مرت خمس دورات برلمانية في العراق بعد 2003 موزعة على 18 عامًا، لم تشهد دورًا تشريعيًا مؤثرًا للسواد الأعظم من أعضاء مجلس النواب، ما جعل مراقبون يعتقدون أن أعمال البرلمانيين اليومية لم تتجاوز "تعقيب المعاملات"، إذ يقدمون تسهيلات لجمهورهم في مؤسسات الدولة، فيما تطهى القوانين الاستراتيجية في مطابخ الزعامات السياسية الرئيسية فقط.
يصنع القرار السياسي في العراق من خلال زعماء هم خارج مجلس النواب أصلًا
ويُختزل دور 328 نائبًا بزعماء لا يتجاوز عددهم 10، والزعماء يبدأ حِراكهم منذ إعلان نتائج الانتخابات ليختاروا الرئاسات الثلاثة، ويعقدون التسويات، وما على نوابهم إلا التنفيذ ورفع أو إنزال الأيادي، حتى شاع في الشارع العراقي طرفة "موافج"، في إشارة إلى الصورة النمطية عند العراقيين عن ضعف مجلس الأعيان خلال حقبة الحكم الملكي، حيث كان بعض شيوخ العشائر لا يقولون شيئًا سوى "موافج"، أي موافق.
اقرأ/ي أيضًا: دورة نيابية "محبطة".. هل يعرف العراقيون جميع البرلمانيين؟
يعتقد مراقبون أن هذا التشوّه في دور أعضاء البرلمان مركب، ولا يتحملون وزره لوحدهم، وإنما منظومة المحاصصة التي ترسخت خلال السنوات الماضية، وهي من أحالته إلى واقع يصعب تغييره، حتى صارت أهداف النواب إرضاء جمهورهم وزعاماتهم، وفُرض عليهم هذا المسار.
"خوش ولد"
ومع اقتراب موعد الانتخابات يشتد وطيس الدعاية الانتخابية، وتأخذ اشكالًا متعددة، وبالرغم من أن تجربة الشارع السيئة مع أعضاء البرلمان وعدم الثقة التي يتعاطون بها مع كل مرشح، أفقدت الكثر من أشكال الدعاية الانتخابية جدواها، فلم يعد توزيع الأموال والأغذية والمفروشات وتنظيم السفرات الترفيهية والدينية ذات تأثير، فيما حافظت تلبية احتياجات المواطنين إلى الخدمات وحل مشاكل المدن على تأثيرها.
ويجد المواطن مع اقتراب كل انتخابات حملات تبليط الشوارع، ونصب محولات الكهرباء، وإجراء تنقلات في المناصب الصغيرة، بحسب رغبة الناس أو مصلحة المسؤول التنفيذي، والأخير قد يكون مرشحًا أو يخدم الحزب الذي دعمه لتسنم المنصب.
لكن مفهوم "الخوش ولد" حافظ على تأثيره، بحسب مهند جميل، إذ يقدم وصفًا لهذا المفهوم بالقول إن "الصورة النمطية الشعبوية ما زالت ترتكز على المعايير الاجتماعية في تقييم مرشحي الانتخابات، فتجد النائب أو المرشح الذي يكون سلوكه قريبًا من الناس هو مصداق للخوش ولد ويعني الإنسان الذي يتحرك حسب ما ترغب العشيرة أو الجماعات المؤثرة في الشارع، وهذا ينال إعجابهم، ويعتقدون بضرورة انتخابه، خاصة إذا كان يمتلك تزكية من الجماعة الدينية أو الطائفية التي ترشحه".
وحول مواصفات "الخوش ولد"، يقول جميل، خلال حديثه لـ"ألترا عراق"، إن "مواصفاته هي التواصل مع المواطنين في مناسباتهم الاجتماعية، وتفقده للمريض منهم، وتعزية من فقد أحد أقرباءه، يتواصلون معه بسهولة، ويعاود الاتصال على مكالماتهم، ملابسه قريبة منهم، هنا يشعرون أنه جاء لخدمتهم وليس للاستفادة الشخصية".
ويضيف جميل، وهو مقرب من أحد النواب السابقين ورافقه خلال حملاته الانتخابية، أن "الاستمرار بسلوك الخوش ولد، مرهون بطموح المرشح، إن كان يكتفي بدورة انتخابية واحدة، سرعان ما يتغيّر ويختفي، ويبقى خاصته يستغلون منصبه، فيما يستمر من لديه الطموح في الصعود"، لافتًا إلى أن "الشواهد كثيرة على النوعين، هناك من أوصله مسار الخوش ولد، إلى منصب وزير، وجعله من المؤثرين في المشهد السياسي لغاية الآن، وهناك من لم يتجاوز الدورة البرلمانية الواحدة".
استغلال اللجان البرلمانية
لكن الاستمرار وتمتين القاعدة الجماهيرية، يرتكز بشكل أساسي على قضاء مصالح المواطنين في الدوائر، وهذا له علاقة بتحاصص المناصب في الدولة واللجان في البرلمان، بحسب مدير مكتب نائب في البرلمان، والذي يقول لـ"ألترا عراق"، إن "بعض الأحزاب تفرض على نوابها الاستمرار بالتواصل مع جمهورهم، وتراقب وتقيّم دورهم، وهذه الأحزاب بشكل رئيسي هي صاحبة القاعدة الثابتة (العقائديين) وهذا التقييم يكون معيارًا لترشيح النائب لدورة ثانية، أو منحه المنصب التنفيذي في حالة عدم ترشيحه أو فوزه".
ويضيف مدير المكتب، الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب تتعلّق بوظيفته، أن "المفترض في توزيع اللجان البرلمانية، أن يكون أعضاء كل لجنة ليسوا من الجهة التابع لها الوزير الذي تدخل وزارته ضمن اختصاص اللجنة، لكن ما يحدث عكس ذلك تمامًا، إذ تكون غالبية الأعضاء من ذات اللجنة"، موضحًا أن "سيطرة الحزب على اللجنة والوزارة يفضي إلى نتيجتين، الأولى؛ يمنع مراقبة أداء الوزير والإشارة إلى إخفاقاته، والثانية سهولة إنجاز مصالح الحزب بواسطة النواب، حتى بات المواطن يعرف عند تعطل معاملاته الذهاب إلى أي نائب، فلكل منهم وزارة أو مؤسسة فعال فيها".
النواب يتكدسون في الوزارات
من جهته، يروي موظف عمل في مكتب أحد الوزراء مشاهداته أثناء فترة عمله، ويقول: "لا يكاد يمر يوم دون زيارة نائب أو مدير مكتب، إلى مقر الوزارة أو مكتب الوزير، محملًا بحزمة من الطلبات لمواطنين، تبدأ من النقل والتنسيب، وصولًا إلى طلبات تتعلق بعمل الوزارة، واللافت أن أكثر النواب زيارة هم من الحزب الداعم لاستيزار الوزير، وهؤلاء يكونون الأكثر تأثيرًا، بالإضافة إلى أن بعض المدراء العاميين والكادر المتقدم تكثر عليهم زيارة نواب من القوى الداعمة التي يعتبر المنصب من حصتها".
ويضيف الموظف الذي رفض الكشف عن اسمه، لـ"ألترا عراق"، أن "معظم الطلبات لا ترتقي لمستوى أن تقدم للوزير، ويمكن إجابتها من خلال السياق الإداري بواسطة مسؤولين أقل في هيكل الوزارة"، لافتًا إلى أن "قلة خبرة الوزير وعدم معرفته تمنعه من رفض الطلب، لكن غالبًا يكون هامشه على الطلب (موافق حسب الضوابط)، لتعود وفقًا للمسار الإداري المعروف وتتعطل هناك، فيما بعض النواب يعرفون عدم مطابقة الطلب للضوابط، فيطلبون الاستثناء".
ويتابع الموظف، أن "الطلبات ومراجعات تشتد النواب للوزارات في فترتين، الأولى في الأيام الأولى لتولي الوزير مهامه، والثانية قبيل فترة الانتخابات، وفي الأولى تكون الاستجابة أسرع وأغزر، كون الوزير جديد ويحاول نيل رضا النواب، والثانية يكون فيها أكثر حزمًا، بسبب قرب نهاية عمر الحكومة والبرلمان".
في السياق، يعزو رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث منقذ داغر، دور البرلمانين بهذه الطريقة إلى "حداثة التجربة الديمقراطية في العراق، نتيجة رفع سقف التوقعات كثيرًا بشان دورهم البرلماني"، مضيفًا أن "هذه الظاهرة موجودة في كل دول العالم، بما فيها البلدان ذات الديمقراطيات الراسخة، في الولايات المتحدة الأمريكية، يتواصل النائب مع جمهروه من خلال تلبية احتياجاتهم، مثلًا كل نائب لديه مجموعة بطاقات لدخول وال تسني".
وبشان آلية صنع القرار يقول داغر، إن "رؤساء الأحزاب هم الذين يرسمون سياسة الحزب وعلى النواب تبنيه، لكن المعيب أن تفقد رأيك داخل حزب وتكون غير قادر على النقاش، خاصة إذا كان الموضوع يتعارض مع ثوابت وطنية ومتبنياتك الشخصية مثل ملفات الفساد والقتل".
ويلفت داغر، خلال حديثه لـ"ألترا عراق"، إلى أن "قانون الانتخابات الجديد سيساهم في تعاظم هذه الظاهرة، لأن مساحة جمهور النائب ستتحدد في دائرة واحدة، ويكون مطلوبًا منه تقديم الخدمة لأبناء دائرته"، ولا يخفي داغر رفضه للقانون الجديد، معللًا أن "هذا سيدفع النواب إلى الاهتمام بالقضايا المحلية أكثر من الوطنية".
يقول منقذ داغر إن رؤساء الأحزاب هم الذين يرسمون سياسة الحزب وعلى النواب تبنيه
وبشأن دور المواطن في هذه المنظومة، يقول داغر إن "المواطن معياره في الانتخاب الخدمة المقدمة له، وليس المواقف الإستراتيجية، لكن تبقى المشكلة في داخل البرلمان، من حيث تمكن النائب من الفصل بين القضايا المصيرية العامة، وخدمة ناخبيها"، لافتًا إلى "حاجة العراق لضعف سنوات ما بعد 2002، إذ يختلف المفكرين في تحديد عمر الجيل، فابن خلدون يعتقد أن الجيل عمره 40 سنة، وعند بعض علماء السياسة 20 سنة، ونحن بلد تعلم على الشمولية لفترة طويلة جدًا".
اقرأ/ي أيضًا: الكتلة الأكبر بين التوافق السياسي والانتخاب الفردي
ويتابع داغر، أن "التجربة التي عشناها بعد 2003 هي مسخ للديمقراطية، وتصورناها هي الديمقراطية، واختزلناها بصندوق الانتخابات، والأمر لا يتعلق بطول الفترة الزمنية، وإنما بمدى رسوخ التجربة"، مشيرًا إلى أن "عدم وجود دولة مؤسسات لن تمنح التجربة نضوجًا، خاصة وأن المراحل التي عشناها منذ فترة الاحتلال مرورًا بحقبة المالكي واحتلال داعش، وصولًا للسلاح المفلت، لم تساعد في تثبيت دعائم الدولة، ومنعت نضوج التجربة".
لكن رئيس مركز التفكير السياسي، إحسان الشمري، يربط الموضوع بجذر آلية دخول النواب تحت قبة البرلمان، وهنا يشير إلى قانون الانتخابات السابق، الذي يمكن المرشحين من الفوز من خلال الفائض من أصوات الزعامات السياسية، بالإضافة إلى أن هذا الأمر انسحب على فوز شخصيات غير مؤهلة للقيام بدورها التشريعي.
ويضيف الشمري خلال حديثه لـ"ألترا عراق"، أن "جزءًا من هذا السلوك، هو معالجة للإخفاق في تطبيق البرامج الانتخابية للقوى السياسية، ما يجعلهم محرجين أمام جمهورهم فيسعون لتلبية الحد الأدنى من حاجات ناخبيهم، فضلًا عن الطموح السياسي للظفر بدورة برلمانية ثانية، وهذا الموضوع خلق إشكالية كبيرة في ظل الاحتكاك ما بين النواب والوزارات، لدرجة وصل لنوع من الابتزاز، وهذا سببه عدم النضج السياسي، والإدراك بماهية الدور النيابي".
اقرأ/ي أيضًا: