لم يحمل الغزو الأمريكي للعراق في 2003 فقط التغييرات السياسية، إنما كانت هناك تغييرات كثيرة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والتحتية، ومن أهم التغييرات التي حدثت هي التغيرات البيئية والصحية. العراقيون ومنذ أكثر من عقد ونصف لم يحظوا بهواء نقي غير ملوّث، لأسباب كثيرة، بدأت بالحروب والفوضى ولا تنتهي بـ"حرق النفايات" التي أصحبت ظاهرة تهدّد حياة الناس ووضعهم الصحي، خاصة الأطفال.
العراقيون ومنذ أكثر من عقد ونصف لم يحظوا بهواء نقي غير ملوّث، لأسباب كثيرة، بدأت بالحروب والفوضى ولا تنتهي بـ"حرق النفايات" التي أصحبت ظاهرة تهدّد حياة الناس ووضعهم الصحي
ومع اختلاف الحكومات المتعاقبة لم تجد أي منها حل لهذه المشكلة، ففي الوقت الذي بدأت فيه العديد من الدول بإعادة تدوير النفايات والاستفادة منها بأمور أخرى وهي طريقة وجدت منذ القدم في الطبيعة، ففضلات بعض الكائنات الحية تعتبر غذاءً لكائنات حية أخرى، وقد مارس الإنسان عملية استرجاع النفايات منذ العصر البرونزي حيث كان يذيب مواد معدنية لتحويلها إلى أدوات جديدة، على سبيل المثال إعادة تدوير المواد البلاستيكية إلى مواد تعليب، أكياس، بعض أنواع الملابس، ألعاب، مواد منزلية، إعادة تدوير مياه الصرف الصحي إلى مياه صالحة بفضل محطّات تطهير وتنقية المياه.
اقرأ/ي أيضًا: حي المعامل في بغداد.. نفايات الفساد تأكل وجه الحياة
وكما يرى مختصون أن لإعادة تدوير النفايات العديد من النقاط الإيجابية التي تخدم البلدان، ومن أهمها هي حماية الموارد الطبيعية وتقليص النفايات، وكذلك خلق فرص عمل جديدة قادرة على القضاء على البطالة التي تسود العراق بنسبة كبيرة، إلا أن الحكومة العراقية ما زالت عاجزة ليس فقط في بناء مصانع وإعادة تدوير النفايات، بل في طمرها بشكل صحي يحفظ حياة العراقيين من الأمراض المصاحبة لها، في الوقت الذي لا توجد فيه أماكن مخصّصة لكب النفايات بعيدًا عن المناطق السكنية.
وبمناسبة اليوم العالمي للبيئة والذي يحتفل به في 5 حزيران/يونيو من كل عام ويتم من خلاله تصنيف الدول الآمنة صحيًا، تم تصنيف العاصمة بغداد في ذيل العواصم الآمنة، وإنها في مراحل خطيرة جدًا من التلوث البيئي، فيما اعتبر دخان النفايات أحد أهم الأسباب في حدوث هذا التلوّث.
حاول "ألترا عراق" أن يتقصى عن ظاهرة النفايات وحرقها، فذهب إلى وزارة البيئة بمقرّها الكائن في منطقة الوزيرية، لكن الفريق صُدم بكمية الأوساخ والأتربة في الوزارة ذاتها، إذ كانت تحيط بكل زاوية من زوايا الوزارة.
رشحت الوزارة لـ"ألترا عراق" مدير قسم مراقبة الكيمياويات وتقيم المواقع الملوّثة المهندس لؤي المختار للحديث عن التلوّث، كونه هو الشخص المعني بهذا الموضوع، لكنه كان لا يعلم أن بغداد صنفت في مقدمة المدن التي يختنق مواطنيها من دخّان النفايات لعام 2019.
قال المختار "نحن نناشد باستمرار أمانة بغداد والبلديات العامة لإيقاف حرق النفايات والتي يعتبر دخّانها هو السبب الرئيسي في تلوّث الهواء والذي يعد سبب في وفاة 7 مليون إنسان بحسب منظمة الصحة العالمية، مبينًا لـ"ألترا عراق"، أنه "أصدرنا مؤخرًا كتاب إلى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي نطالب فيه بتجريم حرق النفايات وعد التهاون في هذا الموضوع، مؤكدًا أن "عملية جمع النفايات وإدارتها ما تزال بدائية في العراق ولم ترتق إلى مستويات قياسية، كما أن النفايات ما تزال ترمى في أي مساحة فارغة دون طمر صحي ودون الأخذ بالاعتبار المناطق السكنية المحيطة بها".
أشار إلى أن "أمانة بغداد هي من تقوم بهذا الأمر، كما أكد على أن "عملهم هو رقابة وتوجيه فقط، ويقومون بتشخيص الخلل ومنح الموافقة للنشاطات التي تقوم بها الأمانة بشكل رسمي، إلا أنها لا تأخذ موافقتنا في الكثير من الأمور التي تقوم بها وفي هذه الحالة نقوم بفرض غرامية عليهم ومحاسبتهم إلا أنه بالتالي نحن الاثنان جهات حكومية ونعمل في مؤسسة واحدة".
لفت المختار إلى أن "أبرز الحلول التي تم تقديمها من قبل وزارة البيئة لأمانة بغداد هو تحديد موقع مناسب له، مواصفات نحن نقوم بتحديدها ويعملون على عملية جمع مناسبة ويكون خاضع لإدارة معينة ويحتوي على سور وتحيط به الأشجار مثله مثل الأماكن التي يتم بها طمر النفايات في العديد من الدول العربية".
في الأثناء، توجه "ألترا عراق"، إلى أمانة بغداد للاستفسار عن دخّان النفايات، والتقي بمدير العلاقات والإعلام، حكيم عبد الزهرة. قال الأخير إن "دخّان النفايات الناتج من حرقها والذي نلاحظه في عدد من المناطق في بغداد ولا سيما معسكر الرشيد تعتبر جميعها مخالفات، مبينًا أن "أمانة بغداد تتعامل مع النفايات من خلال جمعها ووضعها في الكابسات التي تقوم بنقلها إلى المحطات التحويلية ومن ثم كبسها وتحويلها إلى أماكن الطمر الصحي".
مدير تقيم المواقع الملوّثة في وزارة البيئة: أمانة بغداد هي من تقوم بحرق النفايات ورميها في أماكن غير مخصصة. فيما نفت الأمانة بدورها هذا الأمر
أكد عبد الزهرة في حديثه لـ"ألترا عراق"، أن "أمانة بغداد في الوقت الحاضر لا ترسل النفايات إلى النهراوان أو العمّاري أو أبو غريب، وتعتبر منطقة النباعي هي المنطقة الوحيدة حاليًا التي ترسل إليها النفايات، وبالرغم من كونها بعيدة جدًا وتأخذ وقت طويل للوصول إليها إلا أنه غير متاح لنا سواها ويمكن أن تكون هناك مناطق أخرى في المستقبل".
اقرأ/ي أيضًا: لا نهر ولا خضراء.. مدينة الصدر تختنق "فعلًا" لا مجازًا!
لفت عبد الزهرة إلى أن "حرق النفايات الذي يحصل في بغداد يقوم به مجموعة من المنتفعين للاستفادة من النحاس الموجود فيها وغير تابعين لنا، مشيرًا إلى أن "أمانة بغداد حاولت في الفترة الماضية مع عمليات بغداد ومع مكتب رئيس الوزراء من أجل مسك الأرض في معسكر الرشيد ومنع هذه الظاهرة، كما وطلبنا منهم منع أي سيّارة من رمي النفايات في المعسكر حتى وإن كانت تابعة لأمانة بغداد وأن يتم احتجازها فورًا".
وحول العراقيل التي تقف أمام أنشاء معامل لإعادة تدوير النفايات أو طمرها بشكل صحّي، فأجاب عبد الزهرة بأن "أمانة بغداد تمتلك خطط ومشاريع لإنشاء معامل لاستثمار هذه النفايات إلا أن جميعها قيد التنفيذ وننتظر المخصصات المالية أو الاستثمار للبدء بها".
قال مصدر رفض الكشف عن اسمه لأسباب تتعلّق بوظيفته، إن "أمانة بغداد لا تعلم بمن يقوم بحرق النفايات وكبها في الأماكن غير المخصّصة لها، لافتًا في حديثه لـ"ألترا عراق"، إلى أن "هذه النفايات يتم نقلها في سيارات تابعة لأمانة بغداد، متسائلًا "من يقوم بذلك الفعل؟ وما هي العراقيل التي تقف بوجه أمانة بغداد وتمنعها من محاسبة أولئك المخالفين والمسبّبين لكل هذا التلوّث الهوائي الذي ينسب إليها؟".
المواطنون كان لهم رأي آخر عن موضوع النفايات ودخّانها، إذ بمجرّد سؤالنا لهم عن رأيهم بهذا الموضوع عدد كبير منهم رفض الحديث، مؤكدًا أن "موضوع دخّان النفايات أصبح من المكوّنات الأساسية التي يستنشقها البغداديون مع الأوكسجين"، إلا أن المواطن "أبو كاظم" والذي يسكن في الأحياء القريبة من معسكر الرشيد والذي يعتبر من أكثر المناطق المتضرّرة من دخّان النفايات تحدث لـ"ألترا عراق"، بالقول، إنه "تقوم السيارات التابعة لأمانة بغداد بكب النفايات في معسكر الرشيد كل يوم أو يومين أو أسبوع، فليس لديها وقت أو يوم محدّد، ثم نتفاجئ صباح اليوم التالي برائحة الدخّان المنبعثة من حرق هذه النفايات".
أشار "أبو كاظم" إلى أنه "حتى الآن لا نعلم من يقوم بحرقها، لكننا متأكدين من أن سيارات أمانة بغداد التي تأتي بها هنا هي التي تقوم بحرقها، إلا أنهم يتهمونا نحن بهذا الأمر، مؤكدًا "بأنهم لو كانوا يملكون قطع أراضي أو منازل سكنية غير تلك المنازل التي يسكنون بها والتي تعتبر "تجاوزات" لما بقينا حتى الآن نستنشق هذا الدخّان ونغوص في هذه النفايات عند ذهابنا إلى مكان ما".
لفت إلى أن هذه "النفايات التي تزداد يومًا بعد آخر أصبحت عائقًا كبيرًا ومهددة لعيشنا بسبب غلق الطرق القريبة منها، فيما ناشد "أبو كاظم" "الجهات التي تطلب منهم اخلاء هذه المنطقة وجعلها للنفايات أن تخصّص لهم شقق سكنية لكي يكون لهم بديل عنها".
السيارات التابعة لأمانة بغداد تقوم بكب النفايات في معسكر الرشيد في أيام متقاربة، ثم نتفاجئ بعدها برائحة الدخّان المنبعثة من حرق هذه النفايات
"حمادي" وهو من سكنة معسكر الرشيد، تحدث لـ"ألترا عراق" قائلًا إن "البلدية هي التي تقوم بنقل النفايات إلى معسكر الرشيد ثم تقوم بحرقها، وبعد ذلك تعلن أننا نحن من نحرق هذه النفايات وعندما نتحدث معهم قبل حرقها يقومون بالهرب".
أضاف أننا "أشخاص بسطاء نعيش بقوت يومنا ولا حول لنا ولا قوة، لا نملك حتى الماء لنترتوي به، وليس أمامنا إلا أن نناشد الله تعالى ليخلصنا من أولئك الذين يريدون إخراجنا من منازلنا المتهالكة".
في مناطق أطراف بغداد قال المواطن خضير عبد الأمير الذي يسكن في منطقة التاجي، بأن "أمانة بغداد تقوم بنقل نفايات عدد من مناطق وسط بغداد ورميها في الأطراف، كمنطقتي التاجي والحسينية، موضحًا أن "هذا الأمر يحدث تقريبًا كل يوم وبإمكان أي شخص أن يزور مناطق أطراف بغداد ومن ضمنها هاتين المنطقتين بعد الساعة السادسة مساءً وسيصدم بكمية الدخّان التي تغطي سماء هذه المناطق، مبينًا "لن يستطيع أن يتنفس بشكل مباشر إطلاقًا، مؤكدًا أن "جميع سكّان المنطقة يعلمون بهذا الأمر وناشدوا كثيرًا لكن دون جدوى، وأنهم مقدر لهم أن يمسوا ويصبحوا على هذه الرائحة الكريهة".
ووثّقت عدة دراسات علمية مخاطر الانبعاثات من المحارق في الهواء الطلق على صحة الإنسان. منها التعرّض لجزيئات دقيقة، الديوكسين، المركّبات العضوية المتطايرة، ومركبات كل من الهيدروكربون العطري متعدد الحلقات وثنائي الفينيل متعدد الكلور، التي ترتبط بأمراض القلب والسرطان وأمراض الجلد والربو وأمراض تنفسية.
هيومن رايتس ووتش": إن الذين يسكنون بالقرب من أماكن الحرق المكشوفة يعانون من مشاكل صحية تتوافق مع التنشق المطوّل والمتكرر لدخان محارق النفايات
كانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" وجدت أن الذين يسكنون بالقرب من أماكن الحرق المكشوفة يعانون من مشاكل صحية تتوافق مع التنشق المطوّل والمتكرر لدخان محارق النفايات. منها، مرض الانسداد الرئوي المزمن، السعال، التهابات الحلق، أمراض جلدية، والربو. في العديد من الحالات، وصف الذين تمت مقابلتهم علاقة زمنية بين حرق النفايات وأمراضهم؛ فقد أصيب بعضهم بالمرض بعد البدء بعمليات الحرق أو انتقالهم إلى أماكن يتم فيه الحرق. فيما قال آخرون إن عوارض مرضهم تدنّت بعدما أوقفت البلدية الحرق أو انتقلوا بعيدًا عن مناطق الحرق.
اقرأ/ي أيضًا: