الترا عراق - فريق التحرير
تغلق عليها الأبواب بعد العاشرة مساءً كما يفرض القانون، لكن زجاجات العرق والويسكي وعلب البيرة، تلوح في بغداد عبر نوافذ حديدية صغيرة بعد منتصف الليل وحتى الصباح أحيانًا، تحت أنظار دوريات الشرطة، وبحماية أحزاب ومجاميع مسلحة.
طريق باهظة سلكتها شحنات المشروبات الكحولية قبل أن تصطف على أرفف منافذ البيع الرسمية وغير الرسمية بإدارة خفية من أحزاب سياسية
طريق باهظة سلكتها تلك البضائع قبل أن تصطف على رفوف متاجر الكحول، أو ترصف في شحنات تعد لسلوك طريق أشد خطورة، حيث يحظر الكحول جنوبًا.
طريق الكحول
تعتمد سوق الكحول في العراق، على المنتجات المستوردة بشكل كبير، إلى جانب المنتجات المحلية التي تقتصر على أنواع محدودة جدًا من العرق والبيرة، فيما لا تزال تلك التجارة تحقق أرباحًا كبيرة على الرغم من الضرائب التي بلغت 200%، وفق قانون موازنة البلاد للعام الماضي، والإتاوات والرشاوى التي يضطر التجار الى دفعها لتأمين حياتهم وسلامة بضائعهم ووصولها إلى الأسواق.
اقرأ/ي أيضًا: قانون قدسية كربلاء.. "لمدينة أحلى وأجمل" بلا حياة!
تدخل المشروبات الكحولية المستوردة بأنواعها إلى العراق من الأردن بشكل محدود، عبر منفذ طريبيل والطريق السريع الدولي المؤدي إلى بغداد، مرورًا بمحافظة الأنبار، ومن تركيا بشكل أكبر عبر المنافذ مع إقليم كردستان، وفق شهادة رافد مهند (اسم مستعار لصاحب أحد متاجر الكحول في العاصمة بغداد)، لـ"ألترا صوت".
وتعد الطريق الثانية، طريقًا رئيسة للكحول، حيث تستقر البضاعة أولًا في إقليم كردستان، والذي يتيح حرية تامة لبيع المشروبات الكحولية وتعاطيها، مع حظر مؤقت خلال شهر رمضان لا يشمل الفنادق المصنفة بأربع أو خمس نجوم.
تتكدس شحنة الكحول التي يستوردها التجار العراقيون في كردستان لفترة ليست بالقصيرة، قد تصل أحيانًا لنحو ثلاثة أشهر قبل أن تتجه جنوبًا صوب العاصمة بغداد، وفق مصدر في وزارة الداخلية العراقية، والذي قال لـ"ألترا صوت"، إن التجار يقومون خلال تلك المدة بدفع الإتاوات والرشاوى والتنسيق مع النقاط الأمنية والفصائل المسلحة والأحزاب على مدى مئات الكيلومترات التي تمتد عليها الطريق بين الإقليم وبغداد.
وأشار المصدر إلى أن أجزاءً من الشحنات قد يتلف في درجات الحرارة العالية، بسبب سوء التخزين خلال المدة التي يستغرقها وصول الشحنة إلى بغداد.
ويضطر التجار إلى دفع مبالغ تتراوح ما بين 300 و500 دولار مقابل مرور شحنة المشروبات الكحولية من كل نقطة تفتيش، كما يؤكد رافد مهند، مشيرًا إلى أن "ذلك يدفع التجار إلى رفع أسعار المشروبات لتعويض تلك التكاليف، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المشروبات الكحولية على نحو مستمر".
بغداد.. رازونة الخمر
تحط شحنات المشروبات الكحولية في عدة مخازن للجملة في العاصمة بغداد، لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، قبل أن تباع إلى أصحاب المحال، والذين تشترط الدولة امتلاكهم إجازات قانونية لفتح تلك المحال.
ويقول المصدر الأمني، الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، إن "استحصال تلك الإجازة يكلف أكثر من 20 ألف دولار"، فيما يشترط أن يكون صاحب المتجر قد تجاوز السن القانونية، وليس بمسلم، وأن يكون المتجر خارج الأحياء السكنية، وبعيدًا عن مؤسسات الدولة والمصارف والمستشفيات والمدارس ودور العبادة. لكن على عكس ذلك تنتشر كثير من منافذ بيع المشروات الكحولية بين الأحياء السكنية وقرب المؤسسات وسط العاصمة بغداد، كما رصد "ألترا صوت".
لكن تلك الرخصة لا تعني شيئًا دون حماية الأحزاب والفصائل المسلحة، حيث يمكن أن يتعرض المتجر لتفجير أو هجوم مسلح، كما جرى عشية 23 كانون الأول/ديسمبر 2018، حين انفجرت قنبلتان قرب أحد تلك المتاجر شرقي العاصمة، أو حين قُتل شابان من الإيزيديين، في أواخر تموز/يوليو من العام ذاته، داخل متجرهما في أقصى غرب العاصمة، على يد مسلحين مجهولين.
وتُتهم أحزاب إسلامية وفصائل بعضها ينضوي ضمن الحشد الشعبي، بالسيطرة على تجارة الكحول وطريقه، بحسب نواب في البرلمان العراقي من بينهم فائق الشيخ علي، الذي أكد علانية بعد التصويت على فقرة حظر استيراد الكحول ضمن قانون "الواردات البلدية" في عام 2016، أن تلك الأحزاب والجهات هي من تقف وراء القانون لنيل أموال أكبر من خلال السيطرة على منافذ التهريب.
الجهات والأحزاب تتلقى أموالًا طائلة من سطوتها على متاجر الكحول والنوادي الليلية والحانات في العاصمة بغداد
وفقًا للمصدر الأمني في وزارة الداخلية، فإن تلك الجهات والأحزاب تتلقى أموالًا طائلة من سطوتها على متاجر الكحول والنوادي الليلية والحانات في العاصمة بغداد. لكن بعض أصحاب المتاجر لا يضطرون للدفع لتلك الجهات لما يتمتعون به من علاقات مع نافذين بالدولة، كما يقول رافد مهند.
اقرأ/ي أيضًا: نصف نفط العالم يمتلكه العرب.. ما حجم حصة العراق؟
يدفع مهند نحو 350 ألف دينار شهريًا، أي قرابة 300 دولار، لجهات أمنية وموظفين في وزارة السياحة، مقابل ضمان عدم إغلاق متجره المرخص، أو السماح له بالبيع لما بعد منتصف الليل. يقول ممتعضًا: "الجميع يأخذ منا الأموال، بدءًا من دورية المرور وليس انتهاءً بالضابط الكبير المسؤول عن الأمن في المدينة".
تفرض وزارة الداخلية العراقية، على متاجر الكحول الإغلاق في العاشرة مساءً، لكنها مع ذلك تنشط بشكل أكبر بعد ذلك الموعد، وحتى الساعات الأولى من الصباح، كما هي الحال مثلًا في شارع السعدون بوسط العاصمة. ويحدث ذلك تحت أعين دوريات الشرطة، مقابل نحو 50 دولارًا أسبوعيًا من كل متجر.
وتشهد العاصمة بغداد، حركة نشطة بعد منتصف الليل، خاصة في ليالي العطل الرسمية والمناسبات، وذلك منذ قرار رفع حظر التجوال الليلي عن العاصمة، والذي اتخذه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي في شباط/فبراير 2015.
ومع إشارة عقارب الساعة إلى الـ12 منتصف ليلة الجمعة 19 كانون الثاني/يناير، أجرى "ألترا صوت" جولة قرب متاجر الكحول في منطقة الكرادة، وسط العاصمة بغداد، حيث تصطف العشرات من متاجر الكحول بأبواب مغلقة، إلا من نافذة حديدية مساحتها نصف متر مربع، تعرف بـ"الرازونة"، تُباع من خلالها بيع زجاجات الويسكي والعرق أو علب البيرة المعدنية للزبائن.
وتقف قرب كل مجموعة من تلك المتاجر دورية للنجدة أو قوات الشرطة الاتحادية التابعة لوزارة الداخلية. يقول المصدر الأمني: "مهمة تلك الدوريات هي حماية أصحاب تلك المتاجر والبارات والملاهي القريبة منها وبعض مراكز المساج"، مشيرًا إلى أن "تلك الدوريات تتوجه فورًا لاعتقال مثيري المشاكل والمشاجرات قرب تلك المتاجر والنوادي".
وكان وزير الداخلية في الحكومة السابقة قاسم الأعرجي، أكد في حزيران/تموز العام الماضي، اتخاذ الوزارة "إجراءات حازمة" بشأن ظاهرة تناول المشروبات الكحولية على الأرصفة وفي الأماكن العامة، وفق القوانين النافذة كقانون هيئة السياحة رقم 14 لسنة 1996 والقرار رقم 82 لسنة 1994، "بجانب ما يتعلق بالممارسات الأخرى المخلة بالآداب"، على حد تعبيره، إلا أن هذه "الإجراءات الحازمة" لم تمنع شيئًا.
رحلة مع صندوق بيرة
تحرك فريق "ألترا صوت" إلى خارج بغداد نحو محافظة واسط ومركزها مدينة الكوت (180 كيلومتر جنوب بغداد)، في سيارة أجرة، وعلى متنها صندوق واحد من البيرة يعود لسائق السيارة، الذي ينوي بيعه، هناك حيث علبة البيرة الواحدة تساوي نحو أربعة دولارات.
وعلى طول الطريق نحو نقطة التفتيش الرئيسية وتدعى اللّج، واصل السائق التمتمة بأدعية وآيات من القرآن، عله ينجح بتهريبها، أو قد نواجه جميعًا مشكلة كبيرة قد تؤدي إلى الاعتقال، حيث تعتبر الحكومات المحلية في محافظات جنوب البلاد ابتداءً من بابل وحتى البصرة، نقل الكحول "جريمة لا تغتفر، لا تقل خطرًا عن جرائم الإرهاب"، كما قال ناشط وصحفي عراقي رافقنا في الرحلة.
كان الوقت المتأخر في صالح السائق، وصالحنا بطبيعة الحال كوننا رفقته؛ فنجح بالعبور من نقطة التفتيش دون الاضطرار لدفع رشاوى للعناصر.
ورغم التشديد الأمني في محافظات الجنوب، إلا أن شحنات المشروبات الكحولية تجد طريقها تهريبًا إليها، خاصة في مدينتي النجف وكربلاء، التي تعمل إدارتاهما جاهدتين على "صون قدسيتهما".
يقول مصدر وزارة الداخلية، إن شحنات بالآلاف من صناديق المشروات الكحولية، تمر إلى محافظات الجنوب، باتفاقات مع الضباط الكبار المسؤولين عن الملف الأمني بهذه المحافظات، مقابل مبالغ تصل إلى ألف دولار لمرورها من كل نقطة تفتيش.
بطبيعة الحال يدفع ذلك إلى رفع ثمن المشروبات الكحولية في بيع التجزئة في تلك المحافظات، إلى أكثر من خمسة أضعافها في بغداد، في حين يكون مصير من يفكر بتهريبها دون تنسيق مع المسؤولين الأمنيين، السجن وغرامة مالية كبيرة.
وتصدر قيادات الشرطة في المحافظات الجنوبية، بين الحين والآخر، بيانات وصورًا تظهر ضبط شحنات من الكحول، وأخرى تظهر إتلاف كميات منها في ساحات بعيدة عن مركز المدن، وهي قصة أخرى كشف بعض تفاصيلها الصحفي الذي رافقنا في رحلة صندوق البيرة.
يقول الصحفي، إن "عمليات الإتلاف تلك لا تخلو هي الأخرى من صفقات تجري بين بعض التجار والأهالي مع القوة المسؤولة عنها، حيث تدفع مبالغ من المال لتلك القوة مقابل، عدم إتلاف الشحنات بشكل كامل، وتجاهل أجزاء منها"، ليعود أولئك التجار والمواطنون إلى مكان الاتلاف ونقل السليم من الشحنة للسوق السوداء.
ويعتمد تجار الكحول في الجنوب على كردستان والعاصمة بغداد، كمصدر لبضائعهم والتي تسوق في محافظاتهم بطريقة سرية معقدة، تشبه إلى حد كبير عمليات بيع المخدرات. وتعتمد بشكل رئيسي على نظام التوصيل، ولا يحظى بها إلا زبائن من الثقات أو من تتم تزكيته من قبلهم.
وبحسب مراقبين ومسؤولين، فإن حظر الكحول في المحافظات الجنوبية، أدى فضلًا عن رفع أرباح جهات تابعة لأحزاب وفصائل تحتكر تجارة الكحول في تلك المحافظات، إلى انتعاش تجارة المخدرات وارتفاع أعداد مدمنيها.
وكان النائب في البرلمان العراقي فائق الشيخ علي، قد قال تعليقًا على إقرار فقرة حظر المشروبات الكحولية في عام 2016، إن "الأحزاب الإسلامية التي صوتت على قرار حظر الخمور كانت تهدف من وراء تصويتها إلى المتاجرة بالمخدرات كالخشخاش والحبوب المخدرة".
وباستثناء تلك الفقرة والتي لا تزال معطلة في بغداد، وقرار نظام الرئيس السابق صدام حسين في سنة 1994 خلال ما عرف بـ"الحملة الإيمانية"، والذي نص على منع "بيع وتناول المشروبات الكحولية في النوادي والفنادق والمطاعم والمرافق السياحية فقط"، أي أنه أباح ذلك في غير هذه المحلات، فإن القانون العراقي لا يمنع تجارة الكحول أو تعاطيها، فيما منحت السلطات بعد 2003، للحكومات المحلية صلاحية منع تلك المشروبات.
تُتهم مليشيات دينية مسلحة وأحزاب سياسية بعضها ينضوي تحت مظلة الحشد الشعبي، بالسيطرة على تجارة الكحول، وطريق تهريبه إلى داخل العراق
وعلى غرار محافظات الجنوب، فإن مدنًا في محافظتي الأنبار وصلاح الدين، غربي وشمالي البلاد، سجلت قرارات لحظر متاجر الكحول وتجارتها، بعد تحرير تلك المدن من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، حيث أظهرت وثائق رسمية حظرها في مدينة الرمادي بالأنبار، وتكريت والشرقاط في صلاح الدين، بحجة "عدم انسجامها مع القيم والأعراف الاجتماعية".
اقرأ/ي أيضًا: علاء مشذوب.. الكاتب الذي وقّع روايته بعد اغتياله
يُذكر أنه بحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر في عام 2014، يأتي العراق في المركز الـ10 بين أكثر الدول العربية استهلاكًا للكحول، بمعدل 9.1 لتر لكل فرد سنويًا.
اقرأ/ي أيضًا:
الاتجار بالبشر في العراق.. تورّط مسؤولين في الدعارة وسرقة الأعضاء
من "أسلمة" صدام إلى الغزو الأمريكي.. التاريخ الدموي لسوق الدعارة في العراق