اندلعتْ احتجاجات ثورة تشرين العراقية في الأوّل من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لتبدأ الشرارة في بغداد، ومن ثمّ تنتقلُ إلى المحافظات الجنوبية، وذلك احتجاجًا على تفشّي البطالة وانتشار الفساد وتردّي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وقد تفاقمتْ مطالب المتظاهرين إلى أن وصلتْ إلى إسقاط النظام واستقالة حكومة عادل عبد المهدي، الّذي استقال نهاية تشرين الأول، وقد قوبلت المظاهرات من قبل النظام بالعنف الطاغي، ليصلَ عدد القتلى إلى حوالي 460، والجرحى نحو 23 ألف.
يعد سعيد من أوائل من سمّى احتجاجات تشرين بالثورة بل ويعتبرها الثورة الأولى في تاريخ العراق
وفي إطار ذلك، عقدَ مُنتدى العلاقات العربية والدولية يوم الثلاثاء 24 كانون الأول/ديسمبر 2019 في الحي الثقافي (كتارا) بالدوحة، محاضرةً عامة تحت عنوان "ثورة تشرين/أكتوبر 2019 في العراق ومسار الانتقال الديمقراطي في العالم العربي"، استضافَ فيها المُفكّر والباحث العراقي حيدر سعيد الذي يشغلُ حاليًا موقع رئيس قسم الأبحاث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية".
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: ثورة العراق وطريق التحول من الطائفية إلى الديمقراطية
ويعد سعيد من أوائل من سمّى احتجاجات تشرين بالثورة، بل ويعتبرها الثورة الأولى في تاريخ العراق، كما أنّ له تجربة نقدية وثقافية وسياسية واسعة، فقد نقدَ في كتابه "سياسة الرمز: عن نهاية ثقافة الدولة الوطنية في العراق" (2009)، المرويات الكُبرى للدولة العراقية منذ عام 1921، وأشرفَ على فريق بحثي حول "وضع العلوم الاجتماعية في الجامعات العراقية" (2008)، وأدار فريقَ بحث تولى إنجاز دراسة عن "المجتمع المدني الإسلامي في العراق" (2010)، كما أسهم في تأليف التقرير الوطني لحال التنمية البشرية في العراق لسنتي 2009 و2014.
ويمتاز تحليل سعيد بابتعاده عن النَفَس الأيديولوجي والطائفي، وانطلاقه من فكرة المواطنية والهوية العراقية، وقد تجلّى ذلك في مقاله "أنا مسيحي" (2010)، الّذي كتبه تعليقًا على حادثة كنيسة سيّدة النجاة في بغداد، مُعتبرًا أنّ المسيحية ليست عقيدة، بل اختيار سياسي، وأنّ الدفاع عن المسيحية بهذا المعنى، هو دفاع عن المواطنة العراقية.
وفي مُحاضرته حول ثورة تشرين في العراق، قام بتحليل منبع مصدر الحركة الاحتجاجية والتّحديات الّتي تواجهها، ومن ثمّ قام بموضعتها في سياق ثورات الربيع العربي، وما باتَ يُسمّى بـ"الموجة الثانية للربيع العربي". وفي ذلك، تناولَ علاقة المثقف بالثورة، تاريخ الحركة الاحتجاجية في العراق، خصوصية ثورة تشرين، مفهوم الثورة، مسألة الانتخابات.
كتابة سرديات الثورة: عن دور المُثقف في التحوّلات التاريخية
افتتحَ حيدر سعيد مُحاضرته بالإشارة إلى التركيز في مداخلاته على محاولة كتابة سرديات الثورة، الّتي لا تكتبها ميادين الاحتجاج، وهو يعتبرُ ذلك جزءًا من الفعل الثوري؛ علاقة المثقف بالثورة، ففي هذه الأحداث يُثار السؤال عن دور المُثقف في التحوّلات التاريخية، الّذي يراهُ يتمحورُ بشكلٍ رئيس حول تقديم البدائل، وأنّ كل ثورة لها سرديات تعتنقها الجماعة، والدور الأهم للمثقف هو كتابة هذه السرديات، لذلك أشارت مقالته حول احتجاجات تشرين "تأميم إسقاط النظام في العراق"، إلى أنّ هذه الحركة الاحتجاجية هي ثورة تنطلقُ من عُقدة إزاء نيسان 2003؛ إسقاط نظام استبدادي عن طريق قوة احتلال أجنبية عسكرية، وسمّى الأحداث الحالية بأنّها محاولة تأميم ذلك، أي إعادة إسقاط النظام إلى الأمّة ذاتها.
أشار سعيد إلى ضرورة التركيز محاولة كتابة سرديات الثورة الّتي لا تكتبها ميادين الاحتجاج وهو يعتبرُ ذلك جزءًا من الفعل الثوري يقع على عاتق المُثقف
ويرى سعيد أنّ الأربع حركات الاحتجاجية الكُبرى الّتي انطلقت في العالم العربي عام 2019؛ السودان والجزائر والعراق ولبنان، أثبتتْ أنّ الربيع العربي ليس كما كتبَ الكثيرون بأنّه أخفق، ولا يملكُ سوى قصّة نجاح يتيمة في تونس، بينما انكفأ في مصر وسوريا وليبيا واليمن، فالربيع العربي قصّة طويلة ما زالت مُستمرة، وحتّى لو تعثّرتْ موجة عام 2019، فقصّة الربيع العربي لن تنتهي.
تاريخ الحركة الاحتجاجية في العراق ما بعد 2003
يُرجع سعيد الحركات الاحتجاجية ما بعد 2003 إلى صيف العام 2009، الّذي شهدتْ فيه مُدن جنوب العراق تظاهرات واسعة احتجاجًا على تردّي الخدمات وعجز الدولة عن الوفاء بالحاجات الأساسية للمواطنين، وقد تكرّر الأمر ذاته في أعوام 2011، 2012، 2013. لكن حركة 25 شباط 2011، نتجتْ بتأثيرٍ مباشر لأحداث الربيع العربي، ولذلك حملتْ الاحتجاجات مطالب ديمقراطية ونادتْ بإصلاح النظام. وفي عامي 2012 و2013، كانت هُناك حركة احتجاج واسعة فيما يُعرف بـ"المحافظات السُنيّة"، وتكرّرت حركة احتجاج واسعة في صيف العام 2015، الّتي بدأتْ في مدينة البَصرة، ثم مع دخول تيار سياسي على هذه الحركة -وهو التيار الصَدري- تحوّلت إلى حركة تُطالب بإصلاح سياسي في بداية العام 2016. وفي صيف العام 2018، اندلعت حركة الاحتجاج في البصرة بسبب عجز الدولة عن الوفاء بالخدمات الأساسية للناس، وها نحن الآن أمام الحركة الاحتجاجية للعام 2019 الّتي ما زالت مُستمرة.
وفي تحليله للحركة الاحتجاجية في العراق، يُشير سعيد إلى أنّ الحركة مُستمرة منذ عام 2009 -قبل التّحول الّذي طرأ عليها عام 2019- كانتْ تنطلقُ في موسم الصيف، ومُحركها الأساسي يتمثّلُ في عجز الدولة عن الوفاء بالخدمات الأساسية، ويرى أنّ هذا النوع من الاحتجاج ينبعُ من الحالة الدولاتية (Statism)، أي الإيمان بأنّ الدولة هي الناظم الأساسي للمجتمع، وتنشأُ هذه الحالة خصوصًا في الدول الريعية الّتي يقومُ اقتصادها على سلعة أساسية -وفي حالة العراق هي النفط- وبالتالي يكون المجتمع دائمًا مُعتاش على الدولة، والعراق قبل عقوبات عام 1990، كان نمطًا مثاليًا للدولة الريعية، فالدولة كانتْ هي المُشغّل والمُستورد والمُعلّم وكل شيء، وعليه فثقافة المُجتمع هي ثقافة دولاتية، حيث تعوّدَ على أنّ الدولة هي الّتي توفّر كل هذه الخدمات، وبالتالي فالحركة الاحتجاجية هي كانت بمثابة اعتراض على غياب الدولة.
يصنف سعيد "ثورة تشرين" ضمن الاحتجاجات التي تنبعُ من الحالة "الدولاتية" أي الإيمان بأنّ الدولة هي الناظم الأساسي للمجتمع
واستخلاصًا من ذلك، يُصيغ سعيد معادلة لفهم الحركة الاحتجاجية الناشئة في العراق أنّه: كُلما ضعفتْ الدولة، قَويت الحركة الاحتجاجية.. وحين تقوى الدولة وتَفي بالخدمات الأساسية المَنوطة بها، تَضعفُ الحركة الاحتجاجية.
التوقيت ورد فعل النظام: خصوصية ثورة تشرين
ينتقدُ سعيد مُحاولات نزع جذور الحركة الاحتجاجية من قِبل النظام، ويَصِفُها بالمحاولات الترقيعية، بمعنى أنّه لم تنبنِ رؤية داخل الطبقة السياسية الحاكمة في العراق بحلٍ جَذري، لذلك كانت الحلول دائمًا ما تنكفئُ وبالمقابل تقوى الحركة الاحتجاجية مرّةً أخرى، فبعد 17 عامًا من سقوط نظام صدّام حسين والاحتلال الأمريكي للعراق، ونحو تريليون دولار من عائدات النفط (خاصةً مع ارتفاع أسعار النفط في الفترة ما بين 2008-2014)، لا زالَ العراق لا يستطيعُ توفير الخدمات الأساسية، مثل: الكهرباء، الماء، إعادة تعمير البُنية التحتية، وغيرها. ولذلك توقّع الكثيرون -ومن بينهم سعيد- أنّ هذا الانهيار المؤسسي في الدولة، سيقودُ يومًا ما إلى انتفاضة.
اقرأ/ي أيضًا: الصراع بين جيل الاستبداد وجيل الديمقراطية
وبخصوص الحركة الاحتجاجية الحالية الّتي انطلقت في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019، فقد بدأتْ كحركة احتجاجية مُشابهة لِما قبلها، لكن هذه الحركة كانت مُباغتة من ناحيتين:
أولًا، التوقيت، فالحركات الاحتجاجية السابقة كانت تَظهرُ في موسم الصيف، بينما هذه الحركة جاءت في الخريف؛ أي بعد انقضاء موسم الصيف، والطبقة الحاكمة في العراق كانت تخشى من تجدّد مُظاهرات عام 2018، خصوصًا في البصرة، فحاولت أن تمنع ذلك بتزويد البَصرة بكهرباء كاملة خلال موسم الصيف (ما يسمّيه سعيد بـ"رشوة البَصرة"). كما أن هذه الحركة في بدايتها لم تُطالب بالخَدمات الأساسية، بل بالوظائف، ولا ينفي ذلك وجود مطالب إسقاط النظام الّتي لم تنتهِ، إلّا أنّها لم تكن مطالب عامة.
ينتقدُ سعيد مُحاولات نزع جذور الحركة الاحتجاجية من قِبل النظام ويصف احتجاجات تشرين بالمباغتة لجهة التوقيت ورد الفعل العنيف تجاهها
ثانيًا، رد الفعل العنيف الّذي وُجِهتْ به، ففي الأسبوع الأول للثورة قبل أن تَقفَ مؤقتًا (1-7 تشرين الأول/ أكتوبر) قُتِل نحو 110 من المُحتجّين، عن طريق القتل العَمد؛ إعدامات ميدانية وإعدامات خارج القانون، وهو ما يُشير إلى قصدية استخدام هذه الدرجة المُفرطة من العُنف لمواجهة الحركة الاحتجاجية، الّذي يُفسّره سعيد وفق سببين:
(أ) أنّ ذلك نوع من الديناميكية الداخلية للسلطة في العراق، فإذا كان هذا النَمط من الاحتجاجات يَنشأُ في البلدان الّتي تُتيح قَدرًا من الحُريات النسبية والعراق منها -وقد نشأتْ ثورات الربيع العربي في تونس ومصر بسبب وجود قَدرٍ من الحُريات النسبية، بعكس بلدان مثل ليبيا وسورية- فإن النظام يحاولُ استعادة نموذج السلطوية الّذي كان موجودًا قبل العام 2003، بمعنى نظام لا يُتيح الحُريات النسبية، وذلك من خلال أسلوب الترهيب والعنف الّذي مورِسَ ضدّ المحتجّين.
(ب) أن هذه الدرجة من العنف ليست بالضرورة قرار داخلي عراقي، بقدر ما هو قرار دول إقليمية؛ إيران تحديدًا، فمثلما دافعتْ عن نظام بشار الأسد في سورية بطريقة أودَتْ بنصف الشعب السوري بين مُهجّرين ونازحين وضحايا، لديها استعدادٌ بأن تُدافع عن النظام في العراق، ولو ضحّتْ بكل العراقيين، فالعراق ركن أساسي في المحور الإقليمي الّذي تقوده إيران.
وقد توقفتْ الحركة الاحتجاجية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وعادتْ للانطلاق في الخامس والعشرين من الشهر ذاته، للسماح للمراسيم الدينية أن تكتمل؛ زيارة "أربعينية الإمام الحسين".
ويرى سعيد أنّ هذا التوقف هو الّذي حوّل الحركة الاحتجاجية إلى ثورة، فقد اكتملتْ خلال هذه الفترة في الذهن رؤية تغيير النظام، كما أنّ هذه الرؤية لم تَعُد فئوية، فإذا كان الطيف الأوسع يُفسّر أنّ الحركة الاحتجاجية فئوية، بمعنى ترتبطُ بالعاطلين عن العمل والمهمشين وضواحي بغداد الفقيرة، فمع الخامس والعشرين من أكتوبر، لم يعد الاحتجاج فئويًا، فتوسّع ليشمل الطبقة الوسطى على الأقل في بغداد ومُدن جنوب العراق، وحتّى الموظفين الّذين يستفيدون من الشبكة الزبائنية للدولة. وبالتالي، أصبحت الرؤية جماعية بتغيير النظام؛ أي أنّ النظام الّذي نحتجُ عليه منذ 2009 ونُطالبه بالوفاء بخدماته، هو غير قادر على الوفاء، وعليه يجبُ تغيير النظام، لكي ينعمَ المواطنون بالخدمات الأساسية.
يرى سعيد أن توقف حركة الاحتجاجات لفترة وجيزة ثم عودتها قد حوّلها إلى ثورة بعد أن اكتملت رؤية تغيير النظام لدى الشعب
وفي التساؤل حول سبب عدم تمكّن النظام من الوفاء بالخدمات، يُجيب سعيد أنّ النظام يُعاني من مجموعة أزمات بنيوية (شبكة الفساد، القطاع العام المُترهّل، شراء ولاء الناس من خلال شبكة زبائنية)، جعلتْ الدولة مشلولة، لا يملكُ قطاع عام مؤهّل وكفؤ، ولا قادرة على الاستعانة باستثمارات محلية أو أجنبية؛ لتشغيل الناس.
ثورة تشرين: هل هي ثورة حقًا؟
يرى سعيد أنّ العنف المُفرط في الأسبوع الأول للحركة الاحتجاجية، قد أحد عوامل انتقال الحركة الاحتجاجية إلى الثورة. ويُشير سعيد أنّ غالبية أدبيات العلوم السياسية تُطلِق وصف ثورة على الأحداث الّتي تُفرز تغييرات راديكالية جَذرية بنيوية في المُجتمع، إلّا أنّه يصفَ الحركة الاحتجاجية بالثورة، ليس من ناحية المُخرجات، بل من ناحية البِنية، فهي ثورة لأنّها رؤية جماعية لتغيير النظام.
كذلك فإنّ التغيير الراديكالي في المُجتمع، لا يحدثُ بالضرورة عن طريق الثورات، فالانقلابات العسكرية تفعلُ ذلك، فانقلاب تموز/يوليو 1952 في مصر، وانقلاب 14 تمّوز/يوليو 1958 في العراق، قادا إلى تغيير شامل في المُجتمع، وأعادَ الهندسة الاجتماعية فيما يتعلقُ بوضعية الطبقات والعلاقات الخارجية للدولة، وغيرها.
ووفق هذا المعنى للثورة، يُحاجج سعيد أنّ الحركة الاحتجاجية لعام 2019 ليست ثورة فقط، بل هي أول ثورة في تاريخ العراق، وما قبل ذلك لم يكن ثورات، بل انقلابات عسكرية مثل حالتي سوريا ومصر، فهي لم تشهد خروج جماهيري إلى الميادين وتُطالب بإسقاط النظام، وحتّى ثورة العشرين (1920) هي ثورة ضد احتلال أجنبي، لا ثورة لتغيير أو إعادة هيكلة النظام السياسي.
يستند سعيد في محاجتته حول اعتبار حركة تشرين هي الثورة الأولى في تاريخ العراق بكونها رؤية جماعية لتغيير النظام وما حدث قبلها كان انقلابات ومعارك ضد الاحتلال
يَستعيرُ سعيد مفهوم "الثورة الإصلاحية" من المُفكّر العربي عزمي بشارة، الّذي استقاه من ثورات الربيع العربي، ويَقصدُ به التغييرات داخل النُظم السياسية الّتي تُبقي نوعًا من الاستمرارية للنظام القديم، بمعنى أنّ عملية التّحول تبقى عملية إصلاح، لأنّها ليست قطيعة كاملة مع النظام القديم، كما حصل في الثورة الإيرانية (1979) أو الثورة الروسية (1917). ففي التجربة التونسية الناجحة من بين ثورات الربيع العربي، قامتْ إلى حدٍ كبير على أساس صفقة مع النظام القديم، ففي عام 2013 -ورُبما بتأثير الانقلاب في مصر- جرى ما سُميَّ باتفاق الشيخين في باريس، بين راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، وتمّ الانتقال بضمان ديمومة ما للنظام القديم.
أمّا في مصر، فبسبب عدم قدرة قوى الثورة على عقد صفقة مع النظام القديم، انقلبَ النظام القديم. وعليه فيؤكّد سعيد أنّ نموذج "الثورة الإصلاحية" هو الّذي يحكُم حالات الانتقال في البلدان العربية، والعراق لا يخرجُ عن هذا النموذج، فالتّحول الّذي يجب أن يحدُث، هو صفقة تُبقي على بعض الأطر الشكليّة للنظام القديم، فحالة التَّصفير الكامل للنظام غير ممكنة، إنما يجبُ الإبقاء على بعض الأطر الشَّرعية كالدستور أو الحكومة أو ترتيبات تداول السلطة القائمة، ومن خلالها يُمكن إحداث تغيير راديكالي داخل النظام.
اقرأ/ي أيضًا: شجعان التحرير.. بين شبح الاستبداد وقلق التنظيم
ويرى سعيد أنّه بسبب قوة الحركة الاحتجاجية في الشارع، فإن السلطة ستحاول إضعافها بكل الإمكانيات من اغتيالات وترهيب وتغييب، لكي تُقلّل مما ستُضحي بهِ؛ أي ما تمنحهُ للحركة الاحتجاجية.
الانتخابات بحدِّ ذاتها ليستْ حلًا: عن آفاق الثورة
ينتقدُ سعيد الاعتقاد السائد لدى العديد من القوى السياسية، بأنّ الإصلاح يجب أن يحدثُ من خلال انتخابات مُبكّرة، وكذلك ينتقدُ البيان الصادر قبل أيام عن قوى الاحتجاج الّذي يتحدثُ عن حكومة تستمرُ لمدة ستْة أشهر، وتُعِد لإجراء انتخابات مُبكّرة. فالتجربة خلال العشرين عام الماضية في كل العالم، تدلُّ على أنّ الانتخابات في غير توقيتها الملائم، وفي غياب الاتفاق على قواعد الانتقال الديمقراطي، قد تقودُ إلى الكوارث، والعراق مثالًا على لعب الانتخابات دورًا سلبيًا، فانتخابات العام 2005، جرتْ بغياب مكوّن أساسي من المجتمع، وكانت هناك محاولة لتأجيل الانتخابات وإقناع النُخب السُّنية بضرورة المشاركة، إلّا أنّ الإصرار الأمريكي حالَ دون ذلك، مما سبّب بتمزّق المُجتمع. وبعد حالة العراق، ظهرت أدبيات في العلوم السياسية ترى التأثير السلبي للانتخابات ومنها مفهوم "السلطوية الانتخابية".
ينتقدُ سعيد الاعتقاد السائد بأنّ الإصلاح يجب أن يحدثُ من خلال انتخابات مُبكّرة ويحذر من أنها قد تؤدي إلى "كوارث" بفوز أحزاب السلطة باعتبارها القوى الأكثر تنظيمًا
ويُشير سعيد، إلى أنّه في كل التجارب -بما فيها الربيع العربي- يفوزُ بالانتخابات القوة الأكثر تنظيمًا، لذلك كان من الطبيعي أن يفوز الإخوان المسلمون في مصر، والنهضة في تونس. وبالنسبة للعراق، يُحاجج سعيد أنّه لو حدثت انتخابات في العراق بعد 6 أشهر، سوف تفوز القوى المُنظمة، وهي أحزاب بَنتْ نفسها عن طريق الشبكات الزبائنية باستخدام أموال الرَيع لمدة 17 عام. وفي المقابل، لم تُفرز القوى الثورية تَنظيمًا، لعدة أسباب منها أمنية، والاعتقاد بأنّ الثورة لا يجبُ أن تفرزَ تنظيمًا حتّى تبقى ثورة، ولا تتحوّل إلى صراع على القيادة.
وفكرة الإصلاح عن طريق الانتخابات في العراق ليست بالجديدة، فقد دعتْ لها مرجعية النجف منذ 7 سنوات، كما دعتْ إلى تعديل القانون الانتخابي، لفك هيمنة الأحزاب على مفوضية الانتخابات، والسماح لقوى الاعتدال أن تصعد إلى السلطة. لذلك، يرى سعيد أنّ على ثورة تشرين ابتكار رؤى جديدة، لا استعادة الرؤى القديمة، ويقترحُ أنّ الطريق في العراق يجب أن يبدأ بحكومة جديدة تأتي لمهمة مُحدّدة، وهي إحداث تغييرات راديكالية في النظام، فمثلًا، المنظومة الحزبية مُسلّحة من جهة، ومن جهةٍ أخرى بَنتْ شبكة زبائنية في العلاقة مع الناخبين/المواطنين. وبالتالي، على هذه الحكومة تفكيك هذه المنظومة أولًا، ومن ثمّ بناء مجموعة من قواعد الانتقال، قبل أي انتخابات.
الموقع الجيو-استراتيجي، الهوية، الموجة: نقاط مُختصرة
بالنسبة إلى الوضع الجيو-استراتيجي، يشيرُ سعيد إلى تحدّي إيران أمام مسار الانتقال في العراق، فلا يغيبُ عن أحد أنّ العراق بالنسبة لإيران بالتأكيد أهم من سوريا، فإيران قد دافعتْ بشكلٍ دموي عن نظام الأسد في سوريا، فماذا يُمكن أن تفعل في العراق؟
وفيما يخصُّ هوية الثورة، فهل هي ثورة شيعية بما أنّ الجزء الأساسي منها محافظات الجنوب؟ يجيبُ سعيد أنّها ثورة عابرة للطوائف، وبغداد المدينة المُختلطة هي أساس الثورة، وحتّى مُدن الجنوب تَعي وضعية بغداد داخل الثورة، لذلك أنشأتْ مؤسسات مثل الّتي في بغداد، كجبل أُحد (المطعم التركي)، وبالتالي الثورة تكتسب هويتها من هوية بغداد.
وبخصوص المطلب الديمقراطي داخل الثورة، يرى سعيد أنّ شعار الثورة ليس ديمقراطيًا، بل يتركّزُ في "نريدُ وطن" و"نُريد كرامة"، وهنا يأتي دور النُخب، فكما نجحتْ النُخب التونسية في الدمج بين المطلب الاجتماعي في هوامش الجنوب التونسي مع المطلب الديمقراطي، يقفُ التّحدي عند النُخب العراقية في فعل الأمر ذاته.
يشيرُ سعيد إلى تحدّي إيران أمام مسار الانتقال في العراق وما قد تفعله للدفاع عن النظام القائم بالنظر إلى ما فعلته في سوريا
أمّا عن مكان ثورة تشرين في الربيع العربي، والموجة الثانية منه على وجه الخصوص، فيرى سعيد أنّه تسود على باحثي الانتقال فكرة الموجة الديمقراطية، الّتي نظّرَ لها صامويل هنتغتون (1927-2008) في كتابه "الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين" (1991)، وأنّنا الآن أمام موجة، فالثورة العراقية ليست ببعيدة عن التأثّر بالثورة السودانية والثورة الجزائرية، وما يجري في لبنان ليس منفصلًا عن العراق. وما يحدثُ في الموجة الحالية، بما في ذلك العراق وأماكن أخرى مثل هونغ كونغ وأمريكا اللاتينية، هو نمط جديد من الثورات؛ ثورات دون قيادة، باستثناء السودان الّتي حدثتْ فيها الثورة بقيادة نقابية "تجمّع المهنيين" منذُ ديسمبر 2018.
وفي علاقة الموجة الثانية من الربيع العربي بالموجة الأولى، فيرى سعيد أنّها استفادت منها، فهي تستخدمُ نفس اللغة الثورية، فغرافتي ساحة التحرير في بغداد يُشبه غرافتي ميدان التحرير في القاهرة. وكذلك فكرة الميادين تكشفُ عن نمط جديد من الحركة الاحتجاجية، على خلاف الانقلابات الّتي كانت تقصدُ القصور الجمهورية ومباني الإذاعة، فحضور الميدان بوصفه المجال العام الّذي يُملأ من خلال الجماهيرية يشي بنمط جديد. أمّا ما يُميّز الموجة الثانية عن الأولى، فهو أنّها تبدو ثورة ضدّ الإسلام السياسي، في حين أنّ الموجة الأولى قادتها حركات الإسلام السياسي، أما الآن، فشعار معاداة الإسلام السياسي سردية أساسية في الثورات، تحديدًا في السودان، وفي العراق تقتربُ من ذلك، إلّا أنّه يُمكن وصف ثورة العراق بمحاولة لتحرير الموروث الديني من هيمنة الأحزاب، ويدلُّ على ذلك تسمية معقل أساسي للثورة بجبل أُحد، أي استعادة التاريخ الديني.
اقرأ/ي أيضًا: