تصدّرت الأخبار الواردة، أمس الثلاثاء، من مدينة الرقة، عناوين الصحافة العالمية، بإعلان قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مدعومًة من التحالف الدولي، سيطرتها على المدينة التي كانت عاصمة لـ"دولة خلافة" تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بعد معارك طاحنة استمرت نحو 139 يومًا استخدمت فيها كافة الأسلحة المتوفرة للطرفين.
بعد معركة استمرت 139 يومًا، استطاعت قسد وقوات التحالف انتزاع كامل مدينة الرقة من داعش الذي كان يعتبرها عاصمة لخلافته المزعومة
سقوط الرقة من يد داعش
"سيطرت قواتنا بالكامل على الرقة"، بهذه الكلمات خرج طلال سلو، المتحدث الرسمي باسم قسد، مؤكدًا لوسائل الإعلام انتهاء العمليات العسكرية في المدينة التي تحولت منذ منتصف عام 2014 لـ"عاصمة خلافة" تنظيم الدولة، ومعلنًا بذات الوقت بدء مرحلة جديدة من مراحل الصراع العسكري في سوريا بين جميع الأطراف الدولية المتواجدة على الأرض.
اقرأ/ي أيضًا: مدنيو الرقة.. من مقصلة "داعش" إلى انتهاكات القوات الكردية
وشاب السيطرة في مراحلها الأخيرة، على الرقة، غموض يرافقه تضارب في الأنباء عن تنفيذ اتفاق نص على السماح لمقاتلي التنظيم بالخروج إلى مناطق نفوذه المتبقية في ريف ديرالزور، مقابل استسلامهم، حيثُ أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان موافقة مقاتلي التنظيم السوريين على خروجهم مع عوائلهم ومن تبقى من المدنيين، فيما رفض المقاتلون الأجانب الاستسلام مفضلين القتال حتى النهاية.
وجاءت الهزيمة المدوية لداعش، بالتزامن مع تقهقر مقاتليه في محافظة ديرالزور، وسيطرة قوات الأسد مصحوبًة بالمليشيات الأجنبية المدعومة من إيران، وإسناد جوي روسي، فضلًا عن مشاركة البوارج البحرية الروسية في قصف المحافظة بصواريخ من طراز "كاليبر". ووفقًا للمرصد السوري، فإن قوات النظام أضحت تسيطر على أكثر من 92% من دير الزور، في الوقت الذي فقد التنظيم مدينة الميادين، وبات نفوذه محصورًا في بضعة مناطق محدودة على الشريط الحدودي مع العراق.
غير أنّ ما حققته قسد والتحالف الدولي في الرقة، تخلله انتهاكات صارخة للقوانين الدولية المُلزمة جميع أطراف الصراع بالحفاظ على أرواح المدنيين، حيث وثقت حملة "الرقة تذبح بصمت"، منذ التاسع من آب/أغسطس الماضي وحتى أول أمس الإثنين، مقتل أكثر من 1873 مدنيًا، وتنفيذ أكثر من 3829 غارة جوية، علاوة على دمار المدينة بنسبة تزيد عن 90%.
هل يقود "التيار الحازمي" في داعش المرحلة القادمة؟
منذ بدايات أيلول/سبتمبر الماضي، بدأت مناطق نفوذ التنظيم الأكثر تطرفًا في القرن الحالي، تنحسر من عمق البادية السورية اتجاه ريف دير الزور أقصى شرق سوريا، حيثُ تعرضت دفاعاته لانهيارات متتالية، ما دفع بمقاتليه للانسحاب على مراحل متفاوتة منها، لكن الأنظار متجهة أكثر من جميع المناطق التي خسرها حاليًا إلى مدينتي البوكمال السورية والقائم العراقية، بسبب اعتقاد يسود عن تخفي زعيم التنظيم أبي بكر البغدادي ضمن هذه المساحة الضيقة.
لكن الأهم من ذلك، أن هزيمة داعش الحالية، لا تعني بالضرورة نهاية وجوده بشكل فعلي، فإذا عدنا بالذاكرة عشرة أعوام للوراء، نجد أن البذرة الأولى للتنظيم عاشت حالة من التشرذم، واختفاء عناصرها داخل مخابئ سرية ما بين عامي 2008 و2011 في العراق، وإذا تعمقنا أكثر بتطور الفكر الجهادي المتطرف لدى مقاتليه، نقرأ صعودًا سريعًا لما يعرف بـ"التيار الحازمي" داخل صفوفه، في مقابل الهزائم المتوالية التي يشهدها في مناطق نفوذه.
والتيار الحازمي برز بشكل فعّال بين شرعيي التنظيم إلى الواجهة، اعتبارًا من عام 2015، ما دفع بالبغدادي لإصدار أوامر بإعدام العناصر والشرعيين الموالين لهذا الفكر الذي يُصنف بأنه الأكثر تطرفًا داخل داعش، فهو ينادي بتكفير كل من يخالفهم في المنهج، بل كفّر البغدادي نفسه بسبب عدم تكفير الأخير لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري من مبدأ "تكفير العاذر"!
رغم هزائمه المتوالية في العراق وسوريا، لا يمكن الجزم بالقضاء تمامًا على داعش، فلا يزال متواجدًا بقوة في مناطق أُخرى أبرزها سيناء
كما أنه لا يمكن الجزم بأن التنظيم فقد جميع عناصره في المعارك الأخيرة، ولعل هذا واحد من الأسباب التي تفسر انسحاب عناصره بهذا الشكل المتسارع، كونه استطاع خلال السنوات الخمس الماضية، أن يؤسس لمخابئ سرية في مناطق سيطرته، للرجوع إليها في مثل هذه الأوقات. وتعتبر مدينة القريتين بريف حمص الشرقي، التي سيطرت عليها خلايا نائمة للتنظيم في وقت سابق، بقيت متوارية عن الأنظار داخلها بعد دخول قوات الأسد إليها؛ نموذجًا حيًا، فهي تبعد قرابة 100 كيلومتر عن أقرب مناطق التنظيم، ورغم ذلك تمكن من استعادة السيطرة بهجوم معاكس نفذه ما يعرف بـ"جيش الخلافة".
اقرأ/ي أيضًا: قصة داعش.. "تمدد" سريع وانحسار مُكلف و"بقاءٌ" محتمل
وإضافة لكل ذلك، فإن التنظيم بات يوجه أنظاره إلى مناطق جديدة خارج سوريا، وهو يملك ثقلًا عسكريًا كبيرًا في منطقة سيناء المصرية، وأصبح ينشط في شرق آسيا وأفغانستان وليبيا رغم انحسار نفوذه بعض الشي في الأخيرة، أي أن خسائره في العراق وسوريا قابلها صعود مواز في دول أخرى، وإن كانت لا تضاهي ما خسره خلال العام الجاري.
ما مصير داعش مستقبلًا؟
وقد يستفيد التنظيم على المدى المتوسط من اختلاف الأطراف الدولية المتصارعة في سوريا، في حال لم يتوصلوا لاتفاق واضح، إذ ترمي قسد التي تقودها وحدات حماية الشعب الكردية، إلى ضم مدينة الرقة لمناطق "الإدارة الذاتية"، وهو ما ترفضه أنقرة بشكل قاطع. وبحسب تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية، فإن مسؤولين من البيت الأبيض تحدثوا عن إمكانية استخدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقسد، لإيقاف طموح إيران في بسط نفوذها شرق سوريا.
ويُعد هذا الاحتمال مرجحًا، كونه كلّف ترامب أزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع تركيا، التي تعد من أبرز حلفاء واشنطن كونهما يشتركان في عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتستخدم المقاتلات الأمريكية قاعدة إنجرليك الجوية في مدينة أضنة جنوب تركيا، لشن هجماتها الجوية على مناطق داعش في العراق وسوريا.
وتعمّق الخلاف بين الدولتين عندما صادق ترامب على قرار تزويد مقاتلي قسد بأسلحة متطورة، لبدء عملية الرقة، الأمر الذي اعتبرته تركيا "خيانة" لها، بعد أن كانت المشاورات بينهما تشير لقيادة القوات التركية بالاشتراك مع مقاتلي الجيش السوري الحر العملية العسكرية في الرقة.
كذلك فإن روسيا على ما يبدو أصبحت أكثر حذرًا من التواجد الإيراني في مدينة دير الزور، فقد ذكر مدير قناة العالم الإيرانية في دمشق حسين مرتضى، الأحد الماضي، أن القوات الروسية منعت جميع الوسائل الإعلامية المحسوبة على طهران بما فيها قناة "الميادين" الإخبارية، من الدخول إلى مدينة الميادين، واستثنت من قرار المنع وسائل الإعلام الروسية، ما يعني احتمالية، ولو كانت ضعيفة، حدوث خلاف بين الدولتين اللتين تتشاركان في دعم بشار الأسد رئيس النظام السوري.
ولهذا فقد يستفيد التنظيم في المرحلة القادمة من التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط بشكل عام، والتي تتشارك فيها الجهات الدولية الفاعلة في سوريا، إن كان من تشارك أنقرة وطهران المخاوف من تنامي نفوذ الأكراد على شريطهما الحدودي، أو اتجاه ترامب لإلغاء الاتفاق النووي الإيراني متجاهلًا معارضة دول الاتحاد الأوروبي، وكذا روسيا الساعية لاستعادة نفوذها الدولي من بوابة سوريا، حتى إن كان على حساب طهران، زيادة على الأزمة الدبلوماسية بين أنقرة وواشنطن مؤخرًا.
التطورات السياسية الحاصلة في المنطقة، والخلافات بين القوى الإقليمية في سوريا، قد تصب بالنهاية في مصلحة داعش
ومن هذا المنطلق، قد يكون داعش المستفيد من كل ما يحصل من تطورات سياسية في المنطقة، وخلافات بين القوى الإقليمية الفاعلة في سوريا، فضلًا عن أن معاركه أثبتت قدرة مقاتليه وخبرتهم في تكتيكات حرب العصابات، لذا يُخشى من أن تكون انهيارات دفاعاته ليست إلا بداية جديدة له، ولن تكون مفاجئة.
اقرأ/ي أيضًا: