الكلمات التي تخرج بصوت الرادود ياسين الرُميثي هي باكراوند (خلفية) للحزن الذي يُخيم على بغداد في شهر محرم.
في كل شارع تسمع هذه الكلمات، إن لم تكن بصوت هذا الرادود، فهي فبصوت رادود آخر، لكن الجميع يُفضلها بصوت صاحبها. هي الأحزان هكذا لا تفارق بغداد فكيف بشهر محرم؟. من بداية رأس السنة الهجرية تتشح شوارع ومنازل البغداديين بالسواد. الأعلام السوداء ولافتات التعزية تُعلق في كل مكان. على السطوح. على الجدران. بعضها تُعلق على السيارات.
القدور ذات الأحجام الكبيرة "القازان" تبدأ تظهر في الشارع من جديد. في الأيام العادية لا تُستخدم إلا في مجالس العزاء. مواكب تُنصب في الشوارع والأزقة وأخرى ثابتة على مدار السنة. الناس في بغداد يتماهون مع حادثة الطف.
في الصباح أصوات الـ (DG) تملأ الأماكن. مع بدء غروب الشمس وقبلها بقليل تبدأ المواكب المتنقلة. سيارة تابعة للقوات الأمنية أو لفصيل ديني مسلح تتقدم الموكب. دائمًا ما يكون هناك عدد من الأشخاص يحملون السلاح لحماية الموكب. (في أيام الاقتتال الطائفي كانت تتعرض بعض المواكب لاعتداءات مسلحة أو استهداف بسيارات مفخخة). خلف تلك السيارات بأمتار ليست طويلة يسير مجموعة من الرجال والشباب. هؤلاء منظمو الموكب أو وجهاء في المنطقة. خلفهم، خطان طويلان من حاملي "الزنجيل" يضربون فيه على ظهورهم، وبعضهم يضرب بكفيه على صدره. في الوسط دائمًا ما تكون هناك عربة أو سيارة فيها الرادود "المُنشد" ومكبرات الصوت.
تتجول هذه المواكب في الأزقة والأحياء. بينما الشارع يُقطع تلقائيًا، تخرج النساء والأطفال من المنازل لمشاهدة المواكب. لا تقتصر على اللطم والضرب بالزنجيل فحسب. بعض المواكب تصور الواقعة بمشاهد تمثيلية.
ثمة طقوس تستمر طيلة شهر محرم وحتى العشرين من شهر صفر
أطفال يرتدون الزي الأخضر ويُرمز لهؤلاء بالأطفال من أهل الإمام الحُسين. نساء لا يظهر من وجوههن ولا أيديهن أي شئ، فهن موشحات بالسواد. بالقرب منهم عسكر يرتدون الزي الأحمر ويُرمز لهم بجيش يزيد. بينما تتعالى صرخات الأطفال في حادثة السبي، يقوم الجنود بضربهم بالسياط! كثيرًا ما يكون التعاطف مع الأشخاص الذين يجسدون أدوار أهل وأصحاب الحُسين. تتحول بغداد إلى مسرح، وتمر الشخصيات في يومياتها.
داخل المواكب الثابتة هُنالك مجالس عزاء مسائية. قرآن يُتلى. رجل دين يُلقي محاضرةٍ. رادود يتهيأ للبدء بقراءة اللطمية. هذا الطقس مستمر طيلة شهر محرم وحتى العشرين من شهر صفر. في التاكسي خلال هذا الشهر نادرًا ما تسمع غير اللطمية. قليلون الذين يقومون بتشغيل الأغاني. لا يوجد من يمنعهم من ذلك. هو شعور لا إرادي باحترام هذا الشهر وطقس المدينة وأهلها.
أشهر محال التسجيلات الصوتية في بغداد التي لم تتوقف لحظة عن رفع صوت الأغاني، تتوقف في ذلك الشهر. يستمر ببيع الكاسيت والسيدي للمطربات والمطربين، ويستمر بتعليق صور أحدث الألبومات، لكن لا صوت يخرج من المحل سوى الأناشيد الدينية.
في تاسوعاء (التاسع من محرم) الطُرقات المؤدية إلى مدينة الكاظمية، شمالي بغداد، تنقطع. هناك حيث مرقد الإمامين محمد الجواد وموسى بن جعفر، من أقرباء صاحب الذكرى. تنتشر المواكب بشكل كبير. طفل يوزع الماء. آخر يُقدم المعجنات. شاب يُعالج المرضى والمرهقين من السير. سيكون الجميع بحزنٍ شاؤوا أم أبوا. هكذا هي قضية الحُسين في بغداد وباقي مناطق إقامة الطقوس. كل المشاهد تراجيدية، وكل الألوان تختفي، وكل النساء يلطمن، وكل الأطفال يلبسون الأسود. القصة قصة طقس مديني أيضًا.
يزداد في عاشوراء طبخ "القيمة" و"الهريسة". أكلتان معروفتان في العراق وجنوب لبنان. الأطفال يهرولون بقدورهم الصغيرة إلى المواكب التي تُحضر الطعام. ليسوا لأنهم جياع أو بحاجة إلى الطعام. على العكس. هذا جزء من طقوس ذلك اليوم. لا أحد جائع في عاشوراء.
اقرأ/ي أيضًا:
عاشوراء في بيروت.. الموضة والطقوس
في بغداد.. الموتى أكثر من الشوارع