لم تكن تصريحات بعض الصحفيين الأمريكيين والأوروبيين التي وصفت الحرب الروسية على أوكرانيا بأنها خاطئة لكونها "استهدفت شعبًا متحضرًا مقارنةً بالعراق وأفغانستان"، مجرد زلّة لسان عابرة، بل مكثت وما زالت أصداؤها حيز النقاش في العالم العربي والعراق أيضًا.
الغضب من الرؤية الغربية تجاه مجتمعاتنا لا تعني أننا نكتفي بإنجازاتنا الحضارية التاريخية ويجب انتقاد حاضرنا ومكانتنا من المستوى الحضاري العالمي
وعزّزت إجراءات أوروبية أخرى مبررات هذا النقاش، من قبيل فصل قائد أوركسترا مدينة ميونخ الألمانية الروسي فاليري جيرجيف من منصبه لعدم إدانته للغزو الروسي لأوكرانيا، بالإضافة إلى إلغاء جامعة بيكوكا في مدينة ميلانو دورة تعليمية عن الكاتب الروسي الشهير ديستوفيسكي، قبل أن تتراجع عن هذا القرار.
اقرأ/ أيضًا: جاءكم اليمين العنصري حاملًا سيفه
وعلى صعيد الرياضة أيضًا، قرّر الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" تعليق مشاركة الأندية والمنتخبات الروسية في جميع المسابقات الرياضية، وألغيت جائزة روسيا الكبرى للفورمولا واحد، فيما فرضت اللجنة الأولمبية الدولية حظرًا على رفع العلم الروسي وعزف النشيد الوطني، بالإضافة إلى دعوات جدية لشطب روسيا من تصفيات مونديال 2022.
استهداف الرياضة الروسية والشخصيات الأدبية وغيرها التي لديها "أصل روسي" وتصريحات الصحفيين الأوروبيين التي وصفت بـ"العنصرية"، شكّلت أصداءً واسعة في العالم العربي، وفي العراق أيضًا، وجعلت النقاش يدور حول كثير من القضايا والمفاهيم، حيث تتعارض هذه السلوكيات مع "القيم الغربية الحديثة" التي طالما تحدث بها الغرب المتمثل بأمريكا وأوروبا وضرورة "تصديرها" إلى البلدان المختلفة في الشرق والشرق الأوسط.
ويرى باحثون أنّ الدعايات الغربية لحقوق الإنسان والقيم الحديثة التي تكرّم الانسان بغض النظرعن دينه ولونه وأصوله الإثنية أو القومية، تتناقض تمامًا مع السلوكيات الأخيرة التي صدرت من قبل كوادر غربية بمستويات وقطاعات مختلفة، بعد أن كانت هذه "القيّم" قد صنعت من المجتمعات الأخرى ولا سيما العربية تعيش أزمة "الخجل" من قيمها وموروثاتها والشعور بأن تلك المجتمعات الغربية أكثر إنسانية من مجتمعاتها، قبل أن تظهر هذه المعطيات التي أعادت التفكير مجددًا بحقيقة الادعاءات الغربية وسط تساؤلات عن آثار هذه النقاشات التي بدأت تتصاعد والقناعات التي أوشكت أن تتغير في الأوساط العربية والعراقية، وما إذا كانت هذه النقاشات والصدمات قد تقود إلى "العودة للاعتزاز بالهوية" أو التخلي عن التطلعات والنظر إلى المجتمعات الغربية وقيمها بعين الإعجاب.
الأمر لا يتعلق بالتحضر.. بل بقيمة الإنسان
يرى كَلكَامش نبيل وهو صحفي عراقي مقيم في إسطنبول، أنه ليست جميع الأوساط في العالم العربي تلقت هذه السلوكيات على أنها "عنصرية" وبدأ الكثير من معتنقي الليبرالية يبرّرون ما يحدث وغير منتبهين للنبرة الداخلية لهذه التصريحات والسلوكيات، الأمر الذي يعتبره نبيل أنه "لا يمكن تبريره".
هؤلاء الصحفيون طرحوا فكرةً عنصريةً أرادوا من خلالها أن يسوّقوا خطابًا إعلاميًا موجهًا لتشكيل رأي عام يحفز الغرب للوقوف بوجه بوتين
ويوضح نبيل في حديث لـ"ألترا عراق"، أنّ "النقاش لا يتعلق بكون المجتمع الشرقي حضاريًا أم غير حضاري، بل يتعلق بالقيمة، أي بقيمة الإنسان في المجتمعات الشرقية بنظر العالم الغربي سواء أكان متحضرًا أم غير متحضر".
ويشير إلى أنّ "الغضب من الرؤية الغربية تجاه مجتمعاتنا لا تعني أننا نكتفي بإنجازاتنا الحضارية التاريخية ويجب انتقاد حاضرنا ومكانتنا من المستوى الحضاري العالمي، ولكن بنفس الوقت يجب أن يكون النقد لأجل البحث عن الحلول للتقدم؛ لكن النقد الحالي تحول الى جلد للذات والخجل من الهوية وهذا يعيق إيجاد الحلول والتقدم".
اقرأ/ي أيضًا: العراق "غير مهيأ".. الكفاح ضد الديمقراطية والتغيير
ظاهرة مقصودة.. وليست عنصرية
وفي تفسير مغاير، يرى رئيس المركز العربي الأسترالي للدراسات أحمد الياسري، أن التصريحات التي وصفت بـ"العنصرية"، صدرت من شخصيات إعلامية محددة لأهداف مقصودة، معتبرًا أن "هؤلاء الصحفيين طرحوا فكرةً عنصريةً أرادوا من خلالها أن يسوّقوا خطابًا إعلاميًا موجهًا لتشكيل رأي عام يحفز الغرب للوقوف بوجه بوتين، بعدما كان الغرب شبه منفصل عن الموضوع الأوكراني، للدرجة التي خرج الرئيس الأوكراني وهو يتحدث عن الغدر والتوريط والخيانة وهو يوجه خطابه للإعلام الغربي ويطالبهم بدعم أوكرانيا ويحرضهم على الوقوف بوجه بوتين".
ويبيّن في حديث لـ "ألترا عراق" أنّ "الإعلام الغربي سرّب بعض الخطابات العنصرية والتأكيد على أن هؤلاء الأوكرانيين المشردين هم أوروبيون لكي يخلق حالة استقطاب وضغط يشكله الشارع الأوروبي على حكوماتهم لدعم أوكرانيا".
وبالفعل نجحوا بذلك وشاهدنا تغييرًا سريعًا جدًا بالمواقف الأوروبية، بحسب رأي الياسري الذي ضرب مثًلا بالموقف الألماني "الذي كان يرفض حتى إدانة الحرب خوفًا من قطع الإمدادات الغازية الروسية وبعد أيام قليلة أصبح الألمان يخططون لإرسال ألف قاذفة لأوكرانيا، وانضمت ألمانيا للدول التي قاطعت روسيا، وكذلك أستراليا، وسويسرا التي تعتبر دولة حياد مطلق".
بعض الليبراليين يدينون بالولاء الكامل للغرب ويبررون أخطاءهم على طريقة الولاء الأعمى المذهبي لدول مجاورة المؤشر في العراق
وعلى الرغم من أن الخطاب الإعلامي الأوروبي كان فيه انتهاك وإهانة لحقوق شعوب العالم الثالث إلا أنه كان مبرمجًا ومتفقًا عليه بحسب ياسري.
هل تحولت الليبرالية لولاء أعمى؟
يؤشر الصحفي العراقي المقيم في تركيا كَلكَامش نبيل وجود مراجعات فعليّة في الأوساط العراقية جراء صدمات متكررة، من بينها مشاهدة بعض الليبراليين يدينون "بالولاء الكامل للغرب" ويبررون أخطاءهم، على طريقة الولاء الأعمى المذهبي لدول مجاورة، المؤشر في العراق وبعض بلدان الشرق الأوسط، وهو ما عزز رؤية الكثير من المراقبين والمدونين لضرورة مراجعة "التماهي" التام مع الخطابات الغربية.
واعتبر نبيل أنّ "هذه المراجعات بالرغم من كونها ضرورية إلا أنها مؤسفة في هذا الوقت الذي تعيش فيه البلاد حاجة ماسة للتنوير والانفتاح والاطلاع على القيم الحديثة وتبنيها وسوف يعود الناس للتخندقات وهو مضر لك كشخص ينادي بنبذ العنصرية والانتماءات".
ويؤكد أن التخندقات والهويات ما زالت موجودة في كل العالم ولا وجود لما يسمى الإنسان العالمي"، مستذكرًا كتاب صدام الحضارات لصامويل هنتنغتون الذي يتحدث عن أن هذه "سلوكيات البشر الأصلية ولن تتغير".
ويشير إلى أن فكرة "الإنسان العالمي" وتلاشي الحدود، بدأت تتلاشى منذ أزمة كورونا عندما بدأت البلدان تفضل سكانها على غيرهم واحتكار الموارد وعدم تصديرها أو الخطابات العنصرية لطرد الصينيين والآسيويين وتحميلهم مسؤولية ظهور الوباء، وكذلك عدم إعطاء اللقاح للمهاجرين واعتبارهم يشغلون حيزًا في المؤسسات الصحية التي يجب أن تتفرغ للسكان الأصليين"، مشيرًا إلى وجود "تنامي للشعور القومي حول العالم يرافقه معدلات كراهية للأجانب والخوف من الغرباء".
إعادة البحث عن الهوية
هذه المعطيات والمؤشرات والصدمات التي بدأت تعطي مؤشرًا عن "تلاشي فكرة الإنسان العالمي" والاعتزاز العالمي بالهويات، تطرح تساؤلات عن موقع العراقي أو الإنسان العربي عمومًا من هذه الخارطة، وما إذا كان سيكتشف ضرورة العودة لإحياء هويته القومية.
بعض الأشخاص في العراق سيكتشفون أنهم خدعوا وهذا قد يؤدي بهم للعودة إلى التقوقعات القومية والدينية وقد تكون أخطر من سابقاتها
يقول نبيل إنّ "أساس مشكلة المنطقة منذ فترات طويلة هو الهوية الجامعة وتشتتها حيث ليس هناك اتفاق على الهوية الجامعة في العراق، وبفعل ضياعها لجأ الناس إلى هوياتهم الفرعية الإثنية والدينية والطائفية. ومع تصاعد التطرف الديني بدأ السائمون والكارهون لهذه المشاهد بالانسلاخ من هذه الهويات والعودة إلى الهويات القديمة"، معتبرًا أنّ "هذا هروب غير منطقي وقد يؤدي إلى المزيد من التفكك".
ويعتقد أنه "مع انحسار مشروع القومية العربية تصاعدت الأسلمة وأصبحت العروبة مرتبطة بالإسلام وهو ما تسبب بمشاكل للعلمانيين والمسيحيين الذين بدأوا يشعرون أنهم لا ينتمون لهذه الهوية"، معتبرًا أنّ "إعادة إحياء المشروع القومي العربي صعب خصوصًا مع وجود مطالب لانقسام إقليم كردستان والكرد عمومًا في المنطقة، رغم توافر مبررات المشروع القومي وعوامله القوية وعلى رأسها اللغة الجامعة".
الصدمة من "التناقض الليبرالي".. هل تحيي النزعات المتطرفة؟
مع بدء المراجعات أو اكتشاف استمرار الاعتزاز بالهويات في العالم ولا سيما العالم الغربي والانتقاص من "الآخر"، وضرورة إحياء الهويات وعدم التماهي التام مع الإنسان الغربي، تطرح تساؤلات عن مدى "انسجام" هذه المعطيات والنتائج مع المشاريع المتطرفة وأدبيات الأحزاب الإسلامية والتيارات المسلحة في العراق، ومدى خطورة هذا الأمر.
ويرى نبيل أنّ "بعض السلوكيات الغربية التي شاهدناها من قبيل طرد مايستور روسي أو منع كورس بجامعة في ميلانو عن الروائي الروسي ديستوفيسكي ذكرتني بتصرفات نازية في الحقيقة، وهذه المعطيات التي ستؤدي لمراجعة التفكير بالقيم الغربية أو الادعاءات حولها، والتي ساهمنا بنشرها كمدونين في مجتماعاتنا فضلًا عن الإعلام الغربي الموجه للعالم العربي، من الممكن أن تؤدي بالنهاية إلى خدمة المشاريع المتطرفة في العراق، أو أن تعطي دعاية مجانية لهم".
ويشير كَلكَامش نبيل إلى أنّ "بعض الأشخاص في العراق ممن سيكتشفون أنهم خدعوا وأنهم مهما فعلوا سيبقى العالم لا يتقبلهم ولا سيما العالم الغربي، وهذا قد يؤدي بهم للعودة إلى التقوقعات القومية والدينية وقد تكون أخطر من سابقاتها"، حيث لا يستبعد نبيل أن "تؤدي جميع هذه المعطيات إلى عواقب وتساهم بإعادة تشكيل وعي الناس في العراق والمنطقة عمومًا".
الشارع العراقي لا يتأثر.. لأنه ليس ليبراليًا أصلا
بالمقابل، لا يرى رئيس المركز الأسترالي للدراسات أحمد الياسري، وجود ما يمكن أن يتأثر في العراق بهذه الخطابات التي وصفت بالعنصرية أو أن تتشكل صدمة جراءها، لأن لا وجود لاتصال ليبرالي بين الشعب العراقي والأوروبي.
يقول الياسري في حديث لـ "ألترا عراق" إنه "من المفترض أن لا تؤثر هذه المشاهد الأوروبية في الداخل العراقي، لأنها لا علاقة لها بقيم الغرب بحسب وجهة نظري، ولا توجد في العراق قواعد لمجتمع ليبرالي متصلة بالغرب، بل فيه مجتمع رقمي أو ليبرالية رقمية مبنية على فكرة الحقوق والحريات، أما كقيم ليبرالية كتلك السائدة في العراق في الخمسينيات والسبعينيات فأنها غير موجودة، أما الشارع العراقي من الشوارع العربية غير المتأثرة بفكرة الاتحاد الليبرالي مع أوروبا وما يحدث هناك لا يؤثر على قيم هذا الشارع لأنه أساسًا ليس ليبراليًا".
اقرأ/ي أيضًا: