أمس تابعت برنامجًا حواريًا رائعًا في إحدى القنوات العالمية عن نظرية المؤامرة بين الشرقيين والغربيين، والخلفية انتشار وباء كورونا وكيف تعاملت معه الشعوب. لقد قيل ما قيل حول هذه الفكرة، وكان ثمة شبه اتفاق على إن نظرية التآمر شائعة عند الناس بغض النظر عن مستوياتهم الثقافية. كثيرٌ من الأمريكان مثلًا يؤمنون بأن الصين صنّعت الوباء كجزء من حرب بيولوجية لتدمير اقتصاد الولايات المتحدة. مقابل هذا، رأى بعضهم، في بدء الوباء، أنّ الأمريكان هم من صنعوه لتحطيم اقتصاد الصين. غير أن الأطرف من هذا وذاك اعتقاد شريحة كبيرة من العرب أن الوباء مصنّع ضدهم خصيصًا، أو أنه كذبة تعمد لها الحكومات والإعلام لإلهاء الشعوب أو للخلاص من مسنيها. وفي وضعنا العراقي الملتهب، قيل في أول أيام الهلع إن دعوات السلطة لمنع التجمهرات ما هي إلا ذريعة لتفتيت التظاهرات الاحتجاجية.
نعم، نظرية المؤامرة من أرسخ النظريات عند البشر عمومًا لكنها عندنا نسق أساسي. تعمل في جميع المجالات، وتعكس عجزًا مزمنًا في العقل الجماعي عن تحديد الخصم الحقيقي المسؤول عما نمر به من أزمات وهزائم. هي حل لا أسهل منه لتفسير مشاكلنا. كلّ مشكلة، كلّ حرب ومأزق سياسي أو اقتصادي، اجتماعي أو ثقافي، كلّ شيء يمكن أن نعزوه لتلك القوى التي تتآمر علينا. والغريب أن هذه النزعة تتعاظم عند صنّاع الرأي العام والمثقفين. لا بل إن النزعة تحوّلت إلى استراتيجية أنظمة سياسية كما هو الأمر في مصر والعراق وسوريا وليبيا يوم كانت تحكمها آيديولوجيات قومية مهجوسة بتآمر الآخر. أثناء تنقيبي في وثائق الثقافة العراقية اكتشفت أن كبار الأدباء والباحثين آمنوا بهذه النظرية. لقد فسروا بها مثلًا ظهور بعض التيارات الأدبية كحركة الشعر الحر وقصيدة النثر والأدب الوجودي وأدب العبث واللامعقول. إن باحثة عقلانية كبيرة وشاعرة مجددة مثل نازك الملائكة كانت قد وضعت المؤامرة على رأس فرضياتها وهي تحلل ظواهر أدب الحداثة، ووصل بها الأمر إلى الاحتكام لمعايير أخلاقية تميّز بها الأدب. فالأدب الحقيقي، الجدير بالاحترام هو ذلك الذي ينطلق من القيم العربية الأصيلة الموروثة، بينما الأدب "السافل" المنحط وغير الأخلاقي فهو ذلك الذي ينطلق من قيم غربية وافدة باجندة تآمرية بهدف نخر قيمنا وأصالتنا. وفي مؤتمر الأدباء العرب الخامس الذي عُقد ببغداد عام ١٩٦٥ قدمت (الملائكة) بحثًا خلاصته أن هناك تيارًا شعوبيًا نشط في العصر الحديث لـ"قتل المعنوية العربية وإحلال المعنوية الغربية محلها ويكادون اليوم ينجحون في ذلك". ليس هذا فحسب، فاللغة العربية ابتليت "في هذا القرن بكثير من الدعوات المشبوهة التي نادى بها مغرضون يضمرون الشرّ للعروبة ولغتها، فرددها من العرب طائفتان، طائفة الشعوبيين الذين يقصدون أضعاف العربية وطائفة البسطاء الذين تخدعهم الحرية والتجديد فيسيئون دون قصد".
في السبعينيات إبان تسلم البعث السلطة، تحولت نظرية المؤامرة إلى استراتيجية لصنع ثقافة جيل بأكملها. فالتآمر شيء مفروغ منه، وهناك قوى أمبريالية لا تتوقف عن "تجنيد" المثقفين عبر مؤسسات "مشبوهة" لتحطيم ثقافة الأمة. وفي إحدى الندوات التي دعي إليها في مركز شباب الأعظمية، قسّم الشاعر الراحل شفيق الكمالي، وكان وزيرًا للثقافة والإعلام، الأدباء الحداثيين إلى فريقين: الأول مارس العبث ليقال إنه مجدد، و"هذا الفريق بسيط وساذج" يهدر طاقاته فيما لا طائل وراءه. أمّا الفريق الآخر فإنه "يروج لهذا الأدب وهو يعلم مقدار خطورته على حياة الأمّة والشعب، ولكنه مهيأ من الدوائر الإمبريالية لهذا العمل، مدفوع إليه". نشر ذلك في مجلة (ألف باء) العدد (168)، وما كان للحديث أن يمضي من دون التلميح إلى تلك المؤسسات المشبوهة التي سقط الشباب في أحابيلها و"حاول الاستعمار عن طريقها أن "يشيع مفاهيم ظاهرها الرفض وباطنها أشنع من اليمينية".
نعم، أيّها المتآمرون، أهلاً بكم دائمًا، فحياتنا من دونكم دون طعم. أنتم موجودون خلف الأفق، وراء الغيوم، تحيكون الخطط لتدميرنا، بالشعوبية واللامعقول، بالسوريالية والغرائبية، بالأمراض والأوبئة، وآخرها فيروس الكورونا اللعين.
اقرأ/ي أيضًا: