أمام محكمة الأحوال الشخصية في إحدى المحافظات الجنوبية، طلب رجل سبعيني برفقة فتاة لا يتجاوز عمرها 15 سنة من المحامية زهراء حسن "اسم مستعار"، إكمال إجراءات عقد زواج، وتصوّرت المحامية في البداية أنه لأحد أحفاده، لكنه أخبرها أنه الزوج، لم تخفِ المحامية استغرابها، وطلبت منه المستمسكات الثبوتية وضرورة حضور الزوجة، وبابتسامة زهو، قال الرجل: هذه زوجتي، مشيرًا للفتاة.
وثقت سجلات المحاكم العراقية آلاف حالات الطلاق لأزواج تتراوح أعمارهم ما بين 15 و18 عامًا
تقول المحامية: "صُدِمت من شكل وعمر الفتاة أنها بعمر أحفاده، أبلغته أنها قاصر ولا يمكن تزويجها له، لكن هذا لم ينفع، فالزواج تم خارجيًا من خلال عقد رجل الدين وما على القاضي إلا تصديق الزواج بعد حضور ولي الأمر، وتغريم الزوج ألف دينار عراقي"، مبينةً "رفضت التوكل عنه وفي قلبي غصة، تخيلت للحظة أن تكون أختي أو ابنة أخي هي الزوجة، وهي تغادر عالم المراهقة والدراسة إلى فراش عجوز كهل".
اقرأ/ي أيضًا: ارتفاع تاريخي لمعدلات الطلاق في العراق.. أكثر من 8 حالات كل ساعة!
وأضافت المحامية خلال حديثها لـ"ألترا عراق"، "تملكني الفضول لمعرفة سبب موافقة الأهل، خمنت أن يكون الفقر والحاجة، مثلما نسمع من مبرّرات في هكذا قصص، خاصة وأن الرجل يبدو ميسورًا، تابعتهم في أروقة المحكمة بعد وصول والدها، انفردت به وسألته عن أسباب موافقته، أجابني أن زوجها لشيخ عشيرة عام، وله وزن وثقل اجتماعي كبير ومن عائلة صاحبة تاريخ، أجبته لقد رميت بنتك في التهلكة وحطمت حياتها، قال أمنت لها مستقبلها وستكون زوجة الشيخ وستنجب شيخًا صغيرًا ونكون أخواله".
هذه القصة واحدة من آلاف حكايات زواج القاصرات المسكوت عنها، فضعف الحالة المادية للعائلة يتصدّر هرم الأسباب، بحسب مختصين، فضلًا عن الانسياق للأعراف الاجتماعية التي تدفع بزواج الفتاة بعمر صغير، وتحت شعار "الزواج ستر"، فضلًا عن الغطاء الديني والقانوني الذي يسمح بزواج القاصرات.
وتشير الإحصائيات الحكومية إلى أن آخر الأرقام الرسمية الصادرة عن مجلس القضاء العراقي، عن أعداد حالات الطلاق في العراق خلال كانون الثاني/يناير الماضي المسجلة في محاكم جميع المحافظات العراقية -عدا إقليم كردستان- بلغت 5143 حالة، بينما بلغ مجموع حالات التفريق بحكم قضائي 1443، وهو ما تشير إليه أيضًا سجلات المحاكم العراقية التي وثقت آلاف حالات الطلاق لأزواج تتراوح أعمارهم ما بين 15 و18 عامًا.
وتعتبر الباحثة وسن راضي جذر زواج القاصرات اجتماعي وديني وقانوني، ما يجعلها مستمرة بفضل تخادم العوامل الثلاثة، خاصة في المناطق الريفية، ولا ينتهي الأمر عندها، فالمدن ومنها بغداد تسجل أرقامًا كبيرة.
وتفصل راضي دور العوامل الثلاثة بالقول إن "التقاليد الاجتماعية تدعم زواج القاصرات، وهذا عرف قديم يشرعن الزواج من أجل حماية الشباب والبنات من ارتكاب الفواحش، وكثرة الإنجاب عن الزواج في سن مبكر، فيما يدعم ذلك العامل الديني الذي يسمح بزواج القاصرات بعمر صغير، بالإضافة إلى دور رجال الدين الذين يعقدون للمتزوجين القاصرين، فضلًا عن الثغرات القانونية التي يفصلها قانونيون".
وتابعت راضي، وهي أكاديمية وبمرحلة الدكتوراه في علم الاجتماع، أن "العديد من الآثار السلبية تترتب على زواج القاصرات، تنعكس على حياة الفتاة وأطفالها، والكثير منها تسبب المشاكل النفسية، وتعاظم المشاكل الاجتماعية بين الزوجين، فالفتاة بعمر 15 سنة لم تتجاوز ذهنية الطفولة والمراهقة، وهي غير مهيأة لتحمل عبء العلاقة الزوجية، خاصة في ظل العيش المشترك مع عائلة الزوج، وما يترتب عليه من مسؤوليات على الزوجة، فضلًا عن ترك التعليم والأعراض الصحية للحمل والإنجاب المبكر".
وتلفت راضي إلى أن "حالات الإجبار متباينة، إذ توجد الكثير من المجتمعات تترسخ فيها فكرة الزواج بأعمار صغيرة، ما يجعل الزواج حلم الفتيات، ويدفعها غالبًا إلى البحث عن علاقات عاطفية والبحث عن الزواج، ما يؤثر على دقة اختيارها وسلامة مشاعرها"، مبينةً أن "الأمر في كثير من الأحيان يتجاوز ثقافات العوائل فنجد بعض العائلات المتعلمة والميسورة ماديًا تزوج بناتها وأولادها القاصرين، مستندين بخيارهم إلى فكرة أن الإنجاب بعمر صغير أفضل ويجعل الأولاد والآباء أصدقاءً، وهذا جزء من منظومة الوعي الاجتماعي التي تجعل من الإنجاب مصدر قوة، خاصة الأبناء، لذا نجد الكثير يتفاخرون بعدد أبناءهم، وقد تعتبر كثرتهم وحدة قياس للقوة والسطوة".
التفاف على القانون
يشترط القانون سؤال الفتاة عن قبولها بالزواج، والذي يتم في المحاكم العراقية شكليًا، بحسب الخبير القانوني محمد السعدون، والذي يقول إن "القاضي يمارس دوره من خلال السؤال والجواب وبرتابة وروتين ينسى من خلالهما القاضي أن مسألة زواج القاصرات هو استثناء من الأصل في مسألة الزواج التي تشترط الأهلية الكاملة، وكذلك دون اعتماده على الاستنتاج من خلال هيئة الفتاة وطريقة إجابتها وتقييم وضعها النفسي، وغالبًا تأتي القاصر متزوجة بورقة خارجية من رجل دين، فلا خيار أمام القاضي إلا تصديق الزواج قانونيًا". فهو بالأخير محكوم بنصوص قانونية منظمة لمثل هكذا أوضاع.
المادة 8 الفقرة 1 من قانون الأحوال الشخصية تجيز للقاضي تزويج القاصر إذا ما ثبتت أهليته وقدرته البدنية
وهذا ما حصل مع "م. ن"، وهي قاصر تسكن إحدى المحافظات الجنوبية، عندما تزوجت من رجل بعمر والدها، وعقد لها رجل دين خارجيًا، وبعد أشهر روج الزوج معاملة عقد الزواج.
وتقول "م. ن" التي انفصلت عن الزوج بعد سنة ونصف، "ذهبت برفقة أبي وزوجي إلى المحكمة، ووقفت أمام القاضي بعد تقديم زوجي طلب عقد الزواج وأرفق معه ورقة رجل الدين الخارجية، صدق القاضي العقد بلمح البصر، ولم ينتبه للرعب الذي كنت أعيشه، ولم يعير أي اهتمام لفارق العمر، كنت أتمنى أن يسألني وأصرخ بالرفض واستند عليه، لكنه كان جزءًا من منظومة الإجبار التي تعرضت لها".
اقرأ/ي أيضًا: الولاية على الأطفال.. "معضلة" تواجه النساء في العراق!
يعلّق السعدون، خلال حديثه لـ"ألترا عراق"، على حالة "م.ن"، أن "القانون كًيف هذه الحالة على المادة 8 الفقرة 1 من قانون الأحوال الشخصية، والتي تجيز للقاضي تزويج القاصر إذا ما ثبتت أهليته وقدرته البدنية، واعتبر شهادة رجل الدين دليلاً على ذلك، كما اعتبر موافقة الوالد على طلب الزواج، حصل من دون معرفة رأي القاصر"، لافتًا إلى أن "الخلل في تطبيق القاضي للقانون الذي توجد فيها ثغرات كثيرة، والمادة 8 لا تشترط تقديم الطلب من قبل القاصر، ما يتطلب من القاضي التأكد من أن القاصر هو من يطلب ذلك من عدمه".
وحول تعامل القانون مع الزواج الخارجي، أوضح السعدون، أن "المكاتب الشرعية التي يديرها رجال دين شائعة، وهي المحطة الأولى لكل حالات الزواج سواء قاصرين أو بالغين، ووجود رجل دين يعقد القرآن يعد من أساسية الخطوبة، والمادة 10 الفقرة 5 الخاصة بعقوبة الزواج خارج المحاكم تنص على (يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على سنة أو بغرامة لا تقل عن مائتي ألف دينار ولا تزيد على مليون دينار، حسب قانون تعديل الغرامات الواردة في القوانين الأخير، كل رجل عقد زواجًا خارج المحكمة وتكون عقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد عن خمس سنوات إذا عقد خارج المحكمة زواجًا آخر مع قيام الزوجية)، لافتًا إلى أن "القاضي يأخذ عادة بأخف عقوبة وهي الغرامة التي لا تزيد على مائتي ألف دينار".
العادات.. الدين
يتراوح العمر المسموح للفتاة خلاله بالزواج في المذاهب الإسلامية بين (15.13.9 سنة)، ويقول رجل الدين علي الشريفي إن "الشرع باختلاف المذاهب الفقهية أقر بجواز زواج الفتاة قبل بلوغ الثامنة عشرة، والجواز هنا ليس فرضًا، ما يعني أن هذا الأمر مسموح ما لم يكن فيه ضرر ناتج عن حالة خاصة تتعلق بالبنية الجسمانية للفتاة والأهلية العقلية والفكرية".
ويضيف الشريفي، خلال حديثه لـ"ألترا عراق"، أن "رجال الدين تقع على عاتقهم مسؤولية شرح المفاهيم الثانوية في الشرعية ضمن قاعدة لا ضرر ولا ضرار، خاصة تحريم إجبار البنت القاصرة على الزواج، وبطلان العقد في حالة الإجبار".
اقرأ/ي أيضًا: