رواية عبد الفتاح كيليطو الصادرة حديثًا عن دار المتوسط ـ إيطاليا، تتخفف كثيرًا من اشتراطات الرواية كجنس أدبيّ، وتتنصل منذ عنوانها من أية وعود للقارئ. لا توهمه بأنه أمام رواية تقليدية تتضمن "إقناعًا" يخلقه الإيهام في السرد القصصي والروائيّ. ما من إيهام هنا، ما دام الكاتب يجعل من عنوان الرواية قَسَمًا بالله على أن هذه حكاية "حكاية لا رواية" وأن هذه الحكاية هي الحكاية الحقيقية للكاتب.
نحن نلجأ للقَسَم حين نكون في وضعية انكاريةٍ، حين نكون في موضع اتهام ولا دليل يثبت براءتنا إلا مجرد الكلام الذي نأمل أن يدرأ الاتهام
في العنوان، بل في تقنية الكتاب عمومًا، نحو من أنحاء عمل جهاز قضائيّ. أليستْ "البيّنة على من ادعى واليمين على من أنكر"
اقرأ/ي أيضًا: قبل أن يقعَ الكلامُ على العالم
فنحن نلجأ للقَسَم حين نكون في وضعية إنكاريةٍ، حين نكون في موضع اتهام ولا دليل يثبت براءتنا إلا مجرد الكلام الذي نأمل أن يدرأ الاتهام. نقسم حين نفتقد البيّنة وحين نعجز عن الإتيان ببراهين تقنع من يستمع إلينا.
في السرد ـ كما في كل فنّ ـ يفترضُ الإقناعُ إيهامًا يؤديه الكاتبُ بصنوفٍ من الإعدادات الرئيسة والثانوية من مراكمة أحداث وشخوص ومواقف وعلاقات تكون بمجملها مرافعة ضمنية على الصدق المؤدي للإقناع. بيّنة الكاتب وبراهينه تستغرق عمله وتخترقه بلعب فنيّ، لأن الرواية لا تنطلق عادة من معطى إنكاريّ، فلا يكتب الكاتب روايته وهو محاصر بالتشكيك بنواياه وصدقه أو مجابه بالسؤال عما إذا كان يقول الحقيقة أم لا. حمولة كل رواية من الإيهام هي التي تحدد قدرتها على الإقناع من عدمها. غير أن كيليطو في روايته هذه يعلن منذ البدء أنه سيكسر الإيهام، سيتنصل من اللعب الفنيّ المفضي للإقناع بلعبة أخرى، هي لعبة الإنكار، لعبة من لا يملك حجة إلا كلمته أمام من يشكك به وبحكايته.
السؤال: لمَ لجأ كيليطو إلى كتابة إنكارية كهذه؟
وجدتُ أن جوابًا محتملًا يمكن أن نعثر عليه في جنبتين، الأولى فنية والأخرى موضوعية. أما الفنية فهي رغبته في اجتراح طريقة سرد تتواءم وإرثه الشخصيّ بوصفه مفكرًا، قارئًا بامتياز وباحثًا، فآثر أن يختصر على نفسه وعلينا الطريق من دون أن يمرّ بمنعرجات ودروب التقنيات الروائية التقليدية التي قد تكون مانعة له من أن يستثمر قراءاته وأبحاثه بشكل مباشر، بهذه الطريقة ترك لنفسه فرصة أن يتحرك بحرية تامة بوجهه الحقيقيّ ـ وجه المفكر. وحين تحين ساعة الحفلة التنكرية فإن قناع الروائيّ متاح له على الدوام.
أما الجنبة الموضوعية التي ألجأت كيليطو إلى كسر إيهامنا حتى قبل أن نشرع بقراءة روايته، فإنها تتمثل في أن الحكاية التي في روايته تتآلف مع الحكايات التي تختزنها مكتبته الداخلية العميقة التي هو سادنها، تشبه حكايا الليالي الألف، فهي حكاية عجائبية عن رجل يصطاد جنية بعد أن يسرق منها معطفها المصنوع من الريش فيجعلها غير قادرة على الطيران والعودة إلى ديارها.
إنّ حكاية فيها هذا القدر من "الوهم" لا يمكن للإيهام أن يعالجها، فالعجائبيّ الذي تشتمل عليه من شأنه أن يخلق استنكارًا وتشكيكًا واتهامًا بالكذب لا تصمد أمامه ضروب المرافعات الفنية التقليدية، لهذا آثر كيليطو أن يستبق ذلك التشكيك والاستنكار بالتقنية التقليدية التي يلجأ إليها المنكر أمام قضاته، لأن البيّنة على من ادعى واليمين على من أنكر.
المتتبع لأعمال وسيرة عبد الفتاح كيليطو يعرف أن هذا الرجل عاش حياته بين دفتي كتاب أكثر مما عاشها بين الناس، وهو في هذه الرواية لا يفعل شيئًا سوى تأكيد هذه الحقيقة، إذ لا حدود واضحة بين ما يحدث في العالم الواقعي وبين ما يحدث في بطون الكتب، كأنما هو يعيد إلى الأذهان الجهد الكبير الذي بذله المتصوفة وأرباب العرفان للمطابقة بين التدوين والتكوين، أو كأنما الكتاب والعالم يمثلان كونين موازيين "بالمعنى الذي يقترحه علم الفلك" وما يحدث في أحدهما سيتردد صداه في العالم الآخر. وخذْ أمثلة على ذلك:
شخصية حسن البصريّ الألفية تخترق الكتاب لتصل إلى الحاضر على هيئة حسن ميرو. والجنية التي تُصطاد هناك تُصطاد هنا. والحورية التي يحذّرون من النظر إلى عينيها في الليالي يجدها البطل في ليلة مقمرة على ساحل البحر في فرنسا ويحذر من أن تلتقي عيناه بعينيها. هكذا نلمس عبر الكتاب كله أن التدوين مؤثر في التكوين بشكل مؤكد. يكفي أن كتابًا للتوحيديّ "مثالب الوزيرين" يمتنع البطل عن قراءته لأن كل من قرأه أصابته كارثة وحلت به فاجعة.
لا حدود بين الكتاب والعالم، كما لا حدود بيّنة بين الماضي والحاضر، ولا بين ما هو عجائبي وما هو واقعيّ. كأنما يأخذ كيليطو على عاتقه إكمال المهمة الشاقة التي اضطلع بها كاتب الليالي الألف في خلق وعاء فنيّ يسع المتناقضات والأضداد.
الرواية على قصرها سياحة في المستحيل الذي يحدث على مقربة منا ولا دليل لنا عليه.
إنه عمل مبهر موقّع بيد سادنٍ في مكتبة أعماقه.
اقرأ/ي أيضًا: