في واحدة من ليالي بغداد انتهت حياة شاعر بصمت عن عمر ناهز الـ80 عامًا، إنها رحلة من الجيد أن تنتهي بهذا الهدوء الحزين، إذ أن حروف الشاعر خالد علي مصطفى تتكلّم بدلًا عنه مدى الدهر وتنتج له حياة أخرى.
حروف الشاعر خالد علي مصطفى وقصائده تتكلّم بدلًا عنه مدى الدهر وتنتج له حياة أخرى
في 26 شباط/ فبراير غيب الموت الشاعر والناقد خالد علي مصطفى في أحد مستشفيات بغداد، و نقل خبر وفاته الروائي أحمد سعداوي عبر صفحته الشخصية في "فيسبوك"، وكتب عنه "سأبقى مدينًا للراحل خالد علي مصطفى ما حييت لأنه ساهم في دفعي الى الأمام، مثلما أعرف أن هناك الكثير في الوسطين الثقافي والأكاديمي ممن يشعرون بالامتنان لهذا الرجل الكبير. الرحمة لروحك خالد علي مصطفى، والعزاء لأهلك ومحبيك".
اقرأ/ي أيضًا: ناجي رحيم: العالم أرجوحةُ فُقدان
لم يكن حضور الشاعر خالد علي مصطفى حضورًا موسعًا في الإعلام العراقي، خصوصًا إذا عرفنا أنه يتقي الحديث عن نفسه وعن شعره، وهذا شأن كل المبدعين الذين ما انفكوا ينظرون إلى أعمالهم بعين الاستصغار، مما يدفهم إلى الاستمرار في المسيرة الإبداعية حتى آخر رمق من الحياة، فحتى خبر وفاته لم ينشر ولم ينعى من شخصية سياسية بارزة. باستثناء بعض الأدباء والكتّاب العرب، خاصّة من العراقيين والفلسطينيين.
إن عصر السرعة لا يعطي مساحة أو أهمية لهؤلاء الذين ليس لهم نوافذ على منصّات التواصل الاجتماعي أو غيرها، فهو لا يملك حسابًا شخصيًا على موقع أي من مواقعها ولا يجيد الترويج لنفسه، تاركًا أعماله هي من تشهد له وتعرفه للناس، لذلك رحل دون ضجيج في ظل إعلام حكومي لم يكترث لشاعر أحب العراق وخرّج أجيال فيه إلى أن اختطفته يد المنون.
في قرية عين غزال قرب حيفا، ولد الشاعر الفلسطيني – العراقي خالد علي مصطفى في عام 1939. لجأت عائلته إلى الأقطار العربية المجاورة بعد وقوع النكبة لتستقر أخيرًا ببغداد، وفيها أتم تحصيله العلمي، حيث حصل على الماجستير في الآداب سنة 1976 حول موضوع الشعر الفلسطيني الحديث من 1948- 1970، ثم الدكتوراه من جامعة بغداد، وعمل أستاذًا في الجامعة المستنصرية منذ 1966، إضافة إلى عمله في الصحافة الثقافية، سكرتيرًا للتحرير ورئيسًا للتحرير، وكان عضو اتحاد الكتّاب العراقيين، وعضو نقابة الصحفيين العراقيين واتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين.
ومن مؤلفاته: سفر بين الينابيع وموتى على لائحة الانتظار "شعر"، والبصرة ـ حيفا "شعر"، والمعلقة الفلسطينية، والشعر الفلسطيني الحديث "دراسة نقدية"، وشاعر من فلسطين "مطلق عبد الخالق" بغداد، وغزل في الجحيم "شعر"، وسورة الحب، وشعراء البيان الشعري "دراسة نقدية"، والوصف: ثراء الجملة الشعرية بأفق واسع من الدلالات الموحية.
يقول عنه الشاعر سامي مهدي في مقال بعنوان "خالد علي مصطفى: شهادة موجزة عن رجل مسهب"، إنه "شاعر مبدع مجتهد، ولكن النقد لم يولِ شعره من الاهتمام ما يستحقه، ومن الدراسة ما هو جدير بها، والسبب يعني النقاد وعددهم النقدية وانحيازاتهم الخاصة، ولا يعني شعره وعافيته الإبداعية"، مضيفًا "أما خالد، فقد كان، دائمًا، متحرجًا، زاهدًا، في الحديث عن نفسه وعن شعره، مبينًا أنه "يكتب قصيدته ويتركها لنا، ولا يمنّ بها علينا. أرى أن شعر خالد ينتمي إلى الشعر العراقي الحديث في خصائصه الفنية، قبل أن ينتمي إلى غيره، حتى ليمكن القول: إنه شاعر عراقي، قبل أن يكون شاعرًا فلسطينيًا. ولعل من المفارقة أن يعده العراقيون شاعرًا فلسطينيًا في حين ينظر إليه الفلسطينيون وكأنه شاعر عراقي".
وكتب عنه الدكتور رعد رحمة السيفي مقالًا بعنوان "قراءة في قصيدة رحلة الغجر للشاعر خالد علي مصطفى"، أن "خالد من جيل شعري هام في خريطة الشعر العربي المعاصر، فهو الستيني في كل ما يحمل هذا المصطلح من دلالة تجديدية ورؤيوية وثقافية خاصة".
إن خالد علي مصطفى شاعر مبدع ومجتهد ولكن النقد لم يول شعره من الاهتمام ما يستحقه وهو من جيل شعري هام في خريطة الشعر العربي
نشر الشاعر خالد علي مصطفى أول قصائده منذ نهاية الخمسينيات، وعرف اسمًا بارزًا على خارطة الشعر العربي، والعراقي والفلسطيني خصوصًا، وهو إضافة إلى كل ما سبق يعد من جماعة البيان الشعري الصادر سنة 1969، البيان الذي كتبه فاضل العزاوي ووقعه سامي مهدي وفوزي كريم، بينما اكتفى خالد علي بوصفه رابع شعراء البيان. وهو الذي دعا الى تأسيس رؤية جديدة للشعر ورسم أفق جديد لحداثة تتكئ كثيرًا على المعرفة المستمدة من التراث العربي وتحاول تخليص الكتابة من كل أشكال السلطات.
ويرى النقاد أن الشاعر خالد علي مصطفى يحاول الكتابة بلغة أخرى غير لغة شعراء الخمسينات في العراق، أي غير لغة السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة، فقد سعى إلى الكتابة بلغة غير قياسية، استعارية، تقيم مفرداتها علاقات غير مألوفة فيما بينها، علاقات ذات أفق سوريالي، ولكنها تنشأ في الخفاء نسيجًا دلاليًا يفضي في النهاية إلى رسالة طبيعية ذات أيديولوجية قابلة للتأويل.
"رأيت صوتي يستدير حول عوذةٍ
يسحب من ورائه حنجرةً
تساقطت من الغصون علبة مثقوبةً
تساقط الصدى من الثقوبْ
الرقبة
تشبثت بالعتبة
وانتظرت رقصتها حتى يجيء الجرح بالقمرْ".
ومن محطات الشاعر خالد علي مصطفى النقدية، أنه سجّل مؤاخذات على محمود درويش وأدونيس وأنسي الحاج، فاعتبر أن ديوان درويش "سرير الغريبة" يبرز فيه الاتجاه الذاتي، فيما اتهم أدونيس بأنه شاعر أيديولوجي، ويقصد بذلك أنه ينطلق في شعره من وضع أيديولوجي قائم لديه ومستمر معه دون أن يستطيع مغادرته، ولذا جاء شعره ليس تعبيرًا عن تحولات في الأيديولوجيا، بل عن تحولات في الأسلوب والتشكيل اللغوي. أما أنسي الحاج فلم يعد، حسب رأيه، يقول شيئًا، خاصة في دواوينه الأخيرة، حيث أخذ يميل إلى ضرب من النثر التوراتي التقليدي.
حلمٌ أجهضه الموت
كان من ضمن أحلام الشاعر خالد علي مصطفى أن يرى حبيبته "حيفا" مدينة طفولته ومسقط رأسه لكن الموت كان هو الأقرب في لائحة الانتظار، رحل به إلى قدره الأخير فخسر العراق وفلسطين واحد من أبرز المثقفين والقامات الأدبية والأكاديمية. ومن ديوانه "موتى على لائحة الانتظار"، يقول الشاعر:
وكلّما سارت بنا الطريق نحو بيتنا العريق
تشمخ في وجوهنا الجبال،
تهرأت أقدامنا من الحصى
دون دليل يمسك الطريق
وطوقتنا وحشة الصحراء تنفث الهجير في
وجوهنا جذى رمال،
وقبل أن نبدأ بالسفر
اخبرنا الرعاة عن مخابئ المياه في الجبال:
"هلم أيها البراق نجنا،
اطو بنا المسالك الطوال.
شفاهنا تخزن في عروقها الرمال
تهشّم النداء في صدورنا
فكيف يسمع النداء من غبر؟".
اقرأ/ي أيضًا:
رحيل الشاعر العراقي عريان السيد خلف.. موت الشعر العامي الملتزم