كلما تقترب من فهم الواقع تبتعد منك الناس وتصاب بالنفور والعدوانية. ليسوا لأنهم أشرار في الجوهر وإنما لأنهم معتادون! وهذا الاعتياد يشكل جوهر وجودهم. متى ما أدركوا أن وجودهم الذي يتشبثون به هو وجود مزيف ويضاعف من معاناتهم، ففي هذه اللحظات ينشأ الفهم والانفتاح وتخفت عدوانيتهم. لذا أصعب موقف يمر به الإنسان حينما يقوم باقحام الآخرين في فهم الواقع رغمًا عنهم. نحن نطلب من الناس أشياء ثقيلة للغاية ونستفزهم بأثمن شيء، وهو التخلي عن عاداتهم العزيزة على قلوبهم.
الجمهور السياسي في العراق ابتلعته الميديا وصارت نشاطاته في "فيسبوك"
لا أحد يتبرع بسلخ جلده وهو على قيد الحياة! وفي بعض الأحيان يحلو لنا، في العالم الأزرق، وهنا مكمن الجرح، أن نلعب دور "المفكرين"، حيث يتوهم الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي على أنهم صنّاع راي، أو هكذا يتمنون، لكنهم ليسوا كذلك على الإطلاق. يتخيل المدون أنه سيقلب الوضع، ويحرك الجمهور للجهة التي يريد لمجرد أن يدلو بدلوه حول هذا الموضوع أو ذاك. أكثر من ذلك، يأخذه الزهو بعدد الجمهور الذي يتفاعل مع ما يكتب. والحق أنه جمهور وهمي لا يعول عليه في المنعطفات المهمة. المشكلة قد تهون عند هذا الحد، فهي أوهام لذيذة يتعلق بها من يحتاجها، وتشكل له سلوة وعزاء تعوض وترمم له بعض الأعطاب. لكن الحال تعدى هذه المرحلة؛ فثمة صراعات شخصية وصلت لحد التهديد والطعن بالقضايا الشخصية، وتخوينات ليس لها قيود. والمضحك في الموضوع أن هؤلاء لا أحد يعرفهم خارج معتقلهم الأزرق "فيسبوك"، وليس لهم وزن يذكر في الواقع. وهم مستعدون للتفوه بأي حماقة مقابل البقاء على جمهورهم المُتَخَيَّل.
ومن جانب آخر، أنّ الجمهور السياسي العراقي المعارض جمهور ابتلعته الميديا. وقد حدد نشاطاته في هذا المعتقل الأزرق. تسقيط، تخوين، تهكم، عدائية، تقلب، معارك شخصية، تذمر، لا مبالاة، عدمية، ولا جدوى. إنه جمهور لا يقبل لا بأنصاف الحلول، ولا بربعها، ولابثلثها. جمهور ثائر راديكالي، لكنه يفتقر لأبسط الأدوات. جمهور يطالب بالحرية والديمقراطية لكنها تغيب غيابًا تامًا في سلوكه الاجتماعي والسياسي. الحماس والشعبوية هي نقطة الارتكاز الرئيسية التي يلوح بها عند كل منعطف سياسي. جمهور يحاول أن يوهم نفسه أن "فيسبوك" يمكنه أن يقلب نظام الحكم! وهنا لايسعني إلا أن أكرر حزني مرة أخرى وجرحي الذي لم يندمل على شبابنا الذين سقطوا غدرًا وذهبت تضحياتهم أدراج الرياح.
على أي حال، الميزة الوحيدة التي يمكن لنا التخذلق بها هو نزاهتنا من الفساد. لكن التجريد المنطقي لا يسعفنا، بقدر ما تكون تجربة السلطة هي المحك الاساسي في نزاهتنا من عدمها. لا يمكن الاطمئنان للشعارات التي نطلقها عادة في كل منعطف سياسي بوصفنا معارضين للفساد السياسي، وبالخصوص التشكيلات السياسية الجديدة. كل الأسماء اللامعة لا تعصمنا؛ سواء كنا "علمانيين" أو "دينيين"، فالحد الفاصل هو التجربة. لقد جرب الإسلاميون السلطة فوقعوا بين براثنها التي لا ترحم ومزقتهم شر ممزق. أما الآخرون فينتظرون في الطابور ليكشفوا عن دوافعهم بعد المشاركة في السلطة. لا أحد يحق له التميز إلا بعد الدخول في فلك السلطة. شخصيًا لا أعول على الشعارات ما لم تأخذ نصيبها من التجربة، وقد رأينا تنظيمات ناشئة كيف سقطت ضحية الجدل العقيم وتبخرت في مدة وجيزة بعد أن استهلكت نفسها ببيانات وخطابات جوفاء.
أزعم أنّ الحقيقة التالية بمنزلة البديهة: وهي أنّ "المجتمع" العراقي لا يندرج ضمن المجتمعات الحديثة، مثل الأحزاب، والنقابات، والهيئات، والمؤسسات، وغيرها. وبما أننا مجتمع ما قبل حديث، فتكون الطائفة، والقبيلة، العائلة، لاعبًا محوريًا في حقل السياسة. ويظهر أن الحركة الشعبية المعارضة لحكومة الفاسدين، متأثرة بشكل وبآخر بنمط مجتمعات ما قبل الدولة، لأنها ترفض كل أشكال التنظيم الحديثة، وترفض المشاركة الفعلية في السياسية، بل هي ترفض السياسة على الإطلاق! وهي بذلك تبرهن لنا أن نمط تفكيرها لا يختلف كثيرًا عن نمط التفكير القبلي حتى وإن ارتدت الجينز والأحذية اللماعة والقمصان الملونة. يتصور أحدنا أنه لمجرد الصراخ والانفعال سيميزه هذا السلوك عن الآخرين، ويتصور أنه لمجرد الانخراط مع غوغاء "فيسبوك" لشتمنا واتهامنا (كما يحدث دائمًا في كل هستيرية جماعية)، سيغدو مميزًا ومختلفًا وثوريًا. إن السياسة هي الحقل الأصدق والمختبر الدقيق للبرهنة على صحة شعاراتنا. لذلك، حينما تصل إلى السلطة وتنخرط مع الجماعة سنرى أفعالك الحقيقية. وبخلاف ذلك سنبقى جمهورًا افتراضيًا في أحسن أحوالنا.