منذ اندلاع أزمة نتائج الانتخابات العراقية التي تعترض عليها معظم الفصائل والأحزاب الأقرب إلى إيران، حاولت السلطة القضائية إدارة الأزمة بقسطٍ عالٍ من "النأي بالنفس"، وبقيت المحكمة الاتحادية العليا بعيدة نسبيًا عن شظايا التراشق بين القوى الموافقة والرافضة للنتائج، لكنّ الساعات الأربع وعشرين الماضية، شهدت استدارةً تدريجية من القوى السياسية الحائرة بمأزقها الدستوري، صوبَ قضاة المحكمة الاتحادية.
دعوة "الاتحادية" للنزول إلى المستنقع
الانسحاب المؤقت لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر طيلة الأسبوع الماضي، وإلقائه حبلَ جلسة انتخاب الرئيس على غارب القوى الأقرب إلى إيران، تسبب بفراغ في الجدل والمناكفات السياسية اليومية، سيملؤه على الأرجح توجه الساسة وحتى الرأي العام، نحو قضاة المحكمة الاتحادية ودعوتهم للمشاركة في البحث عن حل لـ "ورطة" النقص الدستوري وما قاد إليه من فراغ.
وبما أن تعديل الدستور مسألة مستحيلة في الوقت الحالي، يقول خبراء ونواب سابقون، من بينهم أعضاء في اللجنة القانونية، إن على المحكمة الاتحادية فعل شيء ما.
في حال استمرار "الانسداد" الحالي فإن الضغط على المحكمة الاتحادية من أجل إيجاد مخرج دستوري سيكون الخطوة المقبلة لمعظم القوى السياسية
كان لقرار المحكمة الاتحادية عام 2010 بتفسير المادة 76، حول الكتلة الأكبر، أثر بالغ على مسار العملية السياسية في البلاد، وبعد أكثر من عقد، تعلَق العملية السياسية في مأزق آخر، بعد التفسير الجديد للمادة 70، والذي اشترط حضور ثلثي أعضاء البرلمان لعقد جلسة انتخاب الرئيس، وبالنسبة لمراقبين وقانونيين، فإنّ النصوص التي تصدرها المحكمة الاتحادية بوصفها "تفسيرًا" للمواد، بدأت تأخذ طابع تعديل الدستور، أو إضافة مواد.
وفي حال استمرار "الانسداد" الحالي، فإن الضغط على المحكمة الاتحادية من أجل إيجاد مخرج دستوري، سيكون الخطوة المقبلة لمعظم القوى السياسية، وعلى رأسها التحالف الثلاثي. ويعتبر سياسيون وخبراء تكرار الحديث عن حلّ البرلمان وإعادة الانتخابات قفزًا على المشكلة، خاصةً مع عدم وجود مؤشرات إلى أن الأوزان في نتائج الانتخابات الجديدة المفترضة، ستكون مختلفة عن الحالية، وهو ما يعني أن حلّ البرلمان قد لا يكون سوى مقامرةً تقود إلى المسار ذاته الذي وصلت إليه الانتخابات الحالية. ومع الغموض الذي أحاط ملف تعيين القضاة الحاليين، وطريقة استبدالهم أو حل المحكمة، تتكاثر القوى والشخصيات التي بدأت ترى أن التطويق "المعنوي" لعرين الاتحادية، هو ما سيُنتج الحل، وليس انتظار أن يحلّ البرلمان نفسه، أو يتفق الخصوم.
المالكي "غير مرتاح" لما يدور في رأس حلفائه
يستحوذ زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي على الحصة الأكبر من مقاعد الإطار التنسيقي الذي يضم الفصائل والأحزاب الأقرب إلى إيران، لكن "كبير الإطاريين" قد لا يكون الأفضل حالًا بين حلفائه.
بالنسبة للأحزاب التي خسرت مقاعدها، وخرجت بمقعدٍ أو اثنين هنا وهناك، يبدو التعطيل، وإغلاق الأفق، مسارًا مُنعشًا، يعيد لتلك القوى شعورها بالوجود والقدرة والتأثير، لكن المالكي لا ينفك يُطلق رسائل تحذير من فكرة "هدم المعبد" التي تساور حلفاءه الراغبين بتعزيز الانسداد والدفع نحو الإغلاق التام، وصولًا إلى إلغاء نتائج الانتخابات وإعادتها.
في تصريحاته الأخيرة، كرر المالكي التعبير عن مخاوفه من فكرة حلفائه إعادة الانتخابات، والتي قد تعصف بمقاعده الـ 33، لكن السيناريو البديل –هيمنة الصدر وحلفائه على السلطة- ليس أقل خطورة بالنسبة للمالكي، وهو ما يجعل زعيم ائتلاف القانون، الأكثر نشاطًا خلال الساعات الماضية في محاولة إيجاد مخرج يقيه الشرّين، وقد اصطحب قبل ساعات، قيس الخزعلي ضمن وفد يمثل معظم القوى الخاسرة، زار مقر الاتحاد الوطني الكردستاني، والتقى بافل طالباني، رغم أن الخزعلي كان أنشط مُروّجي حكايات الموساد في السليمانية.
عبدالمهدي يجد الحل: بلا ديمقراطية
من بين التطورات الأكثر إثارة خلال الساعات الماضية، رسالةُ رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، فالسياسي الذي تسببت حقبته الدامية بأعسر حالات الانسداد، يمتهن مؤخرًا كتابة المقترحات والحلول، وكان من بين آخر أفكاره، أن يجتمع النواب من الطائفة الشيعية، خارج البرلمان العراقي، ويختاروا مرشح رئاسة الوزراء، ثم يكرر نواب المكوّن الكردي العملية ذاتها، قبل أن يدخل الجميع إلى البرلمان، حاملين مرشحي طوائفهم لمناصب الدولة العراقية.
كتب عبدالمهدي أن فكرته هذه لا تمثل حلفاءه، لكن الرجل المفضّل لدى القوى القريبة من إيران، نطق عمليًا بالمنطق ذاته الذي يحاول الإطار التنسيقي ترسيخه، والذي يقوم على أن مناصب الدولة العراقية، حصص لمكوّنات، تقودها وتحددها بيوتات، وأن لا شأن لمكوّن بخيارات الآخر، وأن إعلان تحالف بين أحزاب تنتمي إلى خلفيات طائفية وعرقية مختلفة، يعتبر "مؤامرة".
لم يجترح عبدالمهدي سياق "فكرته" من عنديّاته، بل سبقه إليها "نوّاب المكون السني"، حين اقترح مقرّب من رئيس البرلمان محمد الحلبوسي صيف العام 2020، أن يتم تقسيم النواب حسب طوائفهم، وأن يُحصَر حق ترشيح رئيس ديوان الوقف السني، بالنواب المنحدرين من المكوّن دون غيرهم، وقد نالت الفكرة حينها نصيبها من الاستهجان، لما تعنيه من "تفتيش على الهويات المذهبية" قبل السماح للنواب بأداء مهام قانونية.
تنزع قوى الإطار الشيعي بشكل متصاعد، إلى تشجيع وتعزيز "البيوتات الطائفية"
بين سطور مقترحات عبدالمهدي وحلفائه، تذمّر تُظهره الأحزاب الشيعية الأقرب إلى إيران، من فكرة الديمقراطية، حيث أصبحت عبارة "الديمقراطية.. حكم الأغلبية" تعني معادلة أخرى مختلفة عمّا كانت تعنيه بعد العام 2003، ولذا تنزع قوى الإطار الشيعي بشكل متصاعد، إلى تشجيع وتعزيز "البيوتات الطائفية"، والتخلص من الديمقراطية التي "لم تعد مُجدية كما كانت أول الأمر".