للعام الثاني على التوالي، يتحدث العديد من المختصين، عن أنّ حكومة محمد شياع السوداني تغامر بالمياه التي يعاني العراق من شحتها أصلًا، لغرض تحقيق "اختراق" في زراعة الحنطة، كمنجز محسوس وآني، مقابل خلق "آثار سلبية مستدامة وطويلة".
تقارير دولية حذرت من استمرار العراق باستخدام المياه الجوفية والتي وصفها بـ"الكارثة"
وأقرّت حكومة السوداني وللعام الثاني على التوالي خطة زراعية شتوية بلغت بلغت 5.5 مليون دونم، من المتوقع أن تتمّ زيادتها كما حصل العام الماضي، وبالرغم من أنّ العراق لا يزال في قلب أزمة الجفاف المستمرة منذ 4 أعوام، إلا أنّ هذه المساحة تعادل قرابة 3 أضعاف المساحة المزروعة في أول عامين من الجفاف 2020 و2021، عندما بلغت المساحات بين 2 إلى 2.5 مليون دونم فقط، لعدم كفاية المياه.
وفي العام الماضي، كانت المساحة المقرة بداية للخطة الشتوية، لا تتجاوز الـ4 ملايين دونم، بواقع 1.5 مليون دونم للري السطحي، و2.5 مليون دونم عبر مياه الآبار، قبل أن يتم رفع المساحات إلى 2.5 مليون دونم بالمياه السطحية، و4 ملايين دونم بالآبار، ليكون المجموع 6.5 مليون دونم، فضلًا عن مساحة ديمية بـ1.5 مليون دونم ليكون المجموع 8 ملايين دونم.
وفي هذا الموسم، صادق مجلس الوزراء على خطة الزراعة الشتوية بمساحة 1.5 مليون دونم أيضًا بالمياه السطحية، بالإضافة إلى 4 ملايين دونم عبر المياه الجوفية، وسط توقعات بتكرار ما جرى العام الماضي بزيادة المساحة المروية سطحيًا عقب سقوط الأمطار.
الحكومة "تسابق" الآبار العشوائية.. من يحفر أكثر؟
وما يثير الانتباه حول الجنبة الخطيرة في هذه الخطة بالنسبة لمختصين، هو المساحة التي سيتم سقيها عبر المياه الجوفية، والبالغة 4 ملايين دونم والتي تمثل أكثر من 70% من مساحة الخطة الشتوية، فيما يأتي هذا التوسع بالمساحة الزراعية على حساب المياه الجوفية التي بدأت تعاني أصلًا من مشاكل كبيرة في العراق نتيجة السحب المستمر والجائر وحفر الآبار غير النظامية.
برنامج الأغذية العالمي، كان قد حذر قبل أيام من استمرار العراق باستخدام المياه الجوفية، والتي وصفها بـ"الكارثة"، لافتًا إلى أنّ المياه الجوفية في العراق في طريقها إلى "النضوب".
ولا تمثل الآبار النظامية سوى 20% من إجمالي الآبار المحفورة في العراق، وحتى منتصف العام الماضي كان في العراق 85 ألف بئر، من بينها 17 ألف بئر فقط منفذ بموافقات من وزارة الموارد المائية، في حين تشير التقديرات إلى أنّ عدد الآبار الإجمالي في العراق خلال العام الحالي ارتفع لأكثر من 100 ألف بئر.
ومع هذا التوسع الكبير "اللانظامي" في حفر الآبار واستخدام المياه الجوفية، أصبح التوسع النظامي من قبل الدولة موازيًا للتوسع غير القانوني من حيث الكمية، فحتى الآن أنجزت وزارة الموارد المائية حفر قرابة 600 بئر منذ مطلع 2023، ضمن خطة لحفر ألف بئر خلال العام الحالي.
المساحات المزروعة تحتاج إلى مياه تفوق المياه الجوفية القابلة للتعويض
يمتلك العراق مياهًا جوفية بنوعين، الأول هو مياه متجددة يمكن تعويضها من الأمطار ولا تتجاوز كميتها 6 مليارات متر مكعب، بالإضافة إلى مياه جوفية استراتيجية غير متجددة، وإذا تم استخدامها فلا يمكن تعويضها، وكمياتها غير معروفة، لكنّ التقديرات الرسمية تشير إلى أنّ ما يمكن استثماره خلال عام واحد يجب أن لا يتجاوز الـ6 مليار متر مكعب، من الخزين الاستثماري المتجدد، والخزين الاستثماري الاستراتيجي الثابت.
وأجرى "ألترا عراق" عملية حسابية، لمعرفة كم ستستهلك المساحة التي ستتم زراعتها اعتمادًا على المياه الجوفية والبالغة 4 ملايين دونم، حيث تشير أطروحة في جامعة ديالى إلى أنّ الدونم الواحد من الحنطة يستهلك 2143 مترًا مكعبًا من المياه، وهذا يعني أن المساحة التي تنوي الحكومة سقيها بمياه الآبار ستحتاج لأكثر من 8.5 مليار متر مكعب، وهي كمية مياه تفوق الخزين المتجدد، وتعني أنها بدأت تقضم من الخزين الاستثماري الذي لا يمكن تعويضه، والذي طالما شددت وزارة الموارد المائية على خطورة استخدامه ووجوب الحفاظ عليه لحالات الطوارئ والجفاف الشديد الذي يهدد مياه الشرب.
وتواصل "ألترا عراق" مع كل من المتحدث باسم وزارة الزراعة محمد الخزاعي، والمتحدث باسم وزارة الموارد المائية خالد شمال، للسؤال عن من أين سيتم توفير هذه الكمية من المياه، وما إذا ماكان سيتمّ سحب المياه من الخزين الستراتيجي، إلا أنّ كلا المتحدثين لم يجيبا على طلبات التعليق بالرغم من رؤيتهم للرسائل والأسئلة التي تم توجيهها لهم.
"إنجاز سريع" ملموس على حساب آثار خطيرة مستدامة
وعلى ما يبدو، فإنّ حكومة محمد شياع السوداني، قد أغراها إعلان "تحقيق أعلى معدل تسويق وزراعة للحنطة" خلال الموسم المنتهي، والذي فاق الـ5 ملايين طن، الأمر الذي تحاول تكراره خلال الموسم القادم، دون اكتراث للأمن المائي وعلى حساب خلق آثار سلبية طويلة المدى، كما يرى الخبير المائي، أمجد الخزاعي.
ويقول الخزاعي في حديث لـ"ألترا عراق"، إنّ "الحكومة تعمل على تحقيق الأمن الغذائي على حساب الأمن المائي، خصوصًا وأن استخدام الخزين الاستراتيجي للمياه الجوفية لأغراض الزراعة، هو توجه غير مسبوق وغير مفهوم، فمن المعروف أن الخزين الاستراتيجي للمياه الجوفية هو درع الأمن المائي والخيار الأخير للعراق في حالات الجفاف الشديدة ولا يجب استخدامه للزراعة أو لإنتاج الحنطة".
ويبين الخزاعي أنّ "الحنطة في النهاية يمكن استيرادها، وبأسعار اقل من الأسعار التي تدفعها الحكومة للفلاحين، لكن المياه ولاسيما المياه الجوفية الثابتة غير القابلة للتعويض، لا يمكن شراؤها أو تعويضها بأي شكل من الأشكال".
يوصف الخزين الاستراتيجي للمياه الجوفية بـ"درع الأمن المائي" والخيار الأخير للعراق في حالات الجفاف الشديد
واعتبر أنّ "هذه الثنائية تبين بشكل واضح أن الخطوة الحكومية لم تأتِ من دافع جدوى اقتصادية، بل لتحقيق إنجاز سريع، فالإعلان عن تحقيق أعلى إنتاج أو معدل تسويق للحنطة، يعد إعلانًا سريع الانتشار وملموس، على العكس من القول إنّ الحكومة حافظت على خزين استراتيجي من المياه الجوفية دون استخدامه".
وهذا الإعلان ـ والكلام للخزاعي ـ قد "لا يشكل شيئًا لدى الجماهير والمتلقين مقارنة بالإعلان الأول، فسيكون حجم إنتاج الحنطة رقمًا إضافيًا تحمله حكومة السوداني كأرقام قياسية تتحدث بها في المؤتمرات الصحفية واللقاءات أو حتى بعد انتهاء ولايتها".