بتحرك مستفز تقدم تنظيم "داعش" نحو سامراء، للتجه الأنظار إليها، حيث العتبة العسكرية المقدسة لدى المسلمي الشيعة والتي استهدفها من قبل تنظيم القاعدة، ثم انسحب منها بعد ساعات دون أن يطلق رصاصة واحدة، ما دفع إلى استنفار أمني لحماية المدينة ذات الغالبية السنية، شمال بغداد
بدأ تنظيم "داعش" تحرك الاجتياح من مدينة سامراء لكنه باغت الجميع بـ "غزو" الموصل
كانت مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار قد خضعت قبل ستة أشهر من ذات العام لسيطرة التنظيم، ومعها نصف الرمادي مركز المحافظة، إلى الغرب من بغداد، وبينما كان الجميع ينظر إلى العاصمة ومحيطها الملتهب، شن التنظيم هجومًا مفاجئًا في الموصل بدأ بأحياء تموز والرفعيات ومحيطهما الذين يسكنهما أغلبية فقيرة.
اقرأ/ي أيضًا: مسؤول التحقيق بسقوط الموصل: سيحاكم الصغار.. وسيهرب الكبار!
استمرت المعارك في الموصل (405 كم شمال بغداد) من خميس الخامس من حزيران/يونيو حتى ساعة متأخرة من مساء الأحد التاسع من حزيران/ يونيو، عندما استهدف "داعش" في ذلك المساء القوات الأمنية بصهريج ملغم، انهارات بعده القطاعات المرابطة في الجهة الغربية من المدينة، وبدأ انسحاب القوات نحو أربيل ودهوك في كردستان مخلفين أسلحة وآليات ومعدات عسكرية.
سيطر التنظيم على المدينة منذ الساعات الاولى من يوم الإثنين، 10 حزيران/يونيو 2014، وبدء يتوغل نحو صلاح الدين وكركوك في اليوم التالي.
شهادات من الموصل
يقول زيد العبيدي، وهو مصور صحفي شاب من الموصل، إن "نسيان أي شيء ممكن، لكن لا يمكن نسيان ذاك اليوم الذي لم ينم فيه أحد"، فيما روى لـ "الترا عراق" تلك الساعات الشاقة حيث كان في منزله بحي الزهور في الجانب الشرقي من الموصل، وكان هناك خط اتصال هاتفي مع الجانب الغربي الذي بدأت منه الكارثة، ولم يعلم أحد ما إذا كان الجانب الغربي قد انتهى تحت سيطرة المسلحين الذين لم يعرف أحد تبعيتهم حينها، حتى الساعة الواحدة فجرًا حيث تأكد الخبر.
يقول العبيدي أنه، شاهد انسحاب الجيش بالزي المدني من الغرب، وفي فجر الإثنين خرج بسيارته وتجول بين المنصة والمجموعة الثقافية والتي كانت تشهد حرائق في بعض محطات الوقود وحواجز التفتيش، فيما كان هناك أشخاص في الشارع يطلبون المساعدة بنقلهم بالسيارة.
تكشف شهادات الموصليين عن فوضى عارمة حلت بالمدينة ونزوح بمئات الآلاف منها نحو المناطق الكردية في الساعات الأولى بعد سيطرة "داعش"
استوقفت المصور الشاب عائلة مسيحية في الحي العربي، وطلبت منه نقلها إلى بطانيا بأطراف الموصل الشرقية حيث تقطن غالبية مسيحية، كان تضم رجلًا وثلاثة نساء طاعنين في السن، استقلوا معه السيارة، وعند وصولهم إلى بلدة بطانيا كانت البيشمركة الكردية قد فرضت سيطرتها على البلدة. سمح للعبيدي بالمرور بسبب العائلة، حيث تركهم هناك وتوجه إلى دهوك في كردستان.
كانت قوات البيشمركة حينها قد استغلت الانهيار المدوي للقوات الاتحادية وتقدمت سريعًا في المناطق المتنازع عليها وفرضت خط سيطرة جديدًا بعيدًا عن الخط الأزرق.
يبين العبيدي، أن أعداد الناس الذين حاولوا دخول محافظة دهوك كانت مرعبة حيث خرج مئات الآلاف في محاولة الوصول الى كردستان ولم يكن لاحد القدرة على عبور حواجز الكرد الأمنية بسهولة حيث التدقيق كان شديد والأعداد تفوق المخيلة، ما دفعه للعودة مجددًا إلى الموصل، في حدود الثالثة من ظهر الإثنين الـ10 من حزيران/يونيو، ليشاهد الجميع حينها استعراض تنظيم "داعش" بآليات الجيش في منطقة المنصة، وإعلانهم "دولة الخلافة".
بقي زيد العبيدي شهرًا كاملًا في الموصل، وهو يشاهد صعود التنظيم وسيطرته على المدينة، قبل أن يفر إلى كردستان مجددًا، بمساعدة أقارب وأصدقاء له في أربيل.
لكن سعد عامر، وهو ناشط موصلي، اضطر إلى البقاء فترة أطول في الموصل، اعتقل خلالها على يد عناصر التنظيم مرات عدة ولكنه كان يخرج في كل مرة لم ثبوت أي نوع من التهم ضده.
يقول عامر لـ "الترا عراق"، إن "الحياة لم تعد ممكنة بعد عام من سيطرة التنظيم، ما اضطرني إلى دفع مبلغ كبير مقابل الهرب من المدينة في مخاطرة كبيرة". خرج مع آخرين من الموصل بعربات نقل كبيرة، في ساعات الليل، على يد مهربين جنوا أموال طائلة خلال تلك السنوات لقاء تأمين خروج المدنيين، عبر رشاوى تدفع لعناصر في التنظيم.
اضطر الموصليون الذين لم يخرجوا من المدينة في الساعات الأولى إلى خوض رحلات شاقة وخطرة بعد ذلك للهروب من المدينة
رحلة عامر الشاقة امتدت من الموصل إلى البعاج فالحدود السورية، ثم نحو بلدة القائم في الأنبار ومنها إلى بغداد، فيما يؤكد أن ثمن تلك المشقة والمجازفة بحياته كان الحرية والخلاص من التنظيم "الإرهابي".
في الخامس من تموز/ يوليو من عام 2014، أعلن تنظيم "داعش" الخلافة في أجزاء من العراق وسوريا، عاصمتها الموصل على لسان زعيمه أبو بكر البغدادي الذي ظهر حينها للمرة الأولى علنًا في جامع النوري التاريخي في قلب الموصل القديمة.
من الموصل الى تكريت
لم تكن تكريت القريبة من الموصل أفضل حالًا، فسرعان ما تقدم عناصر التنظيم نحو الشرقاط في محافظة صلاح الدين واحتلها ظهيرة الإثنين العاشر من حزيران/يونيو 2014، ليكون على مشارف مدينة تكريت مركز المحافظة (170 كم شمال بغداد).
سقطت مدينة تكريت دون قتال ثم جميع مناطق محافظة صلاح الدين باستثناء سامراء والضلوعية اللتين بقيتا صامدتين حتى تحرير المحافظة
يقول علي دحدوح قائممقام الشرقاط لـ "الترا عراق"، إن "المدينة سقطت ولم يصل الجيش أو أي مساعدة لها، والناس بدأت تهرب نحو بيجي المدينة النفطية في المحيط".
اقرأ/ي أيضًا: موصل ما بعد داعش.. فرح عابر وخوف من المستقبل
في تكريت، يروي مسؤول حكومي في وزارة اتحادية لـ "ألترا عراق" تلك الساعات، طالبًا عدم الكشف عن هويته، حيث كان في قضاء بيجي خلال يومي 10 – 11 حزيران/يونيو، وطلب منه التوجه إلى تكريت للتواجد الحكومة المحلية لغرض إعلان وضع المحافظة، بعد انهيار الموصل، وسيطرة "داعش" على أجزاء من محيط المحافظة.
يقول المسؤول، إنه "وصل القصور الرئاسية، وهي مجمع الحكومة في تكريت في حدود الساعة 2:30 ظهرًا بحسب التوقيت المحلي يوم الأربعاء، ليبلغ حينها أن مسؤولي الحكومة من محافظ ورئيس مجلس قد توجهوا نحو سامراء الأكثر أمنًا لآن التنظيم بدء بالتوغل في مدينتي بيجي وتكريت".
ألقى المسؤول نظرة أخيرة على ساعته الثمينة وملابسه الفاخرة، في محل سكنه في القصور الرئاسية، وغادر مسرعًا نحو سامراء برفقة سائق ومرافق واحد، وعند مدخل سامراء رفضت قوى الأمن دخوله لآن المدينة باتت في إغلاق أمني تام.
اضطر مسؤول الحكومة، إلى التوجه نحو بغداد بسرعة فائقة ليجد العاصمة قد نكبت بالأخبار، وخلت أكثر شوارعها من حركة الناس، توجه الى شركة طيران لحجز مقعد على أي طائرة نحو أربيل، لكن جميع الطائرات كانت قد حجزت الى هذه المدينة مبكرًا، لم يجد أي طائرة عمان العاصمة الأردنية أيضًا، فحجز إلى دبي ومن هناك عاد إلى أربيل.
فتح التنظيم باب الخروج من المدينة أمام المدنيين لمدة 24 ساعة بعد سيطرته عليها ما دفع الآلاف إلى الخروج
أم مصطفى موظفة جامعية في تكريت كانت قد شهدت على سقوط الموصل، وهي في قلب الجامعة. تقول أم مصطفى لـ "ألترا عراق"، إنها قد سمعت قبل خروجها إلى الجامعة في ذلك اليوم سقوط الموصل، فأخذت ابنها معها إلى الجامعة حيث كان صغيرًا، خوفًا من حدوث أي طارئ، ثم شاهدوا برفقة زوجها آليات وعجلات الجيش قد انتشرت في مدينة تكريت، لكن بعد انتصاف النهار، طلبت رئيسة الجامعة حينها الجميع بمغادرة الحرم، نحو سامراء أو كركوك، كون الأوضاع في الشرقاط والحويجة بدأت تضطرب وتكريت في المنتصف.
عادت أم مصطفى إلى منزلها في حي الجميعة بتكريت، وكانت تتلقى اتصالات من طلبة في الأقسام الداخلية وموظفين تقطعت بهم السبل وبقوا في مناطق سيطر عليها المسلحون. كان الجيش ينسحب من المناطق والأحياء تباعًا دون قتال في الغالب، ومن ثم عناصر الحماية الخاصين بالأقسام الداخلية والجامعة، حتى باتت مدينة تكريت خارج سيطرة الدولة.
تقول أم مصطفى، إن "المسلحين في بادئ الأمر سيطروا على محطات الوقود وأعلنوا تخفيض الأسعار وخفضوا أسعار المواد الغذائية وأعلنوا تنصيب محافظ بعثي لتكريت، وسمحوا بإقامة الأفراح حتى يوم 13 حزيران/يوينو والذي صادف يوم جمعة عندما أعلنوا ولائهم لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وسط الجموع المصلية، وفتحوا باب التوبة لعناصر الشرطة والجيش، في جامع المجيد بتكريت وجامع الفتاح في بيجي.
وتضيف، أن "وقت التوبة كان الساعة الرابعة يوم الجمعة، لكن سلاح الجو قد أغار على الجامعين قبل نصف ساعة من الموعد، ليعلن التنظيم عبر مكبرات الصوت 24 ساعة مفتوحة للجميع بلا استثناء كهدية منه للناس في حال أرادوا الخروج أو البقاء في أرض الخلافة"، مبينة أنها سارعت مع ابنها وزوجها وعمته إلى الخروج باتجاه حمرين في محاولة الوصول إلى كركوك.
في الطريق، كانت تسع نقاط تفتيش وعشرات من جنود التنظيم، لكن لم يعترضهم أحد، وفق رواية الموظفة الجامعية، وبعد وصولهم فجرًا إلى مدخل كركوك حيث تسيطر قوات البيشمركة، وجدوا المدينة قد أغلقت، لكنها فتحت في صباح السبت، وتمكنوا من الوصول إلى أربيل، حيث المدخل الأول الذي تتولاه قوى الأمن الكردية، وعندها كانت طوابير الناس "تفوق المخيلة"، مؤكدة أنها لم تشاهد ماذا جرى لعناصر معسكر سبايكر رغم أن المعسكر كان على مشارف تكريت.
مجزرة سبايكر
في الساعة 12 من يوم 11 حزيران/يونيو كان الجنود تحت التدريب في قاعدة سبايكر الجوية غرب تكريت، قبل أن يطلب أحد الضباط منهم الانسحاب بالزي المدني نحو سامراء، باعتبارها أكثر آمنًا، رغم أن تكريت لم تكن قد سقطت في تلك الساعة بيد "داعش"، حيث ان التنظيم فرض سيطرته في حدود الـ3 عصرًا. تجمع الجنود بشكل أفواج وخرجوًا نحو الطريق السريع خارج مدينة تكريت في محاولة الوصول إلى سامراء.
ارتكب "داعش" مجزرة سبايكر بحق 1700 شخص من المتطوعين للقوات الأمنية غادروا القاعدة الجوية دون سلاح
يقول أحد وجهاء عشيرة البو ناصر في قرية العوجة بجنوب تكريت، أنه تلقى اتصالات من بعض الأشخاص تشير إلى أن العشرات من الجنود يسلكون الطريق السريع في محاولة الوصول إلى سامراء، والعوجة تقع في ذلك الطريق بين سامراء وتكريت.
ويضيف بعدما طلب عدم نشر اسمه لـ "ألترا عراق"، أنه “كان ينوي المساعدة وخرج فعليًا إلى الشارع، لكنه شاهد أفواجًا اخرى من الفرقة الرابعة التابعة للجيش العراقي وهي مكونة من أغلبية كردية وكانت مقارهم على مقربة من القرية، وهم يطلبون المساعدة، فانشغل بمساعدتهم بالوصول إلى سامراء أو إخراجهم نحو كركوك وتمكن من "انقاذ" الكثيريين، بتوفير ملابس مدنية وسيارات تقلهم، كما أن التنظيم "لم يكن يبحث فعليًا عن الكرد أو العرب السنة حينها، وكان يبحث عن شيء يثير فيها الناس وللاسف كان جنود سبايكر من العرب الشيعة هم الهدف".
يقول الشيخ، أنه اضطر بعدها للهرب نحو كردستان، عندما شاهد بشاعة عناصر التنظيم، وسقطت شعاراتهم كـ "ثوار على الظلم".
بالعودة إلى سامراء، يتذكر العقيد محمد الشمري جيدًا تلك الأيام بغصة. يقول إن "جثث ضحايا سبايكر بدأت تصل إلى سامراء عبر مجرى نهر دجلة بعد أسبوع من حادثة إعدامهم"، مبينًا أنها كانت تنقل إلى الطب العدلي، لكن لم يكن بالإمكان إرسالها إلى بغداد التي كانت محاصرة هي الأخرى، فيتم دفنها في المدينة.
يبين العقيد الشمري، أن سامراء كانت محاصرة بشكل كامل والطريقة الوحيدة لخروج منها أو نقل القادة السياسيين والعسكرين كانت عبر الطائرات العسكرية، فيما لم تعد المواد الغذائية والأدوية تصلها، وكان من ينجو من الجنود وينجح بالهرب من تكريت يلجأ إليها، حيث تولت الفرقة الذهبية بقيادة فاضل برواري بعض الإجراءات الأمنية فيها.
أدت أحداث حزيران/يونيو 2014 وما بعدها إلى مقتل وآسر وتشريد الملايين مقابل عشرات الملايين الذين كانت أرواحهم على المحك في المدن والمناطق المحاصرة والمحتلة
بعدها بدأت تسقط مدن كانت قد صمدت وأخرى قد تحررت بعد مرور ثلاثة أشهر من تلك الاحداث، وكان الناس يبحثون عن مأمن، فلم تكن المدن في نينوى تحت سيطرة البيشمركة بعيدة عن الأحداث، ولم تخل مدن سيطرة الحكومة من هجمات التنظيم، وبقيت مدن في الأنبار وكركوك وصلاح الدين ونينوى تحت ضغط "داعش"، حتى إعلان رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي تحرير العراق في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2017.
اقرأ/ي أيضًا: