ينظرُ الأديب إلى التاريخ بعين تنفذ إلى ما وراء الأحداث والأرقام، خاصة إذا كان التاريخ يخصّ حدثًا مهمّشًا ومحاصرًا بالتّكتّم ومحاولة طمس آثاره ودفعه إلى حافة النّسيان، فتكون مخيّلة الأديب أكثر إلحاحًا على النّفاذ إلى الأحداث، وتكون كذلك أكثر تأثيرًا في الوجدان الإنسانيّ.
تتناول رواية "الطيور العمياء" رحلة تهجير سكّان قرية "طورباراز" الأرمنيّة قرب ديار بكر في تركيا نحو الأراضي العراقيّة
بعد مئة سنة من وقوع المجازر العثمانيّة في حقّ الأرمن، ترفع الرّوائيّة العراقية ليلى قصراني قلمها لتكتب روايتها "الطيور العمياء" (منشورات المتوسط، 2016)، ولتذكّر العالم الآن بلمحة من تاريخ القسوة البشرية من خلال حكاية حزينة وعميقة بطلتها فتاة أرمنيّة تدعى كوهاري. تبدأ أحداث رواية "الطيور العمياء" بمشهد صباحيّ ينفتح على سهول قرية "طورباراز" الأرمنيّة، وبحوار قصير بين فتاة تنهض من نومها هي البطلة كوهاري وأمّها وهي تناولها قفّة الخبز لتأخذها إلى الكنيسة لتكون طعامًا للمحتاجين، ثمّ تتعقّد الأحداث فجأة، وتبدأ مشاهد قاسية تجسّد وحشيّة الإنسان ضدّ أخيه الإنسان لمجرّد الاختلاف العقائديّ. وقد حصرت الروائيّة ليلى قصراني على تتبّع لقطات التّعذيب والتّقتيل التي تعرّض لها الإنسان الأرمنيّ من الجيش العثمانيّ بكاميرا عالية الدّقّة تلتقط حتّى انتفاض الأوردة في أعناق الضّحايا وهم يساقون إلى المسالخ البشريّة التي أقامها لهم جلاّدهم.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا عليك الآن قراءة رواية "أسوار" لمحمد البساطي؟
تأخذنا ليلى قصراني في روايتها "الطّيور العمياء" في رحلة تهجير سكّان قرية "طورباراز" الأرمنيّة قرب ديار بكر في تركيا نحو الأراضي العراقيّة تحت بنادق الجنود العثمانيّين، مصوّرة الفظائع التي تعرّض لها الأرمن المهجّرون عن وطنهم على يد الجنود العثمانيّين والتي تأخذ أشكالا سورياليّة تعبّر عن اتّساع مخيّلة الشّر التي يشعلها الحقد العقائديّ، مع ما يقابلها من قوّة إرادة الأرمن على الصمود والصّبر وطاقة احتمالهم للألم وتشبّثهم بالحياة، فالرّواية تمثّل درسًا للصّبر والتّحمّل قبل كلّ شيء، وليست وثيقة إدانة ضدّ جلاّد انعدمت فيه الإنسانيّة.
وقفت ليلى قصراني طويلًا عند رحلة الأرمن المهجّرين قسرًا عن وطنهم، ناثرة بين مشاهد تعذيبهم كلمات أغانيهم الحزينة عن حقولهم وجبالهم وأحبابهم...، وكلمات صلواتهم وابتهالهم للربّ وللمسيح، حتّى أنّ المشاهد ارتفعت لتكون قطعًا من ملاحم الإنسان الخالدة التي قرأناها في "الإلياذة" والنّصوص السومريّة. لا سيما قصّة الحبّ التي غزلت بها ليلى قصراني روايتها بين البطلة كوهاري والشاب بوغوص، لأنها كانت قصّة حبّ عذريّة ظلّت تسبح في سماء الشعر والغزليات ولم تدخل قفص الزّواج، فالرّوائيّة لم تسلم من تأثير ميلودراميّ ظهر خفيفًا كغمامات الصيف في سماء روايتها، وهي تثبّت أجنحة بيضاء بين أكتاف الضّحايا بيدها اليمنى، وتثبّت الأنياب والمخالب الزّرقاء بين أصابع وأفواه الجلاّدين باليد الأخرى.
رغم أنّ ليلى قصراني قد قسّمت روايتها إلى فصول بلغت ثلاثة وعشرين فصلًا بحساب الخاتمة، إلا أنّ رواية "الطيور العمياء" قد مثّلت وحدة سرديّة تتواتر فيها الأحداث بأسلوب الروايات الكلاسيكيّة، إذ أنها ركّزت على الأحداث دون الاهتمام كثيرًا بأسلوب السّرد وطريقة إنشائه كما تشتغل على ذلك أغلب الرّوايات الحديثة. وقد كانت الأحداث في رواية "الطيور العمياء" متشنّجة ومتسارعة بطريقة الصور المسرّعة في السينما، وهي بذلك نجحت في نقل توتّر الشخصيات إلى إحساس القارئ، فليلى قصراني تقفز من حدث إلى حدث دون التّوقّف على أيّ تفاصيل ودون التّعمّق في بواطن الشخصيات، فيكفي أنها تحدّثت عن مقتل بطلة الرواية كوهاري في فقرة موجزة لا تتعدّى بعض الجمل القصيرة، وهذا بتأثير الأحداث والصّور المريعة التي امتلأت بها الرّواية، حتّى أنّ موت الإنسان أصبح مجرّد حدث بسيط يتماثل مع حركة سقوط ورقة توت على كرسيّ شاغر.
كانت رواية "الطيور العمياء" متشنّجة ومتسارعة بطريقة الصور المسرّعة في السينما، وهي بذلك نجحت في نقل توتّر الشخصيات
أحداث رواية "الطيور العمياء" لا تعيد إلى الأذهان مجازر العثمانيّين في حقّ الأرمن فحسب، وإنّما هي تلمّح إلى ما يحدث الآن في المثلّث الحدودي بين تركيا والعراق وسوريا، وتقتفي خطوات الدم على الخارطة تاريخيًا مع ما يتبعها من تخريب للأوطان وتهجير وتقتيل للإنسان. فالرواية تضع إصبعها على المنطقة المتورّمة من جسد الشّرق: التّطرّف العقائدي.. وهي تتبّع جذوره وتحلّل أعراضه المرضيّة التي تخلق داخل الإنسان الوحش الهمجيّ الرافض للحوار والتّعايش السّلمي مع من يخالفه الفكر والمعتقد، بل تصل إلى فكرة محوه بكلّ الوسائل من التّقتيل والتّهجير والتّهميش... لكن الرّوائيّة ليلى قصراني فتحت كوى على الضوء في روايتها من خلال النماذج التي تمثّل التّسامح مع الآخر والتّعاطف مع الغريب، وقد جسّدت ذلك من خلال شخصيات مثل الشيخ غازي العربي المسلم، والذي تبنّى صبيين أرمنييْن، ولم يكتف بتربيتهما فحسب مع أطفاله وإنما دافع عن دينهما وتركهما لمعتقد والديهما النّصرانييْن. أو مثل شخصيّة ليلى الفتاة العراقيّة المسلمة من مدينة الموصل، والتي تزوّجت من بوغوص الشاب الأرمنيّ النّصرانيّ، ولم تكتف بالتّكتم على معتقده الذي يخفيه عن سكاّن المدينة المسلمين، بل إنها دخلت في دينه محبّة فيه.
اقرأ/ي أيضًا: سرير بقلاوة الحزين.. سجن تدمر بلحمه ودمه
لخّصت ليلى قصراني روايتها في كلمات وردت على لسان عجوز أرمنيّة، تقول فيها: آه، يا ابنتي، التعاسة تأتي مسرعة راكبة على ظهر حصان، أمّا السعادة، فتجيء ماشية على قدميها بتمهّل... هكذا هي أيام الغبطة قليلة ومعدودة، إنّ ما فعله بنا الأتراكُ لا يمكن أن ننساه. هذا الكلامُ ستسْمعينه مرّة واحدة فقط منّي، يا ابنتي، ولن أكرّره، لأنّي أعرف بأنّك حفظته.
اقرأ/ي أيضًا: