لم يعد شارع المتنبي، الذي يقع جانب الرصافة في بغداد، شارعًا لبيع الكُتب فحسب، بل هو الآن شارع يُقام فيه كرنفال أسبوعي. تظاهرات، لقاءات، برامج تلفزيونية، حملات مدنية، نشاطات اجتماعية، سياسيون يروجون لأنفسهم، جروبات مصورين فوتوغرافيين. ليس هو المتنبي الذي يعرفه الجميع.
في 2007، تعرض شارع المتنبي لتفجير سيارة ملغمة، راح ضحيتها 30 شخصًا
شارع مستقيم، لا انحناءات فيه، يبدأ من أحد أطراف شارع الرشيد وينتهي عند نهر دجلة. طوله أقل من نصف كيلو متر، الزحام فيه ثيمة أساسية، يجوبه الباعة الجوالة، على رصيفيه كُتب قيمة، وفي تفرعاته الضيقة مطابع ومكاتب كبيرة لها تأريخ طويل. في هذا الشارع رمزية كبيرة للمثقف العراقي، الذي لا يفوت يوم جمعة دون الذهاب إليه.
عند مدخل الشارع يقف شرطيان، يُفتشان الجميع دون استثناء. عندما تجتازهما ستبدأ رحلتك في فضاء الثقافة العراقية، هذه الرحلة لا تخلو من الاحتكاك الجسدي مع المارة، فالشارع ضيق، والرواد كُثر، والمكتبات الصغيرة التي تفرش كتبها على الأرض، أخذت هي الأخرى من مساحة المارة. يبدو أن وجود نشاطات غير معرفية، مثل التظاهرات وغيرها، أمر يزعج الكاتب والإعلامي، وليد الشيخ، الذي يقول إن "الشارع شهد تحولات قد تؤثر على مساحة اشتغاله المعرفية بسبب النشاطات لبعض المنظمات والهواة، وغيرهم". ويعتقد أن "شراء الكتب بدأ بالانحسار واقتصر على الباحثين والمختصين، حتى أن بعض الكتبيين يعانون من هذه الظاهرة بشكل كبير، ولم يحققوا مبيعات تتناسب مع حجم زوار الشارع في يوم الجمعة".
في 2007، تعرض الشارع لتفجير إرهابي بسيارة ملغمة، راح ضحيتها 30 شخصًا ما بين زوار للشارع وبائعي كُتب. كان لمقهى الشابندر الذي يُعد من المقاهي البارزة في بغداد نصيبًا من التفجير، مثله دُمرت أقدم مكتبة في الشارع "المكتب العصرية" التي يعود تأريخ تأسيسها إلى عام 1908.
تأريخ الشارع يعود إلى العصر العباسي في القرن التاسع، عندما كان مكانًا للتأليف والترجمة. وفي بداية القرن العشرين، بدأ الشارع بالازدهار وراجت فيه بيع الكُتب، والتبادل الثقافي بين رواده، ومنذ ذلك الوقت أصبح مركزًا أساسيًا للباحثين وأساتذة الجامعات والقراء وكل الباحثين عن أي كتاب.
أثناء فترة حُكم صدام حسين للعراق والتشديد الذي فرضه على الثقافة العراقية التي أصبحت حينها ثقافة "تعبوية"، بسبب المراقبة الكبيرة على الكُتب والقراء وبائعيها، حيث منع تداول بعض الكُتب خاصة الدينية والماركسية منها، حينها لم تعد الحركة في الشارع كبيرة، بسبب الوضع الاقتصادي في تسعينييات القرن الماضي وعدم وجود طبعات جديدة لاغلب الكُتب.
كان شارع المُتنبي يُسمى "الأكمكخانة"، أي المخبز، ومن أبرز معالم الشارع هي ساعة "القشلة" التي كانت قبل قرون "المدرسة الموفقية". ومعنى "القشلة"، هو الثكنة العسكرية، أو ثكنة الجنود، بحسب اللغة العثمانية حينها. قبل سنوات عملت الحكومة المحلية في بغداد على تطوير أجزاء منه، وكانت لتلك التغييرات بصمة إيجابية على شارع أُهمل، لأن المسؤول العراقي قليل المرور به، ولأن وفود القمة العربية والمؤتمرات الدولية لا يزورونه، لذلك لم تأبه له الحكومات العراقية أبداً.
يجتمع فيه ناشطون مدنيون في صالونات غير مغلقة، يتبادلون الحديث عن أوضاع البلاد
لم يقتصر شارع المتنبي اليوم على بيع الكُتب ومطالعة العناوين الجديدة لشرائها، هو اليوم شارع يجتمع فيه ناشطون مدنيون في صالونات غير مغلقة، يتبادلون الحديث عن أوضاع البلاد. في المقابل شهد الشارع خلال العامين الماضيين وجود مكثف للمصورين الهاوين، الذين يوثقون يوميات هذا الشارع بشكل كبير جدًا.
نهاية الشارع بالقرب من نهر دجلة، يوجد نهر الشاعر المتنبي، هو الآخر تعرض للإهمال وعدم وجود إدامة عليه. في بعض الأحيان يقوم عدد من المثقفين بغسله بمرشات غسل السيارات، لنفض الغبار منه.
يرى الشاعر والصحفي عمر الجفال أن بعض وسائل الإعلام تتخذ من هذا الصرح الثقافي مكانًا لإنجاز تقارير ومواد إعلامية لا تمت للشارع بصلة، وإنما تتواجد هناك فقط لوجود شخصيات معروفة. ولأن وسائل الإعلام أصبحت على تواجد مستمر في شارع المتنبي كل يوم جمعة، راح بعض المطالبين بحقوقهم من فئات الشعب العراقي ينقلون تظاهراتهم إلى هناك، على أساس التواجد الكبير للفضائيات هناك، التي لا تُعنى بنقل نشاطات الشارع، بل لإنجاز تقارير واستثمار وجود الوجوه المعروفة هناك.
المتسولون كذلك، لهم دور كبير في هذا الشارع، الذي لا يخلو كل يوم جمعة من 20 متسولًا تقريبًا. هؤلاء يعوّلون في تواجدهم هناك على الأعداد الكبيرة من الزوار ورواد الشاعر، لكنهم في المحصلة غير قادرين على جمع ما يحصلون عليه يومياً في أماكن أخرى، فأغلب الحاضرين للشارع، فُقراء ماديًا.