مجموعة من البشر تتقابل مصائرهم في رحلة حياة كبرى في فيلم تالا حديد "إطار الليل"، أو "إطار منتصف الليل الضيق" بحسب العنوان الإنجليزي للفيلم (The Narrow Frame of Midnight) الذي عُرض مؤخرًا في القاهرة ضمن فعاليات بانوراما السينما الأوروبية (امتدت من الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر إلى الخامس من كانون الأول/ديسمبر الجاري).
"إطار الليل" مثل الكثير من الشعر؛ لا يسعى فقط لتأويلات مختلفة، ولكن يشجّع التفاعل النشط
تالا حديد مخرجة مغربية-عراقية تعيش في فرنسا، وهذا هو فيلمها الطويل الأول الذي حصل على دعم مالي من "مؤسسة الدوحة للأفلام"، وهو من الإنتاج المشترك بين المغرب، بريطانيا وفرنسا وأمريكا. من الصعب اختصار حكاية الفيلم فهناك الكثير من الأحداث والتطور الدرامي بطرق غير متوقّعة ربما تعكس عدم القدرة على التنبؤ بالحياة. ومع ذلك، تبدأ الحكاية في جبال الأطلس بالمغرب الغربي حيث منزل فتاة صغيرة تدعى عائشة (فدوى بوجواني)، تجد نفسها فجأة تحت رحمة مجرم وضيع يدعى عبّاس (حسين شتري) وصديقته ناديا (ماجدولين الإدريسي) بعد أن تمَّ "بيعها" إليهما.
في طريقهم، يقابلون الشاب الأوروبي زكريا ذا الأصول المغربية-العراقية (خالد عبد الله) فيستقلون سيارته. زكريا الذي تخلّى عن كل شيء في سبيل البحث عن أخيه المفقود، بما في ذلك علاقته المضطربة مع معلمة فرنسية تدعى جوديث (ماري خوسيه كروز) من أجل مواصلة بحث يبدو ميئوسًا منه عن شقيقه المفقود. يأخذ الفتاة إلى صديقته السابقة لترعاها في الوقت الذي يعاني هو نفسه فقدان طفله الرضيع. يختفي شقيق زكريا من المغرب، ويذهب إلى العراق للانضمام إلى الجهاديين الإسلاميين تاركًا وراءه زوجته وولديه. ممتلئًا بالذنب لأنه لم يأت لمساعدة شقيقه وقت اعتقاله وتعرضه للتعذيب من قبل السلطات الأمنية، يهبّ زكريا للعثور على شقيقه الغائب وتقوده الأقدار إلى العراق حيث الفوضى والدمار.
من البداية ينبغي للمرء إدراك شاعرية الفيلم. وبكلمات أوضح فهو مثل الكثير من الشعر: لا يسعى فقط لتأويلات مختلفة، ولكن يشجّع التفاعل النشط مع كلّ فرد من مشاهديه. حيث يتعمّد الفيلم ترك مناطق رمادية في سرده للسماح للمشاهدين بالتعامل مع القصة على مستوى روحي وميتافيزيقي، وربما من خلال تجربتهم الحياتية.
ربما الصفة الأفضل لوصف الفيلم هي الأوبرالية. وتلك الصفة تنطبق بشكل خاص على إيقاع الفيلم الذي يبدو مثل مجموعة من الآريات (arias) الموسيقية الممثلة في لحظات من الجمال والحنان والحزن وانسيابية الكاميرا وتمجيد جمال الطبيعة. تلك اللحظات، مع ذلك، ينتقص منها شعور حاد بالاستعجال وغالبًا يتلازم ذلك مع تغيّر الإيقاع ليتحوّل العمل بأكمله إلى كريشندو (crescendo) متكرّر من الدراماتيكية.
تضع تالا حديد في فيلمها، جنبًا إلى جنب، البراءة الساذجة ومعاناة الفقد ودمار الحرب وجشع الإنسان
ويمكننا أيضًا وصفه بالسيمفونية، مع شخصياته التي تتفاعل مع بعضها مثل الآلات الموسيقية. فالمجرمون في هذا الفيلم يقرعون بتهديداتهم نحاس الآلات الموسيقية، وزكريا ربما يكون تجسيدًا لعناد وإصرار الكونترباص، والمعلمة، بتزامن رقتها وقوتها، تمتلك خصائص الأصابع التي تعزف البيانو. أما الكمان الأساسي فهو الطفلة، التي تحمل شعلة البراءة تحت التهديد الدائم ولديها القدرة على فعل أي شيء تريده أو سجن إرادتها أيضًا. هي الوحيدة التي تؤثر تأثيرًا مباشرًا على حياة جميع الشخصيات الرئيسية في الحكاية وتمثيلها للبراءة مجازي في الأخير، البعض يسيء إليها والبعض الآخر يعتزّ بها والبعض الآخر يتخلّى عنها كُرهًا، ومع ذلك فإن أملها وقوتها سيعيشان إلى الأبد.
ضمن حوار في حدّه الأدنى، تستفيد المخرجة من تجربتها كمصوّرة محترفة وتستأثر الكاميرا بالحديث عن الحزن والموت والحرب وآثارها. تعتمد المخرجة أسلوبًا لا يهتم بمنطق التتابع والترابط الظاهري حتي ليبدو وكأنه فيلم مفكّك وشكلاني تمامًا، ولكن في ذلك التكثيف والتشظّي تكمن قوته وضعفه أيضًا. فطبيعته الحرّة والمنفتحة تأتي به إلى مكان بين الحلم والواقع وربما الاغتراب عن كليهما، وعلى الرغم من احتوائه على نصيب كبير من اللحظات السينمائية غير المقنعة، تظلّ شخصيات الفيلم غنية بطبائعها وخصوصياتها وتقاطع مصائرها.
يضع الفيلم جنبًا إلى جنب البراءة الساذجة ومعاناة الفقد ودمار الحرب وجشع الإنسان، ليتحدّث عن أشياء كثيرة من بينها القديسين والخطاة، الوفاء والخسارة، وامتلاك شعور بالأمان والانتماء. وفي وسط ذلك كلّه يبدو خافيًا ما يحاول تحقيقه بالتحديد مع افتقاره إلى التوتّر الدرامي بشكل واضح ومقاربته للأمور بطريقة لا يأملها أغلب المشاهدين، خصوصا بالنظر إلى مدته التي لا تتجاوز السبعين دقيقة. باختصار، فيلم جيد لكنه يخسر فاعليته إذا ما فكّرنا في الاحتمالات الأخرى التي كان يمكن له أن يكون عليها.
اقرأ/ي أيضًا:
"خطاب إلى الملك".. الجرح الكردي المهاجر
"عيون الحرامية".. استعادة الانتفاضة الثانية