يصف كتاب الشاعر حسين البندر "غرق غير مؤكد" (صادر عن دار المعقدين بالتعاون مع دار الكتب العلمية، 2017) رحلة لجوء الكاتب إلى أوروبا عبر بحر إيجة مرورًا بالعديد من الدول. يبدأ الكتاب بثلاث مقدمات للشاعر كريم راهي واصفًا فيها علاقته الغريبة بالماء، حيث إنه اختبر أول فجيعة في طفولته حين شهد غرق صديق له في نهر الكوفة. كان كريم راهي رفيق البندر الروحي الذي لن يفارقه في الرحلة المخيفة هذه، بل كان صوته القادم من برنامج إلكتروني في الهاتف النقال كأنه أغنية تُحيي الحنين وهي رميم.
"غرق غير مؤكد" فيلم وثائق أشخاصه كلمات واقعية والصوت الذي يدون الأحداث هو صوت القارئ
يقول حسين البندر عن رحلة وصوله إلى تركيا في كتابه الذي يتضمن صور شخصية التقطها بنفسه: "كنت أكره أجواءها ومدنها، على عكس الكثيرين ممن ذهبوا إلى هناك، ذلك يعود لشعور الكآبة الذي عانيته عندما زرتها لأول مرة، كان ذلك حينما قضيت فيها ثلاثة شهور لاجئًا عند الأمم المتحدة دون جدوى كنت أعاني من الضجر والوحدة، وكان الطقس في مدينة دوزجة كئيبًا على نحو غامض... الجميع يكذب عليّ، سائق التاكسي، صاحب المطعم أو المقهى، مدير الفندق وبائع سترات الإنقاذ للعبور بالبلم".
اقرأ/ي أيضًا: طالب إبراهيم.. العبور إلى متاهة اللجوء
الكتابة عن رحلة مليئة بالخوف والموت هي بحد ذاتها مخاطرة مزعجة لأنك تعيد رحلتك مرة أخرى بنفس الملامح الذابلة والبكاء الخافت والخوف من كل شيء، هي أن تصادق المجهول مرة أخرى لكن في هذه المرة تلون رحلتك بالحبر وترسم الانتصارات بابتسامة واثقة.
"غرق غير مؤكد" فيلم وثائق أشخاصه كلمات واقعية والصوت الذي يدون الأحداث هو صوت القارئ. لقد حاول الكاتب بلغته الواقعية أن يصور لنا أصعب المحن التي مرت على المهاجرين وهم يحملون جوازات سفر وحقائب تحمل موتهم تارة وأخرى سعادتهم. لا أعرف كيف للإنسان أن يستطيع بهذه الرحلة المجهولة أن يفكر بتدوين مأساته ويكتب جزءًا بسيطًا من مذكرات العابرين معه نحو العدم! كيف احتفظت عيناه بصور الأطفال وهم يبكون من الجوع والأمهات وهن يصرخن خوفًا من البحر! تلك المهمة الكبرى لدى الكاتب الحقيقي الذي يريد أن يصارع الموت والخوف ويكتب كل ما يريده بصدق واضح.
الأشد من كل ذلك أنك تمر بمدن لم تسمع بها أبدًا، أي أنك بلا شك قبل وصولك إليها تشعر بالتيه، الضياع من كل الشيء. لقد كانت المدن في هذه الرحلة كابوسًا لكل المهاجرين، وأناسها، أي شرطتها، كانوا أشباحًا ملموسة لأنك هنا تحديدًا تصاب بالوحدة القاتلة. لقد استطاع البندر رسم تلك الطامة بلغة تحسها أقرب إلى حالة الطمأنينة التي عاشها حين يسمع صوتًا دافئًا، كصديقه كريم الراهي، يشجعك على التقدم ويدله على الطرق عبر الخرائط الإلكترونية.
يقول حسين البندر في رحلة العبور من صربيا إلى هنغاريا: "في صندوق التاكسي، وتحت قماشة كبيرة تعارفنا، قال لي إن اسمه طه: كان سائق التاكسي ينطلق بسرعة مخيفة أغمضت عينيّ في اللحظات الأولى للانطلاق بعد أن تملكني قلق شديد، لقد عاش في داخل روحي هذا القلق، إلى حد أنني أستطيع القول: لقد عشت في داخل القلق نفسه. خفت من اصطدام غير متوقع بسيارتنا من الخلف ستكون فيه نهايتنا أنا وطه معًا، سنكون ضحايا تكتب عنا الصحافة العالمية، عراقيان يلقيان مصرعيهما في صربيا في عملية تهريب بصندوق سيارة، البقية نجوا ولكن هذين كانا بالصندوق الخلفيّ، أو سيارتنا ستنقلب بسبب السرعة المجنونة لنموت منسيين في بلاد غريبة لا يعرفها أحد! كانت نصف ساعة من السير الجنوني كافية لأن أشعر بأن عظامي قد تكسرت تمامًا، ولأحسّ بشعور المذنب لأول مرة في حياتي، كنت مذنبًا وأنا داخل الصندوق، لا أعرف كيف حدث ذلك، إذ أنني شعرت بالذنب إلى الدرجة التي كنت أخجل فيها من نفسي لأنني وضعتها في هذا المأزق، ذنب فظيع وقوي من كوني جبتها مختبئًا من بلد إلى بلد لا أعرف كيف حدث ذلك، إنني مختبئ مثل كلب بفعل فعلة اقترفها، أو جرذ صغير هارب من مكنسات ربات المنازل، نعم أنا مذنب، كان شيئًا رهيبًا أن أشعر بمعاناة حيوان مختبئ هربًا من إنسان!
كان طه يرمقني بنظرات أحسب أن لها معاني أخرى غير الحزن، كانت تعبر عن أشياء يريد قولها بعينيه، لأن التحدث فيما بيننا كان ممنوعًا تحت القماشة الكبيرة.
أغمض عينيه ولم يفتحها ثانية لأكثر من نصف ساعة في الطريق، إنه مذنب أيضا لقد شعر مثلي بنفس الإحساس وأراد أن يوصله لي بنظراته.
مضى من الزمن ساعة وربع ولم أسمع الشباب يتكلمون أو يهمسون لبعضهم، أو يقومون بالبكاء أو الضحك، ولا حتى يقولون لبعضهم: نريد حياة طويلة وممتلئة مثل أفعى البوا، لا يئن الناس فيها ولا يتألمون، حياة مفتوحة مثل أفواه الموتى".
لقد دوّن حسين البندر رحلته تاركًا خلف القلب لغة الشعر وألمه الشعري، وأذكر هنا قول الأستاذ محمد غازي الأخرس حين تناول "غرق غير مؤكد" الذي أشار إلى اللغة الحقيقية التي تغطت بها الرحلة هذي بثوب جميل إذ قال "هذا الكتاب يرسخ فكرة أننا ربما نكون في الطريق لعصر كتابي جديد، عصر لم نعتده، برغم أننا تخيلناه دائمًا وتمنينا حلوله منذ عقود".
أثار حسين البندر في رحلته الحقيقية حياة الشاب الطموح وهو يتحطم كبنيان هش
لقد أثار حسين البندر في رحلته الحقيقية حياة الشاب الطموح وهو يتحطم كبنيان هش، في بلد هزاته الأرضية عبوات ناسفة وسيارات مفخخة وانفجارات وحروب حطمت في جيلنا الكثير من الأمنيات، الجيل المولود في الثمانينات، أثناء الحرب الإيرانية-العراقية، الجيل المحصور بين حرب الخليج وسقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي وكذلك الحرب الطائفية وحرب داعش والسياسيين.
اقرأ/ي أيضًا: ضياء جبيلي.. عراق مشطور
لقد ترك حسين البندر عراقه ليسكن بهدوء منفاه في ألمانيا الذي هو سريره الدافئ ومكتبته السعيدة، إذ يقول لنا أخيرًا: "تفرق الجمع الذي انتظر طويلًا.. وتم نقلي إلى شقة في منطقة جبلية اسمها غومرسباخ وقد أويت إليها في ليل بارد كان فيها أربعة شبان من بلدان مختلفة، عشت فيها شهرين إلى أن جاء خلاصي بالثبات، والانتهاء من حياة المخيمات والمعسكرات، بعدها انتقلت باختيار مني إلى مدينة أخي، حيث نعمت بالاستقرار نوعًا ما، وحيث أنا جالس الآن لأدوّن هذه الذكرى قبل أن تتبدّد".
اقرأ/ي أيضًا: