منذ مدة كتب الألماني فلورين كسلر (1981) مقالًا في صحيفة أسبوعية تحدّث فيه عن أنّ كتاب اليوم في ألمانيا مملّون، ومن يريد أن يعرف كيف يتكوّن ويتشكّل كتاب اليوم في بلاد الجرمان، عليه أن يعرف ماذا يحدث في كليّات الإبداع، ففي ألمانيا هناك كليّتان كبيرتان لتدريس الأدب والكتابة، في كلٍّ من مدينتي لايبزغ وهيلدسهايم.
جزء كبير من شهرة خالد حسيني جاء لأنه قدم الولايات المتحدة بوصفها جنة خلاص
يقول كسلر إنّه حين كان يدرس في جامعة هيلدسهايم كان غالبية الطلاب من عائلات بروفسورات ومثقفين، وهؤلاء هم الذين استمروا بالكتابة وحققوا نجاحات عديدة، في حين أنّ الطلاب الذين ينحدرون من عائلات فقيرة فغالبيتهم مارسوا مهنًا أخرى، وقلما استطاع أحد منهم أن يكون كاتبًا!
اقرأ/ي أيضًا: صحافة اليوم القديمة
ويشرح أنّ من يتحكم بسوق الكتب مجموعة صغيرة، تختار من سوف تشهر من كتّابها الذين يجب أن يكونوا جزءًا من هذه المجموعة، أو مريدين لها، وما يحدث في العادة، بحسبه، أن الكُتَّاب الذين يحققون نجاحًا ويستطيعون التفرغ للكتابة هم أبناء أولئك البروفسورات والمثقفين، لأن هؤلاء يعرفون جيدًا قواعد "البزنس الثقافي"، ويكتبون وفقًا لها سواء ما يريده السوق، أو ما يجب أن يريده السوق. هي عملية صناعة سوق أولًا، قد تمتد لتصبح صناعة لرغباته أيضًا.
صيغة المثقف المُمتثل "conformist" تحكم ثقافة العالم اليوم. جزء كبير من شهرة الأفغاني خالد حسيني جاء لأنه قدم الولايات المتحدة بوصفها جنة خلاص، دون أن يمسسها بسوء جراء المآسي الكثرة التي فعلتها في بلاده. شاكيرا، كمثال آخر، حين بدأت مسيرتها الغنائية قدّمت غناء وموسيقى لاتينية، وكانت وقتها تحتفظ بلون شعرها الطبيعي، لكنها حين انتقلت إلى الغناء بالإنجليزية، صبغته بالأشقر. أشقر كان طريق الشهرة، مع أن القيمة الفنية كانت في ما هو أمريكي لاتيني أكبر بكثير. الكاتبة النيجيرية-الأمريكية شيماماندا نغوزي أديشي كتبت روايتين مهمتين، تدور أحداثهما في نيجيريا، لكنّ روايتها الثالثة التي تدور أحداثها في أمريكا هي التي لاقت الانتشار الواسع. قد لا تكون أديشي قاصدة ذلك، أو أنها لا تعنيه، لكنها جرّبت موضوعًا توافق مع لغة المنظومة السائدة، وهو ما شهر عملاً دون سواه من منجزات الشخص نفسه.
في العالم العربي، يأخذ الامتثال شكلًا آخر، فحيث يتمركز المال في دول الخليج العربي، وحيث تقدّم تلك الدول نموذجًا محافظًا، يصبح الكاتب المتساوق مع جوائزها مُمتثلًا. والفارق أن الامتثال للمركزية الغربية أقل شرًّا على الكتابة، من جهة أن الكاتب يبقى حرًّا في طرح المواضيع الاجتماعية والشخصية وما يترتب عليها من علاقات وجنس وجنون، في حين يتجنّب الخوض في النقد الذي يطال المنظومة السياسة، الدكتاتورية في العمق، بينما الممتثل للسّوق الخليجي يتجنب الخوض في كل ما هو شائك، ويكتفي بملامسة القضايا ملامسة لا تثير حفيظة أحد، لتحقق الانتشار في سوق تلك الدول التي تدمغها سياسة منع الكتب. باختصار يجب أن تكتب كتابًا غير قابل للمنع.
يصنع الثقافة كتّابها وفنانوها ومفكروها، هذه مُسلَمةٌ، لكن المُسلمة الغائبة أن القرّاء هم صنّاع الثقافة وحماتها. الأمر الجميل في صناعة القرّاء أن هؤلاء تصنعهم النّصوص. الكتّاب ينفقون حيواتهم على نصوص لا هم لها إلا أن تكون بيتًا للقرّاء الذين تخلق علاقتها معهم بالحوار والتأمل والمعايشة، فيأخذون على عاتقهم مهمة دعمها وحمايتها. في حين أن صناعة الجمهور تقوم من خلال النجوم، والزيف في هذا أنه يتم من خلال المال والإعلان والترويج.
اقرأ/ي أيضًا: البوكر.. دعوة إلى المراجعة
بين الجمهور والقرّاء، تختار الجوائز أن تتجه إلى الجمهور، لكونه لا يهتم بالفكرة والجوهر
بين الجمهور والقرّاء، تختار الجوائز أن تتجه إلى الجمهور، لكونه لا يهتم بالفكرة والجوهر والمقولة والفن والتركيب، بمقدار ما يهتم بالموضة والسّهل والبسيط، إذ يظنون أنها لمجرد أنها تحمل اسم جائزة عالمية فهذا يعني أنها مثلها، وأن الأعمال التي تحتفي بها ستلاقي احتفاء في العالم، لا سيما بعد الترجمة. وكأن النشر بلغة أجنبية ما هو معيار الجودة الأول. هذا هو الوهم عينه، والأكذوبة التي لا يكف الإعلام من إطعامنا إياها. العطب في هذه الفكرة أننا حين نبرر من خلالها أننا نريد إسماع صوتنا للعالم، تشعر بأن ثمة جزءًا ناقصًا من السؤال، وهو المتعلق بإسماع صوت أبناء اللغة نفسها، أليس هذا هو الصمم؟ أوهام كهذه بالذات هي من تصنع الثقافة المُمتثلة. الأهم أن السوق الخليجيّ الضخم والقدرة الشرائية العالية، تجعل دور النشر محجمةً عن نشر أي شيء قد لا يحظى بفرصة شراء وتداول في الخليج بعد موافقة السلطات، تلك هي المسألة اليوم!
كتب الشاعر وديع سعادة على فيسبوكه: "الشعراء العرب هم ضحايا اللغة العربية". سعادة يريد أن يقول إن العربيّة غير مقروءة، وبالتالي من يكتبون بها غير مقروئين بالضرورة. هذا ليس صحيحًا يا وديع، أنت مقروء ومؤثر، ربما لا توجد أرقام ساحقة ماحقة لتجعلك نجمًا بالمعنى الإعلامي، لكنك حاضر بطريقة أبعد من طريقة حضور النجم. النجم يُصنع، أما نصك فيصنع قارئه. دعني أضف ما يلي: كل الأعمال الأدبية الكبرى مكتوبة بلغات وطنية: "دونكيخوته" و"زوربا" وقصائد فرناندو بيسوا ومحمود درويش... إلخ.
ليست الترجمة إلى لغات أخرى من تحدّد النجاح أو الفشل، بل حضور النص في أرض لغته وفضائها. اشتباكه مع واقعه السياسي والنفسي والاجتماعي هو الفيصل النهائي.
اقرأ/ي أيضًا: