شهد العالم الحديث، خصوصًا مع مطلع الألفيّة الثالثة وبعد احتلال العراق على يد القوات الأمريكية عام 2003 صعودًا كبيرًا بل ومخيفًا للشركات الأمنيّة والجنود المأجورين والذين يمكن بيسرٍ أن نطلق عليهم اسم "المرتزقة" كمصطلح غير خفيّ على القارئ العربيّ الذي يسهل عليه تخيّل نطاق هذه الكلمة على الخطّ التاريخيّ للحضارة العربية والإسلامية وصولًا إلى يومنا هذا، حيث تشتعل المنطقة بحروب ونزاعات لا تزال، وفي كثير من الأحيان نجد المرتزقة حاضرين في المشهد باستمرار.
شعرت بعض الدول بالرغبة في تجنب التكلفة البشرية للحروب لتجنب الضغط الداخلي والحنق الشعبيّ لمواطنيها، فلجأت لاستخدام المرتزقة والشركات الخاصة
لقد صار الحديث عن المرتزقة شبه يوميّ في الآونة الأخيرة، وصار الكشف عن ذلك أيسر بفضل وسائل الإعلام الحديثة والنقل المباشر للصور من أراضي النزاع، وبالأخص مع انتشار المرتزقة الذين تستخدمهم إيران في سوريا والآتين من أفغانستان وباكستان والعراق وغيرها، بالإضافة إلى جماعات الجنود المرتزقة في بعض مناطق النزاع في أفريقيا.
ولكنّ الأمر في العالم الرأسماليّ الحديث والمعولم لم يكتفِ بتجنيد أفرادٍ غير منتظمين في مؤسسة عسكريّة رسميّة، وبدأنا في العقود الأخيرة نشهد انتشارًا كبيرًا لشركات أمنيّة ضخمة تمثّل المرتزقة الأفراد وتستغلّ الحروب والنزاعات القائمة وتتغذّى عليها. ولعلّ المثال الأوضح أو بالأحرى الأسوأ ذكرًا هو الشركات الأمنيّة الأمريكية في العراق والتي تورّطت بفضائح عديدة ومجازر وحشيّة ومن ذلك مجزرة ميدان النسور ومجزرة الحديثة وغيرها من الأعمال الوحشيّة التي ارتكبتها شركات "مرتزقة" يكمن سرّ وجودها في إشعال فتيل الأزمات وإذكاء نار أزمات أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: ثلاثة أسباب للتقارب الإيراني التركي
أمّا الأعداد فحدّث ولا حرج، ويكفي مثلًا أن نعلم أنّ في الصومال الآن 180 شركة أمنيّة خاصّة من 35 دولة تعمل على حماية سفن الشحن الدوليّة من اعتداءات القراصنة، وهي الأخرى تستخدم القوّة القاتلة وأثبتت فعاليتها مؤخرًا في مجابهة القراصنة، حتى بات لهذه الشركات مؤخرًا هيئة مشتركة لتمثيل مصالحها أمام الحكومة والمؤسسات المعنيّة.
وهذا ما يظهره لنا كتاب "المرتزقة الجدد - الجيوش الخاصة وما تعنيه للنظام الدولي" لمؤلفه "شون ماكفيت" والصادر عن مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث، إذ ينتقل بنا شين ماكفيت بين مراحل مختلفة من النزاعات المسلّحة في العالم خلال العقود الثلاثة الماضية ليدلّل على انتشار الجيوش الخاصّة من "المرتزقة الجدد" وكيف أنّ هذه الجيوش تحوّلت بسبب جشع الشركات التي تحرّكها من أداة يُدّعى أنّها تجلب السلام إلى تهديد حقيقيّ لا يجلب سوى المزيد من الدمار والدماء.
لقد كانت نهاية الحرب البادرة نقطة تحوّل في نشوء الجيوش الخاصّة في العصر الحديث. في عام 1994 ظهرت شركة (Executive Outcomes) والتي أنشأها مجموعة من ضباط القوات الخاصّة في جنوب أفريقيا، وعرضت خدماتها لإيقاف المذابح في رواندا، ولكنّ الأمم المتحدة حينها رفضت هذا العرض وأحجمت عن التعاون معها.
اقرأ/ي أيضًا: درع الفرات..تحرك تركي لإفشال الانفصال الكردي
لكنّ الشركة لم تعدم الحيل، ووجدت فرصة للعمل لاحقًا في أنغولا وكينيا وغيرها من الدول، ثم أنهت أنشطتها بعد أن صدر قانون في جنوب أفريقيا يمنع الترخيص لمثل هذه الشركات، وكان ذلك عام 1998. ثم انتعش سوق هذه الشركات تارّة أخرى وذلك إبّان الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق كما أسلفنا، وكانت شركة (Blackwater) سيئة الذكر هي الأكثر حضورًا، ولكنّ الجرائم التي ارتكبتها في كلا الدولتين عرضتها للكثير من الضغوطات فغيّرت اسمها مرّة إلى (Xe) والآن إلى (Academi).
في الصومال الآن 180 شركة أمنيّة خاصّة من 35 دولة تعمل على حماية سفن الشحن الدوليّة من اعتداءات القراصنة
ومع انتشار حمّى عقيدة الأسواق الحرّة والخصخصة مع صعود نجم النيوليبرالية في العالم الغربيّ على يد رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، وما شعرت به الدول/الأنظمة من ضرورة الحدّ من التكلفة البشريّة في أرواح جنودها المواطنين لتجنّب الضغط الداخلي والحنق الشعبيّ، بات الحل الأسرع والأنجع هو استخدام المرتزقة عن طريق الشركات الأمنيّة. والحق أنّ وصف النجاعة سابق الذكر هو ما تستخدمه هذه الشركات في الترويج لنفسها، تمامًا كما فعل مؤسس شركة بلاكووتر حين قال عن شركته "إنّ نجاعتها في حماية الأمن القوميّ لأمريكا كنجاعة شركة فيديكس في الشحن".
ولا يقف الكتاب عند بيان الأسباب الاقتصاديّة لنشوء الشركات الأمنيّة الخاصّة، بل يحاول الخوض في طبيعتها معتمدًا على عدد من الأطر التحليلية المختلفة، على مستوى الاقتصاد والتاريخ والسياسة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المؤلف يقف مطوّلا عند الجانب التاريخيّ للمرتزقة، ويشير إلى أنّ العالم يسير نحو مرحلة أطلق عليها اسم "القروسطية الجديدة"، كما كانت الحال في إيطاليا في القرن الثالث عشر، حين سادت أنظمة متنافسة في دول قوميّة ضعيفة وجنود مرتزقة يجوبون المناطق ويعرضون خدماتهم العسكريّة مقابل المال. والفكرة التي يقدّمها ماكفيت هي أنّ العولمة والتقنيات الحديثة تقوّض السلطة المحكمة للدولة، والتي تحتكر استخدام القوّة من الناحية التقليدية، وأنّ العالم يتّجه نحو شكل من أشكال الفوضى.
صدرت الترجمة العربية مؤخرًا عن مركز صناعة الفكر كباكورة ترجمات أخرى لاحقة في مجالات يرى القائمون على المركز أن المكتبة العربيّة مقصرة في الاطلاع عليها، كدراسات مستقبل الحروب، والمرتزقة والجيوش الخاصة، ودراسات الإرهاب والنزاعات الدولية، وصناعات الأسلحة وسباقات التسلّح في العالم. أما مؤلف الكتاب، شين ماكفيت فهو من كبار الباحثين في المجلس الأطلنطي ويدرّس في جامعة جورج تاون ومعهد الدفاع الوطني الأمريكي وله تجربة مهنية شخصية في العمل مع إحدى الشركات الأمنيّة الخاصّة، مما أتاح له عرض معلومات وتفاصيل يصعب لسواه الاطّلاع عليها والكشف عنها.
اقرأ/ي أيضًا: