لا يزال الوجود الإيراني أو ما يسمى بـ"التمدد" هو موضع سؤال في العالم العربي وليس في العراق وحسب، حيث يكاد يكون الوضع السياسي لصالح القوة الإيرانية المتنامية، سواء من الناحية الإيديولوجية أو من ناحية النفوذ الأمني والعسكري في عدة مناطق عربية، بغض النظر عن حجم استقلالها وقوة حكوماتها، وفي هذه المساحة، يبحث "ألترا عراق" مع الكاتب والصحفي العراقي، سرمد الطائي تمظهرات هذا الموضوع والذي يشير إلى ما يسميه بـ"الجهل العربي لفهم إيران"، رغم أنّ الأخيرة لديها فهم كبير بتفاصيل العرب سياسيًا وثقافيًا.
- التوسع الإيراني في المنطقة عمومًا، هل هو مستند بالفعل إلى أيديولوجية دينية تحت عنوان "تصدير الثورة" أم هو من سياسي في إطار المصلحة وقد يتغيّر في أي لحظة؟
كل عمليات التوسع السياسي الجغرافي عبر التاريخ تحتاج إلى بناء اعتقاد محدد يخلق قوة واستعدادًا للمغامرة والخسارة والتضحية، هناك مزج دقيق للعقيدة والغنيمة، كما شرحه المفكر المغربي محمد عابد الجابري باستفاضة في كتابه المهم عن العقل السياسي العربي، إذ أن الأمر لا يختص بأمة دون أخرى.
العقيدة ليس من المهم أن تكون صادقة بالكامل، بل وظيفتها تقوية عزيمة المحاربين وتبرير أفعالهم، ولذلك فإنّ إيران مثلًا تضحي بمصالح شيعة العراق وغيرهم في سبيل تثبيت المصالح الإيرانية، ويطلقون على أنفسهم تعبير "أم القرى" أو المركز الإسلامي الذي يجب أن نضحي جميعًا من أجل تثبيته وتقويته، وهذا شائع عند مفسري وشارحي المصلحة ضمن إطار ولاية الفقيه، وكتب عنه كثيرًا مفكرهم المعروف محمد جواد لاريجاني، شقيق رئيس البرلمان الإيراني السابق.
- هل بالفعل فكرة الجيوش الرديفة المتمثلة بنماذج من قبيل حزب الله وفصائل من الحشد الشعبي وغيرهم، هي فكرة روح الله الخميني باعتباره لا يثق بالجيوش الرسمية لأن تأسيسها غربي؟
فكرة الانقلاب مهيمنة طوال القرن العشرين على أجواء السياسة الإيرانية، فقد عاشوا انقلابًا بعد الحرب العالمية الثانية خلع رضا شاه وجاء بابنه، ثم انقلابًا آخر ضد رئيس الوزراء محمد مصدق، وكانت ثورة 1979 تخشى حصول انقلاب من الجيش، خاصة بعد أن استحوذ تيار الخميني على كل شيء وبدأ يطيح بخصومه الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء، فكان إضعاف الجيش وتأسيس بديل له، هو حل كبير كجزء من تصفية الخصوم، ولم تعد السلطة بعد ذلك تخشى جيشًا ولا برلمانًا ولا مظاهرات ولا صحف معارضة، لأن كل شيء من الثقافة إلى الاقتصاد هو تحت قيود حرس الثورة، وهذا طموح واضح في العراق لدى الموالين لأفكار الخميني، خصوصًا وصفهم كل من يعارضهم بأنه "عميل للغرب وإسرائيل.. الخ".
- هل الولايات المتحدة الأمريكية هي من سمحت بالتغلغل الإيراني في المنطقة أم أنّ إيران هي بالفعل تمتلك قوة ونفوذ وحنكة وسياسة عميقة أهلها لهذا التغلغل؟
الأخطاء الأمريكية تشبه أخطاء صدام حسين في هذه الزاوية، لا يمكن القول إنّ صدام سمح بتوسع إيران، لكن الهفوات القاتلة التي وقع فيها أدت إلى تدمير النظام الأمني الإقليمي والنظام السياسي العربي، وقبله كذلك عبد الناصر، وإلا كيف يمكن لإيران أن تصبح أقوى من مصر، لولا الحروب الخاسرة التي تورط بها ناصر، وكيف يمكن تفكيك الموقف العربي لولا الصراعات الدامية بين بعث سوريا والعراق، واجتياح صدام للكويت.. الخ.
إيران ماهرة في ملء فراغ القوة الذي ينشأ في محيطها، ومستعدة للانخراط في أي عملية تقويض للنظام الإقليمي لتأسيس نظام جديدة تتسيده، ونقطة ضعفها هي انعدام شرعيتها الدولية لأنها تتصرف كعصابة لا كدولة، وانعدام شرعيتها الداخلية أمام شعبها الذي ضاق ذرعًا بالاستبداد طوال أربعة عقود، ودخل مرحلة التجويع المؤلمة بدون أسباب مقنعة لا سياسيًا ولا دينيًا.
إيران غير مؤهلة لأنّ تتوسع جيوبولوتيكيًا كما هو الوصف في حقل العلوم السياسية، فهذا التوسع يتطلب قبولًا، وإيران مرفوضة على نطاق واسع، وأكبر اختبار لها كان في المناطق ذات الغالبية الشيعية في العراق، وخسرته بشكل فنطازي. وهناك ألف قوة في العالم تشكل بديلًا لإيران، التي استنزفت إمكاناتها في الصراعات ولم تستثمر جيدًا وبما يكفي للمنافسة، في مجالات العلوم والتنمية.
- كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية عن تقارير استخبارية إيرانية مسربة عن مخطط إيران للنفوذ الإقليمي، وأحد هذه التقارير أشار إلى أن إيران تفوقت على الولايات المتحدة لأنها جندت عملاء (سي أي إيه CIA) عقب الأنسحاب الأمريكي من العراق وكذلك جندت مسؤولًا بالخارجية الأمريكية لمدها بخطط واشنطن في العراق. ما مدى صحة هذه التقارير؟ وهل الولايات المتحدة بهذا القدر الذي يجعلها تكون مخترقة؟ وهل هذ الوثائق رسمية؟
هي تسريبات، لكن أحيانًا تجري المبالغة في حجمها، حتى نظام صدام والقذافي منحوا أموالًا لضباط أمريكان متوسطي الأهمية في محاولة للوصول إلى معلومات، وكانت واشنطن في كثير من الحالات تسمح لضباطها بتسريب معلومات، حرب المخابرات موجودة لكن الأقوى في موارده ونفوذه هو الذي يفوز فيها، ويستطيع أن يطاول.
- هل صحيح أنّ هؤلاء الذين يتجسسون لصالح إيران هم أساسًا كانوا يتجسسون لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، لكن بعد الأنسحاب الأمريكي الجزئي من العراق وجد هؤلاء أنفسهم ليس لديهم عمل ويخشون القتل من قبل إيران، لذا ارتموا مباشرة بـ"الحضن الإيراني"؟
هذا الجانب تفصيلي يتعلق بشبكات عراقية عملت ضد تنظيم القاعدة، وجرى إهمالها في زمن نوري المالكي، أو إلقاؤها في السجن أحيانًا بطريقة "شبك لحية بلحية" لإثارة نزاعات عشائرية واجتماعية، وحاولت إيران اختراقها أيضًا لتثبيت نفوذ داخل المنطقة الاستراتيجية على حدود سوريا والأردن بشكل خاص، فهي تتطلع لطريق إلى البحر المتوسط، وتعتقد أن بإمكانها ملء فراغ القوة بعد تداعيات الانهيار في خضم الربيع العربي.
- هل أنت مع التحليل الذي يتبناه أياد جمال الدين والذي يؤكد على أن "التدخل الإيراني يدرك ولا يوصف، مثل الحب والكره"، يعني الإنسان يشعر بالحب لكنه لا يستطيع أن يراه والتدخل الإيراني من نمط كهذا؟
لا أفهم ما يقصده السيد، فإيران شيء واضح يمكن لمسه ووصفه وتقويضه، بالنسبة للخبراء فيها، لكن هناك جهلًا عربيًا واسعًا بإيران. كان العرب لعقود يعتقدون أنهم لا حاجة لهم بفهم إيران، والآن بدأوا يدركون ضرورة ذلك، وهذا ما يصدق على تركيا كذلك، فطهران وأنقرة لديهما خبرة كبيرة بالعرب ولغتهم وآدابهم وثقافتهم، وهذا أمر تاريخي فقد عمل البلدان مع خلفاء بغداد طويلًا، لكن العرب لا يكادون يعرفون الفارسية وألغاز المجتمع الإيراني، والآن بدأت محاولات لذلك بعضها مفيد.