05-يناير-2016

حسن بلاسم (1973)

في مختاراته القصصية "معرض الجثث" (دار المتوسط)، يذهب بنا الكاتب العراقي حسن بلاسم (1973) إلى عوالم متخيلة، تفوق في قسوتها وعنفها قسوة العالم اليومي الذي تحيلنا آلة موته الجهنمية إلى عدم صفري. تهدف القسوة الزائدة في عوالم بلاسم إلى إحداث صدمة في وعينا المتبلد، علنا نقوم بمراجعة جذرية وعميقة لفكرة الطبيعة الخيرة للإنسان التي كوناها عن أنفسنا بكل غرور.

يسعى حسن بلاسم إلى إحداث صدمة في وعينا المتبلد، علنا نقوم بمراجعة جذرية لفكرة الطبيعة الخيرة للإنسان

في قصة "الأرشيف والواقع"، تتداخل الحدود الفاصلة بين ما هو واقعي وما هو متخيل، وما هذا إلا من طبيعة العمل المتعوي الذي يوفر لقارئه الأرضية المناسبة للانخراط في لعبة خلق بعض الوقائع وهدم بعضها الآخر، مما يجعله يتورط في معمعان النسيج الحكائي الذي يخلقه الكاتب، حد معايشته وقائع الحياة اليومية لشخصياته المتخيلة كما لو كانت من لحم ودم. فالحكاية التي يرويها لنا سائق سيارة الإسعاف الحكومية عن اختطافه في ضواحي بغداد واقعية جدًا، كونها تحدث في زمن الاقتتال الطائفي والذبح على الهوية الذي تفشى في العراق بدءًا من 2006.

هل قيام السائق نفسه بالاعتراف بجميع عمليات القتل الطائفية التي مارسها الفرقاء المتقاتلون، وتسجيل هذه الاعترافات وبثها على شاشات التلفزة متخيل؟ ربما، ولكن ألا يدفعنا ذلك إلى التساؤل من جديد عن حدود الممكن والمُتَخيّل في مثل هذه الأجواء من الحرب الأهلية، التي بما تحمله من عنف وقسوة لا تحتمل، تدمر كل حد وتلغي كل منطق. أليست الحرب الأهلية تهديد وتصفية لكل عرف قبلي وانتهاك لكل جيرة إضافة لكونها تحللًا من كل مروءة بين أبناء المدينة الواحدة.

الجحيم المتخيل الذي يحيط بوقائع "الأرشيف والواقع" ويهيمن عليها، يدفعنا إلى مساءلة وفحص مفهوم طبيعة الإنسان المُتألَّه؛ خليفة الله في الأرض، الذي قدمته الديانات السماوية على أنه نموذج الإنسان الخير، الممتلئ بالحب والرحمة الإلهيتين. فيما هو بالحقيقة كائن يعتريه النقص أينما ولى، مسلح بالعدوان إلى درجة لا يتورع فيها عن ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. كما لا يتورع عن الاستحواذ على موارد الآخرين والعيش على حساب إنتاجهم بالقوة.

الجماعة المصطفاة بأمر إلهي لتطبيق حدود الشرائع الإلهية تمنح لنفسها الحق بتطبيق العنف الماحق متذرعة بالطابع الخير لأعمالها النهائية، فيما هي بالحقيقية تتخفى وراء رغبتها العميقة بالسيطرة على الآخرين. أليس هذا هو حال الجماعات الطائفية التي لا تكف عن الاعتصام بالمشيئة الإلهية وبالسنة النبوية وبالصحابة الكرام، في الوقت الذي لا تولد أفعالها الخلاصية سوى الإرهاب الأعمى والخراب الكلي. 

آن أن نخاف من أنفسنا كلما ارتكب أحد جريمته، لأنه علينا أن نفزع من عدم بذلنا الجهد الكافي لأنسنة أنفسنا بما يكفي

تحرضنا قصص بلاسم على طرح الأسئلة الوجودية، من قبيل من أين يأتي الشر إلى العالم؟ لمَ يقيم في نفوسنا على هذا النحو المزمن؟ ولمَ يتجل بكل هذه القسوة ؟ في "شاحنة برلين" استطاع فم جائع واحد أن يحيل حياة أربعة وثلاثين مهاجرًا عراقيًا إلى عدم وأجسادهم إلى كتلة من لحم ودم. كيف تسنى لشخص آدمي أن يتحول إلى وحش حقيقي بدلًا من أن يكون جزءًا من حشد متضامن مع أبناء جنسه الذين شاءت الأقدار أن يتعرضوا لمحنة الاحتجاز في شاحنة لا يسمح تصميمها التقني بنقل الحيوانات ناهيك عن البشر. 

لمَ يصر الشرطي الصربي الذي عاين الشاحنة على أن القاتل لم يكن سوى ذئب بشري فر إلى الغابة. ألا تطرح هذه الحكاية إمكانية ارتداد البشر إلى مرحلة التوحش التي اختبروها في مرحلة من تاريخهم الغابر، حيث كان كل واحد منهم إزاء الآخر مشروع مفترِس أو مفترَس محتمل في آن.

لا تخلو قصة من قصص المجموعة من رصد القبح بأبشع صوره ألا وهو القتل. فما الذي جعل من قصص بلاسم تضج بالجمال رغم أنها تتحدث عن القبح؟ جمال القصص متأتٍ من طريقة السرد ذاتها، ففي قصة "معرض الجثث" يأخذنا صاحب "مجنون ساحة الحرية" عبر مجموعة من اللقطات السينمائية شديدة الكثافة ليدهشنا بالنهاية غير المتوقعة لبطل قصته. البطل الحقيقي في القصة هو القاتل، بينما يقتصر عمل الضحية على سرد وقائع موتها على أسماعنا. 

حين ذهبت الضحية في يومها الأول إلى مؤسسة القتل الممنهج، لم تكن تتوقع أنها ستكون الأخيرة، طيلة الوقت وهي تنصت كي تتعلم أفضل الطرق التي يمكن أن تجعل منها قاتلًا محترفًا بمخيال كبير، لتتفاجأ أنها لم تكن سوى ضحية خداع قاتلها الذي كان كل همه منصبًا على قتلها بطريقة مبتكرة تفضي نوعًا من الجمال الأخاذ على عمله الذي قرر فجأة أن يكون بسيطًا ومدهشًا، فذهب نحوها بطعنة سكين متقنة في بطنها المرتجف. 

 في قصة "المسيح العراقي"، يضعنا حسن بلاسم إزاء لحظتين إنسانيتين مفارقتين، واحدة تمنح الحياة لغيرها وأخرى تبددها

في وقائع موت ضحية كانت في طريقها لتصبح قاتلًا محترفًا، ينقلنا الكاتب من حكاية قتل السيدة وطفلها الرضيع وعرض جثتيهما كما لو كانا في معرض للنحت لا في مشرحة، إلى حكاية القتل في المشرحة التي يتم فيها سلخ جلد أحدهم وتعليقه كما لو كان ثوبًا في لوحة فنية. الجميل في "معرض الجثث" أنها قصص لا تروى على مسامعنا بقصد التبرأ من سلوك مرتكبيها، وإنما لمعاينة الإنسان القابع في دواخلنا، فقد آن لنا أن نخاف من أنفسنا كلما ارتكب أحد غيرنا جريمته، ذلك أنه علينا أن نفزع من عدم بذلنا الجهد الكافي لأنسنة أنفسنا بما يكفي. 

يقارب بلاسم فكرة التضحية البشرية عبر قصة "المسيح العراقي" التي بطلها الجندي المسيحي دانيال، الذي تمكن من أن ينجو بنفسه من أهوال حرب الخليج الثانية، ومن ثم مذبحة الجيش العراقي عام 2003، بفعل حدوسه التنبؤية لمعرفة الطريق الذي يسلكه الموت في كل مرة يأتي إليه. يذهب هذه المرة إليه بقدميه، مفضلًا التضحية بنفسه على أن تنجو أمه العجوز، عندما أرغمه أحد الإرهابين على ارتداء حزام ناسف ليقوم بتفجيره في رواد أحد المطاعم مقابل الإبقاء على حياة أمه. في هذه القصة نحن إزاء لحظتين إنسانيتين مفارقتين، واحدة تمنح الحياة لغيرها وأخرى تبددها.

فوز "المسيح العراقي"، وهو عنوان المجموعة القصصية الثانية لبلاسم، بجائزة أفضل عمل في "مسابقة الرواية الأجنبية" في 2014 التي ترعاها صحيفة الإندبندنت البريطانية، يؤكد على الجهد المميز لبلاسم القادم من عالم السيناريو والإخراج السينمائي إلى فضاء السرد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أوبير حداد.. ماذا لو عشنا في جسد غريب؟

خالد خليفة.. بلاد في جنازة