بعد نهاية كل طاغية يبدأ الناس في العد العكسي لمن سيليه، مشاعر متناقضة حملت البعض على الاشمئزاز من طريقة "القتل" التي يتم بها التخلص من الطاغية بعد أن تكثر سكاكينه. فلكل دكتاتور في الحكم توازنات وعلاقات وأصدقاء من العالم الأول يرون أن وجوده مفيد، حتى يتخلى الأصدقاء عن هذه الرؤية -كما حدث مع مبارك والقذافي- ثم يتحول الدكتاتور إلى "صداع" في رأس حلفائه ولا يعود مفيدًا، سخيًا كريمًا كما كان، فتدير له الحكومات الحليفة ظهرها، وتتركه يواجه مصيره.
حاول علي عبد الله صالح أن يطوي صفحة القائمين على حصاره، بدعوتهم لوقف الحصار وباستدعائهم لمساندته ضد الحوثيين، لكن الصفحة انطوت وكان مصرعه
منذ عام 2011، شاهد الشارع العربي عدة مشاهد مثيرة عن مقتل الطغاة الذين حكموه لعشرات السنين بالحديد والنار. وعلى الرغم من أن ذلك لا يغير مزاج أي من الذين لا تزال رؤؤسهم فوق أعناقهم، إلا أنها تعطي نبذة عن مصير أي منهم إذا لم يحالفه الحظ، ويموت على سريره.
علي عبد الله صالح: سقوط البهلوان!
ملفوفًا ببطانية، بينما بقايا مخه متناثرة حوله، مات علي عبد الله صالح أخيرًا وسقط البلهوان السياسي. كان الرجل بهلونًا سياسيًا بحق، لا يدوم له عدو ولا يدوم له حليف أيضًا، كان مستعدًا للعب بكل الخيوط والتمترس خلف كل التوازنات ليبقى على كرسيه.
اقرأ/ي أيضًا: نكسة حزيران.. بدء حكم الطغاة وهزيمة الإنسان
حكم علي عبدالله صالح بلاده 33 عامًا، لاعبًا على أوتار الانقسامات القبلية والسياسية فيها، اصطاده بعض الحوثيون وهو في طريقه إلى الهرب من العاصمة صنعاء، وقتله مجموعة من الحوثيين عند إحدى نقاط التفتيش. لم ينفعه دعمه لهم الذي جعل العاصمة تسقط في أيديهم عام 2014، لكنه سرعان ما أشاح وجهه عن الحوثيين، مقبلًا على التحالف الذي تدعمه السعودية مدعيًا أن اليمنيين حاولوا على مدار عام ونصف أن يتصالحوا مع الحوثيين "لكنهم لم يعودوا قادرين على ذلك".
حاول علي عبد الله صالح أن يطوي صفحة القائمين على حصاره، بدعوتهم لوقف الحصار وباستدعائهم لمساندته ضد الحوثيين، لكن الصفحة انطوت وكان مصرعه هو سطرها الأخير. ومع مقتله بدأ الحوثيون يقومون بهجمات واسعة النطاق لاعتقال المزيد من الموالين له، وتدور رحى الحرب إلى ما لا نهاية وقودها الناس والثأرات العصبية القبلية، وميراث ثقيل من دكتاتورية صالح وألاعيبه.
تلاعب علي عبدالله صالح حتى بالولايات المتحدة التي دفعت ملايين الدولارات له وقواته، لمواجهة فرع القاعدة في اليمن، دون أن يؤثر ذلك على نشاط القاعدة هناك الذي بقي حتى اليوم. حرب قوات التحالف على اليمن، قتلت الآلآف من اليمنيين وأصاب الملايين الآخرين بالجوع والكوليرا.
في إحدى ثلاجات اللحوم في مصراتة، وُضعت جثة القذافي، مضرجة في الدماء، ويتحلق حوله الزوار وبعض ممن شاركوا في إخراجه من أنبوب الصرف وقتله
جوست هيلترمان، الخبير في الشرق الأوسط في "مجموعة الأزمات الدولية" قال إن مقتل صالح لن يعني نهاية الحرب في اليمن، بل إنه يضيف المزيد من الوقود لأتون الثأر والانتقام، ويلقي بالمزيد من الويلات على المدنيين هناك، المنسيون في مشهد الخراب الطويل في اليمن.
ملك ملوك أفريقيا في ثلاجة اللحوم!
في إحدى ثلاجات اللحوم في مصراتة، وُضعت جثة القذافي مضرجة في الدماء، ويتحلق حوله الزوار وبعض ممن شاركوا في إخراجه من أنبوب الصرف وقتله. الرجل الذي كان مهووسًا بالألقاب كعادة زملائه من الدكتاتوريين، الذي سمى نفسه بقائد الثورة الليبية، وملك ملوك إفريقيا، أُطلق عليه أيضًا ألقاب من آخرين، حيث سماه ريغان "كلب الشرق الأوسط المجنون"، وأطلق عليه السادات اسم " الليبي المجنون".
القذافي الذي حكم بلاده 42 عامًا، كان يعيش وقت الثورة الليبية حالة من الإنكار لا يمكن تصديقها ولا تنبع إلا من جنون عظمة ميؤوس منه لرجل يرفض أن يرَ لحظة مقتله على بُعد خطوات منه، كيف لا وقد نصحه صديقه المقرب توني بلير الذي طالما سافر على حسابه بطائرات خاصة بتكلفة تصل لملايين الدولارات، بأن يفر هربًا بحياته، وكان ذلك مما كشفت عنه وثائق رسمية بريطانية، وهو ما تم تسجيله في محادثتين هاتفيتين تم سُلم محتواهما إلى البرلمان البريطاني الذي نشرهما لاحقًا، بعد جلسة استماع إليه في إطار تحقيق برلماني حول التدخل البريطاني في الأزمة الليبية.
اقرأ/ي أيضًا: البلاليع.. مهد الطاعون ومقبرة الطغاة
جنون العظمة جعل الرجل يقول عن نفسه أمام الجماهير في شباط/فبراير إبان اشتعال الثورة ضده: "أنا مجد لا تستطيع ليبيا أن تتخلى عنه، ولا يمكن للشعب الليبي أن يتخلى عنه ولا الأمة العربية، ولا الأمة الإسلامية، ولا أفريقيا، ولا أمريكا اللاتينية، ولا جميع الأمم التي ترغب في الحرية والكرامة الإنسانية وتقاوم الطغيان".
ولطالما لوى القذافي ذراع المنطق ليكون في صفه بمنتهى البساطة، بالبساطة التي صفى بها عسكريوه 1269 سجينًا للرأي في مذبحة سجن أبو سليم عام 1996، بدم بارد. كان يقف مدعيًا أمام الجماهير أنه هو قائد الثورة، رافعًا قبضته صائحًا: "معمر القذافي هو التاريخ، المقاومة، الحرية، المجد، الثورة!". ولطالما أثار ذلك سخرية الناس في الشوارع العربية، وهم يرون جنون السلطة متجسدًا في رجل.
صدام حسين: زبيبة والملك!
وهو طفل، كان يحمل في يده اليسرى وشمًا، عبارة عن خط وثلاث نقاط زرقاء، كما كل أطفال القبائل في المناطق الريفية في العراق. حين قُبض عليه بعد سقوط بغداد بقليل، لم يُنكر الوشم، لكنه أنكر دكتاتوريته الطويلة، بل اعتقد أن العراق كان يحتاج رجلًا حازمًا مثله.
اقرأ/ي أيضًا: هل الربيع العربي من جلب الخراب؟
سُميت مساجد ومطارات وأحياء ومدن بأكملها باسمه، في المدارس غنى الطلبة باسمه، كان له تمثال في مدخل كل قرية، وكأنه شبح يحرسها، وفي كل مكتب حكومي، لدرجة أن هناك نكتة انتشرت سرًا بين منتقديه عام 1988 حين كان تعداد سكان العراق وقتها 34 مليون، أنهم مقسمون بين 17 مليون مواطنًا و17 مليون بورتريه للزعيم الملهم. في العام ذاته أمطر أحد القرى الكردية بالغاز السام في حلبجة حاصدًا أرواح ما يقرب من 5 آلاف شخص من مواطنيه الذين اشتبه في ولاءهم له، وأصيب عشرة آلآف آخرين.
كان يعتقد أن الكويت جزء من العراق، وأن القبور الجماعية التي ارتكبها في بلاده مليئة باللصوص الذين فروا من ساحات المعارك وفقًا لما ذكره عدنان الباجه جي وزير الخارجية العراقي السابق. وقال السيد الباجه جي إن السيد حسين أعلن أنه كان "عادلًا ولكن حازمًا" لأن العراقيين في حاجة إلى حاكم صارم. ويبدو أن ذلك كان موضوعه المفضل الذي كتبه في رواية تحدثت عن حاجة الشعب للدكتاتور العادل أسماها "زبيبة والملك" التي يُقال أنه ألفها.
سُميت مساجد ومطارات وأحياء ومدن بأكملها باسم صدام حسين، في المدارس غنى الطلبة باسمه، كان له تمثال في مدخل كل قرية، وكأنه شبح يحرسها
كان الرجل مهووسًا بتطهير جهازه السياسي والاستخباراتي ممن يخالفونه الرأي، بعد إطاحته ببكر دعا إلى تجمع مئات من كبار رجالات البعث في مؤتمر كبير، كان يحمل قائمة في يده عمن دبروا المؤامرات ضده، كان يقرأ قائمة الأسماء بينما يحمل الحراس الرجال خارج القاعة، أعدم وقتها صدام حسين 21 رجلًا رميًا بالرصاص، بينما ضجت القاعة بهتاف هيستيري "يعيش البعث.. يسقط الخونة!".
أنهك البلاد وشعبها في حروب كان همها الأول ميوله الشرهة للتوسع، وانتهى به الأمر أيضًا يخرج من حفرة في باطن الأرض، بينما تُركت مهمة التأكد من حقيقته لأجهزة الاستخبارات الأمريكية.
الدكتاتوريون الثلاثة، كانوا أنموذجًا لهوس السلطة، تركوا عروشهم على جثثهم، وجثث أبرياء من شعوبهم، بل وأحيانًا جثث من تحالفوا معهم يومًا ما. الباقون على كراسيهم اليوم يبلعون ريقًا مرير الطعم. إبليس يقلم أظافره من بعيد ويهمس في إذن من سيحين عليه الدور: "الدكتاتور العاقل هو من يترك السلطة مع الحياة!".
اقرأ/ي أيضًا:
"كان نائمًا حين قامت الثورة".. ما لن يقرأه السيسي
بريطانيا والقذافي.. العراب توني بلير وجرائم لندن نيابة عن العقيد (2-1)