مساحة العراق في تلك الفترة، بسبب فساد وسوء إدارة أحزاب السلطة التي كانوا جزءًا منها".
وفي حين أن حكومة العبادي تنسب لنفسها الفضل في النصر على داعش، فإنها لا تزال عاجزة عن معالجة مشكلة تعويضات الشهداء والضحايا، بالإضافة إلى إعادة إعمار المناطق المحررة من داعش.
جميع من كانوا شركاء في السلطة بالعراق قبل 2014، يتحملون مسؤولية صعود داعش وسيطرته على ثلثي مساحة العراق آنذاك
حينما تتجوّل في المناطق الفقيرة في بغداد والجنوب، في المدن التي قدمت الشهداء أثناء القتال ضد داعش، تجد دعايات كثيرة لهذه القوائم المتنافسة على النصر، دعايات معلّقة على بيوت الصفيح التابعة لذوي الضحايا الذين سقطوا في المعارك، ولم يسأل عنهم أحد بعد نهايتها. إنهم "منشغلون بالانتخابات أو دعوتنا لانتخابهم"، كما تحدثت في ذلك إحدى نساء تلك المناطق التي فقدت أحد أبنائها في قتال داعش.
اقرأ/ي أيضًا: