يمضي الكاتب العراقي محمد خضيّر في إتمام ما بدأه سابقًا بتدوين فصول من مراحل سيرته الذاتية في مخطوطه الأول "بصرياثا" سنة 1993، وألحقه بعدها بـ23 عامًا بمخطوطه الثاني "أحلام باصورا"، منجزًا كتابه الثالث في هذا السياق "ما يُمسَك وما لا يُمسَك"، بعنوان فرعي أطلق عليه مسمى "إنشاءات سيريّة" (منشورات المتوسط، 2017).
في "ما يُمسَك وما لا يُمسَك"، لم يخرج عن نهجه السردي المعروف عنه في أعماله السابقة
لم يخرج محمد خضيّر في سيرته الذاتية المتممة لما سبقها عن خطوط السرد القصصي المعروفة عنه في أعماله الصادرة سابقًا، بل زاد عليها في المضمون ما أراد إخراجه بعد سيرتين ذاتيتين، وأكثر من أربع مجموعات قصصية صدر أولها سنة 1972 بعنوان "المملكة السوداء"، مقدمًا للقارئ صورًة عن مراحل تطور مدينته "البصرة" التي شهدت مولده سنة 1942، ومجترحًا منها ما فاض من مخيال قصصي ضمنها، لذا لم يكن غريبًا أن بقي فيها حتى يومنا هذا، ليسترجع أسماء ساهمت في تأسيس الثقافة العراقية على مختلف الأنماط الأدبية التي كان محمد خضيّر بنفسه أحد روادها، على الرغم من بوحه في عتبة الكتاب "كانت هذه المقاطع تنبثق في صيغة رؤيا، لا أمسِكُ إلا بجزء منها.. فمن ذا يستطيع أن يلمَّ بسعة هذه البلاد".
اقرأ/ي أيضًا: محمد خضير.. إمساك ما لا يمسك
العتبة التي افتتح بها محمد خضيّر إنشاءاته السيريّة يستنبط منها المتلقي أن ما ينتظره متن يحمل في مضمونه تاريخ العراق الثقافي – الاجتماعي – السياسي على مرمى أكثر من نصف قرنٍ، فهو في النهاية ليس "إلا جزءًا من هذه الرؤيا، مقطعًا منها، وُلِدَ ونشأ وتعلم وكتب وقرأ إلى جانب النهر والنخيل"، ما أفضى به لتسميتها بـ"الرؤيا الخضراء"، غير أن ذلك لا يمنع محمد خضيّر من التساؤل بقوله: "ألا يكون عيبًا وخزيًا أن أكون معروفًا لنفسي، مجهولًا للآخرين من سكان بلادي الذين ينبغي لي أن أعرفهم أكثر من معرفتي نفسي؟".
كانت الباكورة القصصية المطبوعة لمحمد خضيّر "المملكة السوداء" بعد أن تخرج من المدرسة الثانوية بين سنتي 1969 – 1970، وانتدب مدرسًا إلى أرياف الناصرية والديوانية، ما جعله يصغي لـ"صوت الضمير العراقي المعزول في بواكير القصة القصيرة المكتوبة عن أجواء المدن"، إلا أن تجواله أيام التدريس لم يتركه بعيدًا عن مدينته الأم "البصرة" التي بقي فيها عكس بعض أصدقاء جيله من المثقفين الذين هجروا العراق؛ فالبصرة عند متأبط "كراسة كانون" تماثل "مدينة الرؤى والاعتقادات الكلامية والفلسفية"، وهو ما حمل على نصوصه أن تخلق "بهذه الطاقة الخيالية على التولّد والتجدّد" حتى تعبر "زنازينَ الرّعب الأيديولوجية وأزمنةَ الحروب المدمّرة"، كيف لا؟ وهي المدينة التي خرجت منها أهم الحركات الفكرية في التاريخ الإسلامي قبل مئات السنين الهجرية.
يصف محمد خضيّر حياة الإنسان العراقي بأنها موزعة على حياتين "يومية وأبدية"، حيثُ تكون "الأولى حياة الكدح اليومي من أجل لقمة العيش والدفاع عن النفس"، أما الثانية فهي "حياة السفر والحلم والحكايات"، ثم يتساءل في مطرحٍ آخر من السرديات "أين يبدأ اليوم العراقي الآن؟ وأين ينتهي؟"، فالمتن المدون يرخي شبهًا على أيام "المواطن المجهول" ليس في روزنامة الأيام العراقية المعاصرة فحسب، إنما يمتد ليشمل باقي الرقعة الجغرافية التي نعيشها، صحيح أن السرديات عراقية خالصة، لكنها تتشابه مع حياة الآخرين في بلدان الجوار الذين يواجه الواحد منهم، والحديث هنا عن المواطن الفرد "أخطار لا حصر لها، ينجو منها بمصادفة، أو بأخرى، أو يسقط ضحيًة باردة في مصيدة، فيتم حذفه من جدول الأيام، ليحلّ في مكانه مواطن يشبهه، لا نعلم متى يأتي دوره في الحذف والنسيان".
يخصص محمد خضيّر في سردياته مطرحًا للحديث عن والدته التي يقول عنها جامعًا معها صفات الأم العراقية: "لن تمسك بكينونة امرأةٍ عراقية إلا إذا أمسكت بأيقونة مُصورة في لوحة، تجمعها بماكينة الخياطة التي تخصها من دون الأشياء الديكورية المسرحية"، ومثلها لوالده المتوفى غرقًا بـ"شط العرب" عندما خرج بموكب في زورقه مع أصدقائه، وحين عاد "كانت حدقتاه الثابتتان ساكنتَين على وهج المياه الرائقة، مياه الأبدية التي أخذت تجرف جذور الكلمات وعُقد الأحاديث وفتات الحكايات الطافية، في السكون البعيد".
يستذكر محمد خضيّر كيف اجتمع مع سبعة أصدقاء، كان ثامنهم، عندما "قرروا أن يكتبوا بلغة السفر السندبادية نصوص هجرتهم ضد المجرى العنيف لزمنهم، ثم اختاروا لمجموعتهم اسم: سندباديون"، أرات المجموعة أن تماثل في تجربتها للمجموعات الأدبية والفنية والفكرية المنتشرة في مرحلة الستينيات، واتفقوا على إنجاز نص مسرحي من سبعة فصول، وتعقيب بنص ختامي من خضيّر، لكن ما أنجزته تجربة السندباديين "ظل متفرقًا ومجهولًا، فكأن تلك النزوة الجيلية ارتطمت بصخرة الزمن التي سدت فوهة الكلام المباح قبل إسفار عروضها على المسرح".
يصف محمد خضيّر حياة الإنسان العراقي بأنها موزعة على حياتين "يومية وأبدية"
يترك محمد خضيّر في سردياته مكانًا للسياسي باستذكار كتابات الأمريكي نورمان ميلر، والتشيكي ميلان كونديرا، ومعهما جدار برلين الذي أعاد سقوطه "الاعتبار الصحيح لمصطلح الاستمتاع ذاك في مسرح بريشت وقصص بورشرت وموسيقى الروك وفنّ البوب"، وفي الوقت عينه "استمرّت جيوش الليل والنهار، الربيعِ والخريف، تنقل شفرة إنسان ما بعد التمركز الغربي، ونصوص هوية ما بعد الاستعمار، وتبذرها في حقول التفكيك الثقافي لدكتاتورية التسلط البطرياركي، وعولمة الحداثة النيوليبرالية، وما بعدها".
اقرأ/ي أيضًا: ضياء جبيلي: البصرة مدينة حكايات مستمرة
أما الربيع العربي فيلخصه محمد خضيّر بحديثه عن العراق "يحل الربيع العراقيّ بانعكاسات بعيدة من نقائض الأساطير والشعائر الرافدينية ولقاحها المعاصر والمجاور، وإيحاء متواتر من جيوش الليل التي تحاصر مراكز السيطرة والسيادة. صار الرجع المقترب يهدد السلام الخادع والتوافقية الميكافيلية لقوى السلطة والمال، ويتواتر من غير التزام بقواعد أدبية موروثة وسلالم موسيقيةٍ متراتبة وحركات تضحوية راقصة.. رجع أخضر وأحمر وأسود، ولحن ينتظم في شفرة ربيعية مستوطِنة، بلغةِ آلاف القتلى والمأسورين والمهجرين".
وفيما كانت بغداد تعيش مخاض دخول القوات المتحالفة إليها، وإسقاط تمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وما بينهما كان "أدباء الحرب المخضرمون" يبحثون عن ملجأ يحميهم من التاريخ، يقول محمد خضيّر: "لم تنفعهم غير تميمة الإنترنت ومواقعه الاتصالية، يتبادلونها بهوس وذعر مع تحذير يقول: لا خلاص، فالحرب تأتي بتمائمها.."، وحين يجمع بالمتناقضات فيما بينها يصل أن الحياة تحولت لصراع بين "بشر يتصارعون على البقعة الأخيرة فوق كوكب الأرض، وبشر يبحثون عن حياة محتملة على كوكب قريب".
في هذه الإنشاءات يعترف محمد خضير بعدم يقينه أنه سيتوقف يومًا عن تدوين مذكراته على المفكرات حتى اكتشف نوعًا جديدًا للتدوين فـ"صار التدوين اليومي على صفحتي في (الفيس بوك) بديلًا عنها"، وتحولت لـ"مفكّرة منتصف الليل"، و"عادت قيدَ كتابٍ، تنتظر من يقرؤها بعد حين قد يطول"، مثلما يعترف باسترجاع ذكريات سابقة مع عدد من الأصدقاء، من تاريخ العراق الثقافي من مختلف الأنماط، والحروب التي عصفت ببلاد الرافدين، يختصر في النهاية جميعها برسالة من مائة شذرة يختم فيها إنشاءاته السيرية.
اقرأ/ي أيضًا: