بعد نحو 4 عقود في المجال الأكاديمي يوصف الدكتور سعيد عدنان المحنة، كاتبًا مقاليًا ومنظّرًا وعالمًا متخصصًا يعد ضمن كبار أدباء الأمّة الذين يعبّرون عن روحها ويصنعون جمال والوعيّ.
أعجب المحنة بمقالات طه حسين وأعلام الكتاب، وتأثر بأستاذه الطاهر، ولحظ ارتقاء مستوى المقالة عند كبار الكتاب في تأملات فكرية وملاحظات، للكشف عن قوانين الفن المقالي وتفسير أسراره في اجتذاب الجمهور العربي الواسع، مع تحديد مواطن الضعف.
يعد الدكتور المحنة منظّرًا وعالمًا متخصصًا في آن واحد تتبع مقالات كبار الكتاب العرب وترجمها في تأملات فكرية لتحديد قوانين الفن المقالي
ويرى المحنة المقالة بناءً متكاملاً يقوم على ركنين أساسيين؛ الشكل والمضمون، لا ينفصل أحدهما عن الآخر ولا يتقدم عليه، بوصفهما عاملان يشترط توازنهما في الأعمال الإبداعية.
حاور "الترا عراق" الأكاديمي والناقد والمقالي العراقي، بشكل سريع، كانت مناسبته مصادفة هذا العلامة الجليل في أحد مقاهي كربلاء حيث يسكن ويدّرس، حيث تفتح طروحات سعيد عدنان تفتح نوافذ مختلفة في شتى مجالات الأدب والمعرفة، فهو إضافة لما قدمه في حقل الأدب، أرخ، من خلال مقالاته وكتبه، لتاريخ النهضة العربية بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من خلال سيّر أعلامه وقضاياه.
- كثيرًا ما تغرينا ونحن نطالع مقالاتك لغتك النقدية المكتنزة وأنت تتناول أدباء رحلوا أو استذكارًا لأدباء ونقاد تقليديين، هل تعد نفسك امتدادًا لأسلوب المقالة النقدية العربية التقليدية؟
المقالة نوع أدبيّ نشأ على يد مونتين في القرن السادس عشر يلتقي عنده الفكر بالعاطفة، على مهاد من خيال بلغة تتّسم بالبيان البليغ، وقد زاولها أعلام الأدب في مطالع القرن العشرين مثل المنفلوطي، طه حسين، الزيّات، العقّاد، وأحمد أمين وغيرهم، وهم أدباء روّاد ابتكروا نهجًا في الفكرِ وطريقة في صياغة الأدب، ولا يصحّ أن يسمّوا تقليديين! هم، بلا ريب، أساتذةُ من أتى بعدهم، وأستاذُهم الرائدُ في الفكر وصياغته؛ أحمد لطفي السيّد، وقد سُمّي، بحقّ، أستاذ الجيل، وكتبها في العراق بأصالة وإبداع أستاذنا عليّ جواد الطّاهر. أرى أنّ القيم الفكريّة والأدبيّة التي دعا إليها هؤلاء، وتمثّلوها في أدبهم ما زالت صالحةً، وما زالت حاجتنا إليها قائمة. أمّا أنّي امتداد لهم؛ فذلك أمر كبير يقوله من يُحسن الظنّ بي.
- إن الأمم، حسب أولدس هيكسلي، اختراع ينسب في أغلب الأحوال إلى أبنائها مثل الشعراء والروائيين، كيف صنع الأدب الوعي بالأمة في بلداننا؟ وكيف عاش الأدب هذا التناقض الواضح بين مفهوم الأمة الكاملة "الأمة العربية" وبين رهانات أخرى تشتغل وفق منظورات الأمة الحديثة مثل الأمة العراقية أو المصرية وإلخ؟
أدباء الأمّة لا يصنعونها، بل هم يعبّرون عن روحها، ويُظهرون ما خفي من قدراتها. هم ما تتجلّى بهم الأمّة على أوضح وأتمّ ما يكون. ليس من تناقض بين الأمّة وأقاليمها (بلدانها)، بل هو تكامل، والأدب العربيّ هو أدب الأمّة كلّها، بكلّ أقاليمها.
المحنة: أدباء الأمّة لا يصنعونها بل هم يعبّرون عن روحهاويُظهرون ما خفي من قدراتها
كانت مجلة "الرسالة" تصدر في مصر وتصل إلى كلّ البلاد العربيّة، وكانت تقرأ في المشرق والمغرب، وكانت مجلة "الآداب" البيروتيّة مجلّة العرب كلّهم، وكذلك حال الشعراء الكبار والكتاب الكبار. مفهوم الأمّة بتاريخها، ومجدها، هو ما يستمّد منه أبناؤها قوتهم، وثقتهم بأنفسهم في كلّ بلدانهم.
- إن تصورات الأدب عن الأمة بشكل عام تضمر أسباب نزول خارجية لإنتاج النص الأدبي، هل تربك الأيديولوجيا النص الأدبي؟ وكيف؟
الأمّة أرحب من أيّة أيديولوجيا. كلّ أيديولوجيا تعبّر عن زمانها ومكانها؛ تنشأ الأيديولوجيات وتضمحل وتبقى الأمّة تجدّد نفسها بفكر جديد متفاعل مع الواقع. ربّما كانت أيديولوجيا ما عنصرًا في تكوين أثر أدبيّ؛ إلّا أنّ الآداب الرفيعة بعامّة لا تصدر عن أيديولوجيا بعينها، وإنّما تصدر عمّا هو أرحب من ذلك؛ تصدر عمّا هو إنسانيّ متجلٍّ في عناصر محليّة.
- أن الفاعل الأدبي بوصفه فردًا يحمل مختبره الجمالي داخل المجتمع هو بالتالي يحمل رسالة بوجه الرثاثة والموت، كيف تنظر للتجربة الأدبية والثقافية للأديب والمثقف العراقي بشكل عام؟
الأديب صانع جمال، وصانع وعيّ، وهو رائد في قومه بيده أزمّةُ الفكر. هذا ما ينبغي أن يكون، وهو متحقّق لدى الأدباء الكبار الذين تمّت لهم الموهبة، والثقافة الواسعة، وأعربوا عن موقف واضح بإزاء ما يقع. والأديب الكبير، بهذا المعنى، يتقدّم على أيّ ذي سلطان. وقد شهد الأدب العراقيّ شعراء كان لهم صوتٌ مسموع، ذو تأثير في المجتمع مثل الرُّصافيّ، والجواهريّ، وشهد كتّابًا عبّروا روحه مثل غائب طعمة فرمان وغيره. وشهد أيضًا من كان يؤجّر قلمه لصاحب السلطان!
- تقوم الثقافة العراقية بشكل كبير منها على الارتجال والحماسة قبالة العقلانية والمنهج، ما رأيك بمقولة "نحن ثقافة شعرية"؟ وهل ترى أنّها نتاج لغياب السياقات المنهجية ومؤسساتها؟ وما علاقة "منهجية الارتجال" هذه بالرثاثة الثقافية التي تنتجها نسبة كبيرة من الفاعلين الثقافيين في العراق؟
في الثقافة العراقيّة، منذ مطالع القرن العشرين، جوانب رصينة، وفيها أعلام كرام يتحرّون الحقّ والصدق كمثل الأب أنستاس ماري الكرملي، ومصطفى جواد، جواد عليّ، وعبد الرزاق الحسني وغيرهم. وهناك أعلام في الفكر والسياسة كمثل عبد الفتّاح إبراهيم، وإبراهيم كبّة، والجادرجي، وغيرهم.
المحنة: تسلّط العسكر ونشوء دكتاتوريّة الحزب القائد قادا إلى تراجع مستوى الجامعات العراقية شأنها شأن كلّ مفاصل الحياة
كانت في البلد أجيال رصينة لرصانة التعليم، ولفُسحة من الحريّة؛ لكنّ تعاقب الانقلابات أفسد كثيرًا من حياة الناس؛ إذ ضاق مدى الحريّة، وتراخى التعليم، وشاعت الرثاثة. لا سبيل للارتقاء إلّا من خلال تعليم واسع رصين.
- أ.د. سعيد عدنان وأنت تقترب من عقدك الرابع في الأكاديمية العراقية، هل تراها جديرة في بداياتها أم أنّها كانت وما زالت صدى للأيديولوجيات في أي شكل لها؟
يُصيب الجامعةَ ما يُصيب المجتمع. الجامعة نمط غربيّ في تلقّي المعرفة وإنتاجها، يقوم على حريّة البحث، وحريّة إعلان نتائجه. لا سلطان على الجامعة، بهذا المفهوم، إلّا سلطان العقل، والمنهج المحكم في تحرّي الحقائق. وحين نشأت عندنا جامعةٌ كانت تقتبس أشياء من ذلك، وكان لها أن تطّرد في نهجها لولا تسلّط العسكر على الحكم، وبسط نفوذهم شيئًا فشيئًا على كلّ مفاصل الحياة، ونشوء دكتاتوريّة الحزب القائد. لقد اخترقت المنظّمةُ الحزبيّة الجامعةَ منذ السبعينيات، وجعلتها في قبضتها، وأفقدتها، شيئاً فشيئاً، كيانها.