شهدت العاصمة الفرنسية باريس ليلة دامية، يوم الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر، والتي وصفت بأنها الأسوأ على باريس منذ الحرب العالمية الثانية. حيث نفذ مسلحون مذابح مروعة في مواقع متفرقة راح ضحيتها ما يصل إلى مائة وسبعة وعشرين قتيلًا، بالإضافة إلى مئات الجرحى، وآلاف المذعورين. فقد شن مسلحون هجمات متزامنة، اختلفت بين العمليات الانتحارية، وإطلاق النار العشوائي، واحتجاز الرهائن وقتلهم عند محاولة الشرطة الفرنسية تحريرهم.
عقب انتهاء الهجمات، كان المهاجمون الثمانية قد لقوا مصرعهم، سبعة منهم إثر تفجير أحزمتهم الناسفة، والثامن إثر اشتباكه مع الشرطة الفرنسية
تأتي تلك الأعمال بعد عشرة أشهر فقط من الهجوم على مجلة "تشارلي إيبدو" الفرنسية، في قلب باريس أيضًا، ما يثير تساؤلات حول سبب تحول فرنسا تحديدًا لهدف سائغ لذلك النوع من الهجمات، بالإضافة إلى علامات استفهام حول كيفية دخول ذلك الكم من المتفجرات والأسلحة، وبالتأكيد، المنفذين. "يرجح وجود الكثير من المتورطين"، حسبما صرح مسؤول بارز بسلطات مكافحة الإرهاب الأوروبية، والذي رفض ذكر اسمه، لصحيفة واشنطن بوست.
بدأ الموعد الباريسي مع الدم والذعر في حوالي الساعة التاسعة والنصف مساء، في مسرح "باتاكلان"، حيث أقيم حفل لفرقة موسيقية أمريكية، هناك دخل المهاجمون إلى المسرح وشرعوا في إطلاق النيران. ثم اتخذوا رهائن من بين جمهور المسرح في حوالي الساعة العاشرة. وبعد مداهمة شنتها قوات الأمن الفرنسية، أعلنت وسائل إعلام فرنسية على لسان مسؤولين عن سقوط ثمانين قتيلًا على الأقل هناك، حيث كان هناك أربعة مسلحين، ارتدى ثلاثة منهم أحزمة ناسفة وتمكنوا من تفجيرها.
توجه مسلحون آخرون صوب مطعم عند زاوية شارعي شارون وفيدرب، ليلقى ثمانية عشر شخصًا مصرعهم في تلك المنطقة، حسبما صرح المحققون. كذلك تعرض مطعم آخر للهجوم، ما أسفر عن مقتل أربعة عشر شخصًا.
بينما لعب منتخبي فرنسا وألمانيا مباراة ودية في استاد فرنسا، وهو الاستاد الرئيسي في البلاد، سُمعت أصوات انفجارين على الأقل خارج الاستاد، ما نتج عنه مقتل أربعة أشخاص والإجلاء الفوري للرئيس الفرنسي، الذي كان حاضرًا في الاستاد. تبين لاحقًا أن الانفجارين قد نتجا عن عمليات انتحارية، حسبما صرح مصدر استخباراتي غربي لـ(سي إن إن).
إعلان الطوارئ في فرنسا
بحلول ذلك الوقت، كان الهرج والمرج قد ساد أنحاء باريس مع محاولة الفرنسيين، والسياح، الاحتماء بمنازلهم ومحلات إقاماتهم عقب دعوة السلطات للجميع لملازمة منازلهم، ما دفع بعض سكان باريس إلى تدشين هاشتاج "الأبواب مفتوحة" على تويتر، في دعوة مفتوحة لمن لم يتمكنوا من العودة إلى منازلهم ليحتموا بأقرب ملجأ آمن حتى زوال الخطر. كما دعت المستشفيات المواطنين للتبرع بالدم من أجل مساعدة المصابين.
عقب انتهاء الهجمات، كان المهاجمون الثمانية قد لقوا مصرعهم، سبعة منهم إثر تفجير أحزمتهم الناسفة، والثامن إثر اشتباكه مع الشرطة الفرنسية، حسبما صرحت أغنيس تيبو- ليكويفر، المتحدثة باسم المدعي العام الفرنسي لوكالة "أسوشيتد برس".
بعد إجلائه عن الاستاد، ظهر الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، في خطاب موجه للشعب الفرنسي، حيث وصف فيه الهجمات بأنها "عمل حرب"، محملًا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) مسؤولية تنفيذ الهجمات، كما أعلن حالة الطوارئ وإغلاق حدود البلاد، وطلب من الجيش إرسال تعزيزات إلى العاصمة الفرنسية للمساعدة في تأمين المواقع الحساسة، وبالفعل، تم نشر ألف وخمسمائة جندي فرنسي. جدير بالذكر أن آخر مرة نشر فيها الجيش الفرنسي داخل العاصمة الفرنسية كانت إبان أحداث "تشارلي إيبدو"، منذ عشرة أشهر.
وفق مجلة "تايم"، يعني إعلان حالة الطوارئ أن السلطات يمكنها وضع أحياء ومدن كاملة تحت التأمين، وأن تغلق قاعات الحفلات وجميع أماكن الترفيه الأخرى، وكذلك إجراء عمليات التفتيش داخل أي مبنى. تمثل هذه المرة إحدى الحالات النادرة التي اضطرت فيها فرنسا لتطبيق مثل تلك الإجراءات الصارمة داخل حدودها. كانت المرة الأخيرة في نوفمبر 2005، بعد أن أثار موت مراهقين من أبناء المهاجرين أعمال شغب في أنحاء البلاد، واستمرت حالة الطوارئ حتى الرابع من يناير 2006. كما أعلنت الشرطة الفرنسية منع التظاهرات العامة والمسيرات في باريس والمناطق المحيطة لعجزها عن تأمينها في ضوء الظروف الحالية.
وفي غضون ذلك، في الولايات المتحدة، أعلنت شرطة نيويورك، وشرطة واشنطن العاصمة، عن تعزيز انتشارها في الأماكن المزدحمة "بدافع الحذر"، رغم عدم ذكر أي تهديد وشيك أو حقيقي.
اقرأ/ي أيضًا: ليالي النحس في فيينا
المهاجمون
بينما لم تعلن أي جهة في الساعات الأولى مسؤوليتها عن تنفيذ الهجمات، قوبلت الأحداث باحتفاء واسع من قبل مناصري تنظيم الدولة الإسلامية على مواقع التواصل الاجتماعي. إلا أن التنظيم أعلن في النهاية مسؤوليته عن الهجمات عبر بيان أصدره على الإنترنت، حيث اعتبرها ردًا على المشاركة الفرنسية في الغارات التي تستهدف مواقع التنظيم في العراق وسوريا، ضمن الحملة الدولية تحت قيادة أمريكا الهادفة للقضاء على التنظيم. كما ذكرت ريتا كاتز، مديرة مجموعة "سايت" الاستخباراتية المعنية بمراقبة الأنشطة الإرهابية على الإنترنت، أن أحد المواقع التابعة لداعش، "دابق"، قد احتفى بالهجمات عبر قناته الفرنسية، حيث أورد الموقع: "فرنسا ترسل طائراتها إلى سوريا يوميًا، لتقصف وتقتل الأطفال والكبار، واليوم، تتجرع فرنسا من نفس الكأس".
جدير بالذكر أن بعض شهود العيان قد صرحوا بأن المهاجمين رددوا صيحات "الله أكبر" أثناء تنفيذهم للهجمات. كما أوردت صحيفة ليبراسيون الفرنسية أنه تم العثور على جوازي سفر سوري ومصري قرب جثث اثنين من منفذي هجمات الاستاد، بينما صرحت الشرطة الفرنسية بأنها قد تعرفت على أحد منفذي هجوم المسرح عبر بصماته، ووصفته بأنه فرنسي الجنسية "معروف لدى أجهزة الأمن". كما ذكرت وكالة "أسوشيتد برس" نقلًا عن مسؤول يوناني، أن صاحب جواز السفر السوري قد دخل إلى الاتحاد الأوروبي عن طريق اليونان يوم الثالث من أكتوبر. إلا أنه لم يَصدر بعد أي تأكيد حول كون المنفذ هو صاحب جواز السفر الحقيقي، أم أنه قد حصل عليه عن طريق السوق السوداء. وصرح شهود عيان بأن المسلحين لم تتجاوز أعمارهم خمسة وعشرين عامًا، حسبما أوضحت ملامحهم.
أوردت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، نقلًا عن مصادر داخل الحكومة البريطانية، أن المهاجمين كانوا أعضاء في "خلية قائمة بذاتها"، وقد سافروا إلى سوريا. تأتي تلك الأنباء وسط مخاوف أوروبية حول مصير المقاتلين الأجانب الذين انتقلوا إلى سوريا في حال محاولتهم العودة إلى بلادهم مع احتمالية تنفيذهم لهجمات على أراضيها.
ردود أفعال دولية
تمثل هجمات باريس الحلقة الثالثة ضمن سلسلة من الهجمات الأخيرة التي أعلن داعش مسؤوليته عن تنفيذها، رغم عدم تأكيد السلطات الحكومية ذلك في جميع الحالات
قوبلت الهجمات بتصريحات دولية واسعة النطاق، حيث لاقت الهجمات إدانة من قبل العديد من القادة العالميين، وكذلك بعض الرموز الدينية والإسلامية. بينما كانت بعض التصريحات أكثر تطرفًا، حيث دعى مرشح الرئاسة الجمهوري الأمريكي، بن كارسون، إلى ضرورة منع استقبال اللاجئين الشرق أوسطيين في الولايات المتحدة، حسبما أوردت صحيفة واشنطن بوست.
وعلى الجانب الآخر، علق رئيس الحكومة السورية، بشار الأسد، بأن هجمات باريس كانت نتيجة للدعم الفرنسي لقوى المعارضة في الحرب الأهلية ببلاده. وأضاف: "السياسات الخاطئة التي انتهجتها الدول الغربية ولا سيما الفرنسية ازاء ما يحصل في منطقتنا وتجاهلها لدعم بعض حلفائها للإرهابيين هي التي ساهمت في تمدد الإرهاب".
بينما أعلن وزير العدل البلجيكي، يوم الرابع عشر من نوفمبر، عن تنفيذ "عدد" من الاعتقالات في بروكسل على صلة بهجمات باريس. كما عرضت ألمانيا إرسال وحدة لمكافحة الإرهاب إلى فرنسا.
داعش يغير استراتيجيته
تمثل هجمات باريس الحلقة الثالثة ضمن سلسلة من الهجمات الأخيرة التي أعلن داعش مسؤوليته عن تنفيذها، رغم عدم تأكيد السلطات الحكومية المعنية على ذلك في جميع الحالات، بعد التفجير الانتحاري في بيروت الذي حصد أرواح ثلاثة وأربعين شخصًا على الأقل، وإسقاط الطائرة الروسية في صحراء وسط سيناء المصرية. ما يحمل دلالات، حسبما تشير مجلة "تايمز"، على تغيير في استراتيجية التنظيم. فبعد أن كان اعتماده الأساسي على شن هجمات داخل العراق وسوريا بهدف التمدد وتوسيع الأراضي الخاضعة لسيطرته، أصبح ينفذ عمليات خارج تلك الأراضي.
أعلنت شرطة نيويورك، وشرطة واشنطن العاصمة، عن تعزيز انتشارها في الأماكن المزدحمة "بدافع الحذر"
كما أوضحت المجلة أن تلك الهجمات تتزامن مع تعرض التنظيم لضغوط شديدة في معاقل سيطرته. فخلال الأسبوع السابق للهجمات، نجحت القوات الموالية لنظام الأسد في كسر الحصار عن قاعدة كوريس الجوية في سوريا. ونجحت القوات الكردية في العراق في استعادة السيطرة على بلدة سنجار التي سيطر عليها التنظيم منذ أكثر من عام.
يعيد ذلك إلى الذاكرة أسلوب تنظيمات جهادية أخرى، مثل تنظيم القاعدة، التي اعتمدت على شن هجمات على الأراضي الغربية، دون محاولة السيطرة على، أو حكم، أراضي في المناطق التي توجد بها تلك التنظيمات. كما أورد بيان داعش أن تلك الهجمات هي "أول الغيث وإنذار لمن أراد أن يعتبر". إلا أن غياب التفاصيل حتى الآن يثير أسئلة حول إن كانت الهجمات قد تمت بالتنسيق مع التنظيم في معاقله، أم أنه قد أعلن مسؤوليته عنها فقط. وفي ضوء هذا التهديد الصريح والمباشر من جانب التنظيم، تبقى مواقع الهجمات التالية محل ترقب وحذر.
اقرأ/ي أيضًا: