في روايته "المشطور: ستّة طرق غير شرعيّة لاجتيّاز الحدود نحو بغداد" (منشورات الجمل، 2017) يعيد الكاتب العراقي ضياء جبيلي صياغة الواقع العراقي المُعاش بعين الخيال، مقدّمًا من خلال ذلك عملًا أدبيًّا قائِمًا على الفانتازيا المُستمدّة من الواقع ذاته، وحكاياتٍ متداخلةٍ في الحكاية الواحدة ومتفرّعةً من حكاية الروايّة الأساسيّة، وتجتمعُ جميعها ضمن إطار الغرائبيّة واللاواقعيّة التي أثرت المكتبة العراقيّة ما بعد سنة 2003.
يعيد الكاتب ضياء جبيلي في "المشطور" صياغة الواقع العراقي المُعاش بعين الخيال
تبدأ رواية ضياء جبيلي الواقعة في 241 صفحة، والمكوّنة من ستّة فصول، من مكان ما من الحدود العراقيّة - السوريّة، ومن خلال حوار بين مواطن عراقي ومسلّحين يظهر بوضوح انتماؤهما إلى تنظيم الدولة الاسلاميّة، حيث يدور الحوار بينهما حول ديانة الرجل الذي يصرّ على أنّه عراقي فقط، مما يدفع المسلّحين إلى التخلص منه من خلال شطره إلى نصفين متساويين بواسطة منشار كهربائي، ما يخلق خلافًا بينهما يؤدّي إلى قتل المسلّح الأول ذي الجنسيّة الشيشانّية للمسلّح الثاني ذي الجنسيّة الأفغانيّة، ومن ثمّ فرار الأول في سيّارة دفعٍ رباعي تاركًا خلفه جثّة الأفغاني ونصفي جثّة الرجل العراقي.
اقرأ/ي أيضًا: ضياء جبيلي: البصرة مدينة حكايات مستمرة
تبدأ الفانتازيا في روايّة ضياء جبيلي من خلال مشهد نهوض النصفين معًا بحياة خاصّة لكلّ منهما، ومنفصلة عن حياة الرجل الذي كانا عليه قبل عملية الشطر، مشكّلين معًا الشخصيّة الرئيسيّة التي أقام عليها ضياء جبيلي روايته، متّخذًا من الرجل المشطور الأنا المتكلمة والسادرة لمغامرات النصفين. إذ ينهض النصفان بعدّة أسئلة حول هويتهما، أو هويّة الرجل الذي كانا عليه قبل عملية الشطر، وطريقة التصاقهما من جديد في جسد واحد ليتمكّنا من معرفة هويتهما، وهذا ما دفعهما إلى البحث عن رواية "الفيسكونت المشطور" للروائي إيتالو كالفينو لمعرفة الطريقة التي قام من خلالها كالفينو بإلصاق نصفي الفيسكونت، ومن أجل العثور على الروايّة كان عليهما اجتياز الحدود العراقيّة - السوريّة نحو بغداد، ومن هنا يبدأ النصفان رحلةً طويلةً على مدار ستّة فصول، وفي كلّ فصل يجدان أنفسهما في حدود مختلفة، ودون أن نلحظ أيّة دهشة أو علامات استغراب لدى من قابلهما، كأنّما الأمر بات عاديًّا ومعتادًا بالنسبة للعراقيين، وهذا ما يدفع أحد النصفيين للتساؤل حول الأمر: "كيف يمكن لشخص ينتمي إلى هذا العالم الواقعي أن يرى نصفي شخص مشطور يتحرّكان ويمشيان ويتكلمان دون أن يُصاب بالذعر أو حتّي يُغمى عليه؟!" ص (108)، ليجيب النصف الثاني: "ربّما لأن الواقع صار أكثر غرائبية وسريالية وفانتازية من الخيال ذاته".
تتفرّع رحلة النصفين إلى رحلات عدّة نتيجة عدم امتلاكهما هويّةً تثبت جنسيتهما العراقيّة، ولجوئهما إلى عبور الحدود سرًّا بعيدًا عن عيون ضبّاط حرس الحدود الذين قالوا بأنّ لدى العراق ما يكفي من الجثث المشوّهة وأنصاف البشر، وذلك من خلال الشاحنات التي كانت تعبر الحدود.
كما أنّ كلّ رحلة كانت تتفرّع إلى حكايات مختلفة وغرائبيّة، بدءًا من القريّة التي تقع تحت سيطرة تنظيم الدولة الاسلاميّة ليلًا والجيش العراقي نهارًا، وحكاية "القبيس" في القرية ذاتها، مرورًا بتهجير سكّان قرى جبل سنجار على يد مقاتلي التنظيم ذاته، وحكاية المرأة التي تحمل كيسًا مليئًا بالحجارة، والبغل الذي ينتحر نتيجة معاملة صاحبه له على أنّه إنسان، بالإضافة إلى نهوض فصيل كامل من الجنود الذين فُقدوا أثناء الحرب الايرانيّة - العراقيّة من أرض ومغادرتهما إلى أرض ثانيّةٍ يكون فيها لموتهم طعم، وحقل الألغام وفزّاعته التي هي في الأساس جندي عراقي يعتقد أنّه يقف فوق لغم أرضي.
يخلق ضياء جبيلي عالمًا سورياليًّا مستمدًا بالدرجة الأولى من عراق اليوم
وأخيرًا حكاية الجندي العراقي الذي يعدّه تنظيم الدولة طعامًا لبقية الأسرى لديهم، بما في ذلك النصفين. ومن خلال ذلك يخلق ضياء جبيلي عالمًا سورياليًّا مستمدًا بالدرجة الأولى من واقعنا الحالي.
اقرأ/ي أيضًا: ضياء جبيلي.. مدينة في فم القرش
يُنهي ضياء جبيلي روايته في العاصمة بغداد، ولكن دون أن يتمكّن النصفان من الالتصاق وإعادة شكلهما السابق، بالإضافة إلى أنّهما تفرقا هناك سالكًا كلّ منهما طريقًا مختلفًا خلف طائفةٍ مختلفة، وإذ أردنا إسقاط الروايّة على الواقع العراقي، نجد أنّ النصفين يمثّلان الطائفتين السنّيّة والشيعيّة في العراق، ومن خلال صعوبة التحامهما مجدّدًا، يتّضح للقارئ ربّما أنّ ضياء أكّد على أنّ الالتحام بين الطائفة السنيّة والشيعيّة بات مستحيلًا، وإن حدث فإنّ العراق/الجسد لن يعود كما كان سابقًا.
اقرأ/ي أيضًا: