يوحي مصطلح "الكيميائي" بصور نمطية عدة لعل الشائع منها مؤخرًا صورة "والتر وايت" في المسلسل الشهير "Breaking Bad" أو صورة الرجل العجوز ذو الشعر المجعد المنحني على دوارق تغلي ويتصاعد منها البخار، لكن الحقيقة تبدو مختلفة تمامًا، فأول كيميائي عرف في تاريخ البشرية كان سيدة آشورية تدعى "تابوتي - بيليت - إكاليم".
كانت "تابوتي" الآشورية صانعة العطور لبلاط ملوك آشور، وجاء اسمها على الرقم الطينية التي شرحت فيها طرق تحضير العطور، كما تؤكد مجلة "Lady Science" المتخصصة بإسهامات المرأة في العلوم والطب والتكنولوجيا عبر التاريخ.
تعد "تابوتي" وزميلاتها من صانعات العطور من أوائل النساء المعروفات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات
ويشير أرشيف الشرق الأدنى القديم الذي يعود تاريخه إلى عام 1700 قبل الميلاد إلى عدد كبير من صانعات العطور، لكن دون الإشارة إلى أسمائهن، خاصة أرشيف القضايا الإدارية والدبلوماسية الشهير الخاص بمدينة ماري السورية.
لكن سجلات العصر الآشوري الأوسط (حوالي 1365 - 1076 قبل الميلاد) تدون أسماء تلك النسوة بوضوح.
خلال الفترة الآشورية الوسطى، حكم الملوك الآشوريون متخذين مدينة آشور عاصمة لهم. المدينة التي أخذت اسمها من الإله الراعي للآشوريين وكانت موطنًا لمعبده الأعظم.
وفي الفناء الجنوبي الغربي للمعبد عثرت بعثات التنقيب على مخابئ مخصصة لخزن وحفظ الألواح الطينية التي يعود تاريخ تدوينها إلى عهد الملك الآشوري "توكولتي نينورتا" الأول في القرن الثالث عشر قبل الميلاد (حكم الفترة بين عام 1243 - 1207 قبل الميلاد).
ويعلق عالم الآشوريات البريطاني نيكولاس بوستجيت، في كتابه "العصر البرونزي للبيروقراطية - الكتابة ونظام الحكم في الإمبراطورية الآشورية"، على أنّ العديد من هذه النصوص كانت تعليمية في وظيفتها، حيث نقل الخبراء الذين دونوها الكثير من المعارف للأجيال التي تلتهم.
النصوص المدونة بالخط المسماري على ألواح طينية فخرت بالنار احتوت على لوائح القوانين الآشورية الوسطى، وتعليمات حول تدريب الخيول ووصفات لصنع زيوت عطرية. ومن بين هذه اللواح لوح صغير يصف بدقة متناهية كيفية صناعة عطر زيت القصب يعود للعام 1239 قبل الميلاد موقع باسم سيدة اسمها "تابوتي - بيليت - إكاليم".
اقرأ/ي أيضًا: نصوص مدهشة.. ماذا تعرف عن عمالة الأطفال في الحضارة السومرية؟
ويحدد هذا اللوح الطيني العمليات التي بموجبها يستخلص العطر كالترشيح والتصفية وغيرها. يبدأ النص بعبارة "ما يقوله فم تابوتي" ثم كلمة "موراكيتو muraqqitu" التي تعني بالآشورية "صانع العطور".
وخلال قراءتها للنص الآشوري تقول خبيرة التواصل الرقمي الأمريكية كاثرين راين، من جامعة شمال تكساس الأمريكية، "إنّ تعريف التأليف في العراق القديم يختلف عن التعريف المعاصر لهذه العملية، ويحتمل أن يكون كاتب النص شخص يملي على شخص آخر فيدون ما يقوله الشخص الأول على لوح الطين".
وتضيف الخبيرة الأمريكية، "من غير المؤكد فيما إذا كانت تابوتي هي من كتبت وصفة العطر أو كان هناك شخص آخر يكتب ما يملى عليه، إلاّ أنّ النص يوضح أنّها تمتلك الخبرة الكافية لإعداد وتحضير العطور".
وثقت صناعة العطور في الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط خلال الألفية الثانية قبل الميلاد وبشكل جيد ودقيق، وحظي تبادل الخبرات في صناعتها بشكل واسع، كما هو الحال بالنسبة للمكونات الأساسية للعطر. صانعو العطور وذوو المهارات الكيميائية كانوا يشكلون رصيدًا جيدًا في البلاط الحاكم، حيث تشكل العطور وأنواع المراهم شيئًا مهمًا للملوك والآلهة على حد سواء.
عالمة الآشوريات جو داي من جامعة دبلن تقول، إنّ "عطر الدخان كان طريقة شائعة لتغذية للآلهة"، بينما ترى جوني ميرفي، أستاذة الكلاسيكيات في جامعة شمال كارولينا الأمريكية في كتابها "Pylian Aromatics"، إنّ "العطر المستخلص في صورته النهائية يكون حكرًا على الملك"، مشيرة إلى أنّ "استخدام عطر يضعه الملك يعني بالضرورة القرب من البلاط"، وعليه يبدو أنّ تابوتي كانت على مكانة مهمة لدى البلاط الآشوري.
وبالعودة إلى تحليل الاسم فإنّ "تابوتي" يشير إلى مرتبة عليا، أما الجزء الآخر "بيليت إكاليم" فيعني "سيدة القصر"، هو لقب مرتبط بالآلهة الذين يحمون الأسر الملكية.
وفقًا للمؤرخ جاك ساسون من جامعة شمال كارولينا الأمريكية، يمكن أن يكون هذا اللقب "بيليت إكاليم"، لسيدة تشغل دورًا إداريًا مهمًا.
في المقابل يعكس النص المسماري، أن لدى "تابوتي" سلطة وإمكانية للوصول إلى أفضل المواد وأجودها، حيث تنص السطور 2-4 في اللوح الطيني من وصفتها لزيت القصب العطري على "مياه عذبة وعالية الجودة من بئر القصر في آشور".
جو داي تقول، إنّ "الوصول إلى المكونات النباتية الغريبة المستخدمة في صنع بعض العطور، كان مؤشرًا على مكانة النخبة في المجتمع"، حيث تذكر بيانات النسخ في وصفة تابوتي أنّ العطر الناتج "مناسب للملك".
أرادت تابوتي من خبرتها العملية ومعرفتها بالمواد والعمليات الكيميائية أن تصل إلى الآخرين، حيث تقول في لوحها الطيني، "هذه هي قياساتك، ليتم تقسيمها وفقًا لكمية المياه المأخوذة. أنت تؤدي (الخطوات المنصوص عليها) والغروب والليل! [الخليط] ينقع طوال الليل".
ولم تكن تابوتي صانعة العطور الوحيدة في ذلك الوقت، إذ تحتوي مكتبة "توكولتي - نينورتا" صانعة أخرى، لم يبق من اسمها سوى مقطع قصير نينو (ninu).
وتشير الدلائل، إلى أن صانعي العطور ربما صنعوا أشياء أخرى غير العطور. ففي بحثها الخاص بنساء بلاد ما بين النهرين، لاحظت عالمة الآشوريات ناتالي نعومي وجود تداخل كبير بين صانعي العطور والصيادلة.
وتتطلب كلتا المهنتين مهارات عدة لاستخراج المكونات من الزيوت والأخشاب والمواد الطبية والتلاعب بالعناصر للحصول على مركب مفيد.
وتشير السجلات المتزامنة مع وصفة تابوتي، إلى هؤلاء المحترفين متعددي الحرف، ففي السنة الخامسة عشرة من حكمه اختار "توكولتي نينورتا" الانطلاق في رحلة وتدون سجلات البلاط الرسمية، على أن تنضم كل من "صانعات العطور" و"رئيسة صانعات العطور" إلى الرحلة مع الملك الآشوري في رحلته.
ويمكن التكهن فقط بمجموعة الوظائف التي قد تؤديها هؤلاء النساء، من صنع العطور السماوية لاسترضاء الآلهة ورعاية المرضى والمساعدة في الحفاظ على معسكر الملك صحيًا".
ولم تنته مكانة صانعات العطور بل استمرت المهمة نفسها حتى بعد قرن من حكم الملك الآشوري "توكولتي نينورتا" الأول، إذ قام العاملون في بلاط الملك البابلي "نبوخذ نصر الثاني" على توزيع ست لترات من الزيوت على صانعات العطور في القصر، وفق لوح طيني وجد في الجزء الجنوبي من القصر البابلي.
ومع مرور القرون، ظلت صانعات العطور جزءًا مهمًا من إدارة القصر. استمرت النساء في الازدهار ككيميائيات ومبدعات، وجزءًا لا يتجزأ من البلاط الملكي في الشرق الأدنى القديم خلال العصرين الآشوري والبابلي الحديث.
وتعد "تابوتي" وزميلاتها من صانعات العطور من أوائل النساء المعروفات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، ويتجاوز إرثهن العالم القديم، ويظهر لنا أنّ النساء كن دائمًا عالمات - إذا كن على استعداد لتعديل تصوراتنا عن السعي العلمي.
اقرأ/ي أيضًا:
آلهة الشعر وسيّدات الملحمة.. ترانيم العراق القديم تصدح في نيويورك