يمكن للسائر في شوارع العاصمة العراقية بغداد، خلال الأيام الأخيرة من شهر كانون الأول/ديسمبر، أن يتعثر بأشجار وزينة أعياد الميلاد كثيفة الانتشار على الأرصفة، لا سيّما في منطقتي المنصور والكرادة اللتين تحظيان بإقبال كبير من الناس في أوقات الأعياد، لكثرة محالهما التجارية وفخامة مقاهيهما ومطاعمهما.
صدر قانون محلي في مدينة كربلاء بالعراق، يُسمى قانون "قدسية كربلاء" يُجرّم أي أجواءٍ احتفالية في المدينة، من باب الحفاظ على قدسيّتها الدينية
في المقابل، تعرف محافظة كربلاء العكس، لا أشجار الكريسماس المضيئة، ولا قبعات باب نويل الحمراء. وبالجملة فالاحتفالات في كربلاء، لا يبدو أثرها في شوارعها إلا في المناسبات الدينية، وعلى استحياء.
اقرأ/ي أيضًا: التطبير باسم الحسين.. دعامة للجهل مرفوضة
ويُنظّم ذلك قانون قدسية كربلاء، وهو قانون محلي شرّعه مجلس محافظة كربلاء عام 2012، وكان من المقرر أن يدخل الخدمة عام 2017، إلا أنه لم يُفعّل حتى منتصف كانون الأول/ديسبمر الجاري.
ويُجرّم هذا القانون الإجهار بسماع الأغاني واستخدام "اللغة البذيئة" وعرض الثياب النسائية الداخلية والتي وصفها القانون بـ"الفاضحة" في واجهات المحال التجارية. كما يُجرّم لعب الورق والقمار وبيع أو تداول أو تناول الكحول، وإقامة أي احتفال غنائي سواءً في الاماكن العامة أو السكنية الخاصة، كما يحظر "التبرج"، ويمنع دخول النساء "السافرات" إلى المحافظة.
قانون للتعبئة والحشد
ويصف الناشط والقانوني من محافظة كربلاء، ساطع عمّار، قانون قدسية المدينة بـ"الفارغ". وعزا عمّار ذلك خلال حديثه لـ"ألترا صوت"، إلى "عدم تشريع القانون من قبل مجلس النواب بصفته السلطة التشريعية في البلاد"، موضحًا أن القانون "هو إجراءات وإعلانات من السلطات الدينية تماهت معه طبعًا السلطات المحلية".
ويعتقد ساطع عمّا أن "الكربلائيين منسجمين تمامًا مع خصوصية مدينتهم الدينية، وواعين للجو الفاتيكاني داخل المدينة القديمة، إلا أن الحقيقة الكامنة وراء خطاب القدسية الجديد، هو إعادة ضبط تناسق الحركة دينيًا وسياسيًا داخل المدينة، وبغرض الاستهلاك ومحاولة إعادة التعبئة"، على حد قوله.
"في فترة الحرب ضد داعش، كانت المدينة محاطة بالخطاب التعبوي والاستهلاكي. هناك فراغ كبير خلفته تلك الفترة، أسفر عن هذه الخطابات تجاه فعالية المدن المستقرة التي تحاول بعد استقرارها إعادة التواصل مع كل ما هو دنيوي"، يقول ساطع عمار.
ويرى الناشط والقانوني من كربلاء، أن مدينته "كأي مدينة"، موضحًا: "عندما نقول مدينة فهي تسير وفق فكرة المدن القائمة على التناقض والاختلاف. الفرد في المدينة يحترم التناقض والاختلاف ويتماهى مع هذه الفكرة"، مشيرًا إلى أن الفرد في كربلاء لن يستشكل عليه رؤية امرأة غير محجبة في مدينته، وإنما "خطاب السلطة هو من يرفض ذلك، للأسباب المذكورة أعلاه".
وعلى ذلك يرى عمّار أن ترك المدينة تسير بتلقائية، سيحولها لمدينة تسير وفق أعراق كوزموبوليتية، "ولن يستطيع الساسة ورجال الدين التحكم فيها"، كما قال، مستطردًا: "من هذا كله أعتقد أن الموضوع في مجمله لعبة خطابات من قبل السلطة الغرض منه إعادة التعبئة لما هو تقليدي وهذا يخدم أغراض كل السلطات في كل أرجاء العالم".
وتداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، صورة ليد تحمل قنينة كحول أمام إحدى اللافتات التي تعلن عن قانون قدسية كربلاء، في إشارة إلى تمرد أهالي المدينة على القانون.
ضد الانفتاح
يرى البعض أن من أهم أسباب سنّ قانون قدسية كربلاء، منع انفتاح المدينة على المدن الأخرى، بغرض "إخضاعها للإرادة السياسية والدينية"، من هؤلاء الشاعر وائل السلطان، من أبناء كربلاء.
وقال السلطان لـ"ألترا صوت"، إنهم، أي الطبقة السياسية والدينية "يصنعون بالقانون مدينة يمررون فيها سلطتهم واقتصادهم ونفوذهم".
ويصف السلطان وضع المدينة تحت حُكم القانون بـ"المزري"، قائلًا: "كربلاء تتقدم نحو مستقبل مظلم. تصور حتى الأغاني اصبحت ممنوعة في الشوارع"، متسائلًا: "أي أناسٍ يحاربون الأغاني؟".
المخدرات نتيجة لـ"القدسية"!
وإذا كان القانون قد منع قسرًا أجواء الاحتفال والانفتاح، أو حتى ما يعتبره كثيرون، الحياة العادية؛ فإنه لم يستطع منع انتشار تعاطي وتجارة المخدرات، حيث كشفت تقارير عن تصدر كربلاء لمحافظات البلاد من حيث انتشار المخدرات، ومن حيث أعداد الوفيات جراء تعاطي المخدرات.
ويعتقد مراقبون أن الانتشار الكبير لتعاطي المخدرات في كربلاء، ربما يكون نتيجةً عكسية لقسرية القانون في منع أوجه الحياة. ومن جهة أخرى لأن كربلاء مدينة سياحة دينية، فيكثر فيها زوار الخارج، خاصة من إيران، الذين يتداولون المخدرات في المدينة، بيعًا أو شراءً.
ويمكن للمتابع لبيانات هيأة المنافذ الحدودية، أن يلاحظ أن النسبة الكبرى من نشاطاتهم تتمثل في القبض على مسافرين إيرانيين يحملون مواد مخدرة وبكميات متفاوتة.
ويعلق الشاعر وائل السلطان بهذا ، قائلًا: "ما أعرفه وأسمعه أن المخدرات لها رواج في كربلاء وكل المحافظات التي تمنع بيع الخمور"، مضيفًا: "أظن أن الموضوع يتعلق بمحاولة فرار الشاب الكربلائي من الكبت المؤدلج والمرسوم له".
يُذكر أن البرلمان العراقي كان قد مرر في 2016 قانون لمنع بيع وتداول الكحول، غير أنه لم يُطبّق على أرض الواقع في معظم محافظات البلاد، بما في ذلك العاصمة العراقية بغداد.
قانون على الورق
مصدر في المكتب الإعلامي للمرجعية الدينية العليا، يسكن كربلاء؛ قلل من أهمية قانون قدسية كربلاء. وقال المصدر إن "قانون حظر دخول الشباب الذين هم دون سن الـ18، أُقر قبل قانون القدسية، ولم يطبق، كما لن يطبق هذا القانون في جميع فقراته على أرض الواقع".
وأضاف أن "الإصرار على تفعيل القانون رغم إهماله خلال السنوات الماضية، يعود إلى محاربة الاحتفالات الغنائية في الأعياد، لأن احتفالات العام الماضي في كربلاء أثارت سخط السلطة الدينية والحكومة المحلية في المحافظة، لذا تم تفعيل القانون لقمع أي احتفال ممكن".
وختم المصدر الديني حديثه لـ"ألترا صوت" قائلًا، إن "أغلب هذه القرارات والتشريعات مبني على استعراضات خطابية فارغة، يقوم بها أعضاء من مجلس المحافظة أو الحكومة المحلية لإثبات الوجود فقط".
كما كشفت مصادر أخرى، لـ"ألترا صوت" عن وجود نية لدى مجلس محافظة النجف، لإصدار قانون قدسية للمدينة. غير أن خطوة كهذه في النجف قد تستدعي احتجاجًا منظم في المدينة التي تعرف تواجدًا كبيرًا للنخبة المدنية والثقافية.
إذا كان قانون قدسية كربلاء قد منع قسرًا أجواء الاحتفال والانفتاح، أو حتى الحياة العادية؛ فإنه لم يستطع منع انتشار تجارة وتعاطي المخدرات
وتحظى محافظتي النجف وكربلاء بقدسية خاصة لاحتضان الأولى قبر علي بن أبي طالب، الإمام الأول عند المذهب الجعفري، وقبري الحسين والعباس في كربلاء، نجلي علي بن طالب.
اقرأ/ي أيضًا:
الاتجار بالبشر في العراق.. تورّط مسؤولين في الدعارة وسرقة الأعضاء
"الدكة العشائرية" في العراق.. ضريبة تسليح المواطنين لقتال داعش