كان اليوم الاول الذي أعمل فيه بالمكتبة الوطنية التي تضم آلاف الكتب النفيسة والمخطوطات التي يرجع تاريخها الى مئات السنين، أخذت أنظر إلى رفوف المكتبة التي تمَّ تصنيفها بدقةٍ مُتَناهية، فوقعت عيناي على جناح دواوين الشعر القديمة فأخذت ديوانًا مهترئًا حتى خفت أن تتمزق أوراقه أثناء تصفحه.. وأخذت أقرأ: "إن تكلمت رُوحُ العاشقِ.. أضرمت النار في هذا العالم.. فًجعلتْ هذا العالم مُجتثَّ الأصلِ.. هباءً، أو كالعدمْ".
أثارت الكلمات شهيتي ودقَّتْ أجراس الجوع في روحي بعد أن تسللت الى أعماقها روعة تلك الكلمات، ولكن في نهاية الأمر أعدت الديوان إلى مكانه بعناية خوفًا من أن تتمزق بعض أوراقه المتخشبة، وما إن أعطيت ظهري إلى الكتاب حتى شعرت بأن شخصًا ما يسحبني إلى الخلف، ولم أشعر بثقل جسدي على الأرض. حملقت عيناي في الكتاب وانتابني خشوع فائض لم أشعر به من قبل، وكأن روحي علقت بين دفتي الديوان... فانتظرت حتى موعد إغلاق المكتبة فتحت أزرار قميصي وأقفلتها على الديوان لم ينتابني شعور الإثم بالسرقة أو ينزغني وازع الضمير، وخرجت وأنا أردد في سري بعض أبياته: "إنني بدونك حتى لو كنت أطير.. أنا مثل غيمة سوداء.. وأقسم مرة أخرى إنني بدونك حتى لو كنت في حديقة أزهار.. أشعر انني في السجن". بقيت أردد في نفسي ولم أنتبه إلى طريقي وقد نعتني أحدهم بالأبله نتيجة اصطدامي به، لكني واصلت طريقي ولم أكترث به، وعندما وصلت إلى البيت وَلَجْتُ إلى غرفتي مُسْرِعًا وأقفلت الباب واستلقيت على السرير.
كانت السماء تمطر مطرًا خفيفًا فأسدلت الستائر وأخذت أقرأ، على الرغم من التعب الذي انتابني، حتى نمت بشكل لا إرادي.. شاهدت كلمات كثيرة تنزح من بين دفتي الكتاب، قوافل من الكلمات، كلمة تجر أخرى تريد أن تتسلل إلى رأسي، تجمعت الكلمات في مكان واحد لتدخل من أبواب عينيَّ دُفْعَةً واحدة، ذاب بعض الحبر الأسود على أطراف أجفاني مثلما يذوب الكحل في عين الفتاة.. عدت لوعيّ بعد أن سمعت صوت امي وهي تناديني.
تناولت الكتاب مرة أخرى وقد ذهلت مما رأيت لقد أصبحت أوراقه بيضاء خالية من أي كلمة كنت قد قرأتها سابقًا. كانت أمي غالبًا ما تخبرني عن قصة جارنا أبي محمود، إذ يقول الناس إنه مات ميتةً غامضةً، لكن أمي لها رأي يختلف عن ذلك إذ غالبًا ما كانت تجمع أدلة جديدة وتخبرني بها، كانت تقول إن لِأبي محمود علاقة روحية مع حمامته البيضاء التي كان يجدُ فيها عزاءً لوحدته حينما يراها تحلق في السماء، وفي أحد الأيام لم تعد الحمامة فبقي مُسَمَّرًا في السطح منتظرًا عودتها، وإذ لم تعد فقد مات كمدًا عليها وهو ممسك بعصاه. إن الناس لا تفهم يا بني ولا تقدر العلاقات الروحية التي تربط الإنسان بأشيائه..
كنت غالبا ما أُبدي لأُمي أنّي أوافقها الرأي في استنتاجاتها تلك، ولكنْ في قرارة نفسي أُنْكِرُ إمكانية أن يموت الإنسان لهذه الأسباب البسيطة.. وفي اليوم التالي وعند وصولي إلى المكتبة ناداني المدير بوجه مقطب وعينين تتطاير منهما الشرر لشدة غضبه، وأول شيء ألقاه على مسمعي هو قرار فصلي من العمل، وعندما استعلمت عن السبب أجابني إنك تعرف السبب جيدًا.
"لا أعلم ماذا يجري في هذا الزمن فقد أخبرونا أنك إنسان أمين ولم تسرق طوال حياتك، فما الذي جرى لتسرق إحدى مخطوطات المكتبة النفيسة، والتي لا يسمح حتى بإعارتها خارج المكتبة، لقد شهدت كاميرات المراقبة على كل شيء وما من داعٍ لأن أسمع تبريراتك، فالسرقة سرقة، بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال".
فأخبرته أنني لم أسرق الكتاب، وإذا عد هذا الفعل سرقةً فهو أشبه بسرقة الطفل الجائع للرغيف، هناك كلمات هي من تقوم بسرقتنا وتسلبنا وجودنا وتحلق بنا عاليًا في فضاء لا متناهٍ. حينما قرأت الكتاب شعرت أن روحي لم تطق بعد احتمال جسدي وحلت بين دفتي الكتاب، صرت مثل الإنسان المجنون الذي لا يحسب حسابًا لتصرفاته، وشعرت أن أوراقه تحولت إلى مواد تحنيط تلف جسدي. نحن نحسب بأننا نمتلك بعض الأشياء لكن في الحقيقة هي من تملكنا. إنَّ هذا الكتاب قد امتَلَكَ قارئه يا سيادة المدير مِلكيَّةَ مَنْ تَكَوَّنَتْ معه علاقة روحية ويبادله مشاعره وأحاسيسه، أنا على يقينٍ أنك لو قرأت هذا الكتاب بالروحية التي قرأتُهُ بها لحصل لك الذي حصل لي. وبعد أن أتممت كلامي أطلق المدير ضحكة ساخرة. "إذًا هذه هي السرقة الحلال التي يرفع القانون عنها قلمه، حينما تقف أمام قاضي المحكمة أخبره أن الكتاب هو من قام بسرقتك، أخبره كل شيء ربما ستضحكه هذه النكتة ويعلن براءتك".
ثمَّ أقسمت له أن روحي معلقة بين دفتي الكتاب، فزم شفتيه وأمر حراس المكتبة بسحبي إلى الخارج. وبعد أنْ أُودِعْتُ السجن صِرْتُ مفجوعًا بفقد الكتاب وأُعزِّي نفسي بترديد بعض أبياته التي حفظتها: "أنصت إلى الناي.. يحكي حكايته ومن ألم الفراق يبث شكايته، أريد صدرًا مُزِّقَ مِزَقًا بَرَّحَهُ الفراقُ لِأبوحَ له بألم الاشتياق فكل من قُطِعَ عن أصله دائمًا يَحِنُّ إلى زمان وَصْلِهِ".
خلدت الى النوم مكتويًا من فراق الكتاب. رأيت أعدادًا كبيرة من الكتب تغادر المكتبة وتتطاير في السماء مثل النسور، وكأنها تعلم بخطر قادم، ثم صارت تحوم حول رأسي، وبحركة واحدة نثرت كل كلماتها وغادرت فارغة المحتوى.
استيقظت من الحلم على وقع صوت طرقات على باب السجن. بعد ذلك انتابتني وعكة مفاجئة، شعرتُ وكأن أحدهم يمزق جلدي بمخالبه، ورائحه تشبه رائحة الخشب المحترق تملأ أنفاسي، لقد تحول لساني إلى خشبة متصلبة ولم أعدْ أقوَ على أيَّةِ حركة. أخذت أسعل بقوة حتى امتعض مني بعض السجناء، واشعر بأن حريقًا شبَّ في زوايا روحي، وأخذت أفكر في الأسباب فلم أجد سببًا مقنعًا يرفع تلك الاستفهامات التي تشكلت في ذهني، وفي منتصف الليل سمعت حراس السجن يتكلمون عن حريق التهم المكتبة الوطنية بالكامل.
اقرأ/ي أيضًا: