إن الذي ملأ اللغات محاسنًا .. جعل الجمال وسرّه في الضّاد. هكذا وصف الشاعر المصري أحمد شوقي مفاخرًا باللغة العربية. وكما كانت بغداد حاضرة الدنيا وأصبحت في صدارة العواصم الأسوء في العالم، كذلك العربية تُعاني في بلادٍ كانت أساسًا للغة في التأريخ.
السياسيون العراقيون لا يتقنون اللغة العربية فيما لا يستطيع الشباب الجامعيون كتابة سطر فصيح في الوقت الذي يستخدم الإعلاميون العامية الشعبية بأشكال مبالغ بها
منذ دخول الاحتلال الأمريكي إلى العراق، واللغة العربية في تراجعٍ مستمر على مختلف الأصعدة. سياسيون لا يتقنوها، طلاب جامعيّون يتعثرون في كتابةِ سطر فصيح، إعلاميون يُساهمون في هذا التجهيل عبر استخدامهم للعامية الشعبية بأشكال مبالغ بها.
اقرأ/ي أيضًا: "العلمو نورون".. مجزرة اللغة العربية في العراق
أما التعليم فشأنه شأن بقية مفاصل الدولة العراقية. ضعفٌ في المناهج، ورشاوى للنجاح، وطلابٌ لا يطمحون بغير شهادة تُعينهم على الظفر بفرصة عملٍ في دوائر الدولة أو الشركات الأهلية.
لغة الضاد تحتضر في العراق
قَدِم أبو الأسود الدؤلي، وهو العالم المعروف الذي وضع علم النحو في اللغة العربية، إلى البصرة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتولى منصب قاضٍ في عهد الخليفة علي بن أبي طالب.
وللمقارنة بين القيادة السياسية قبل أربعة عشر قرنًا، والقيادة في عهد نظام المحاصصة، نذكر شيئًا مما ترويه كتب التراث، إذ تقول إحدى المرويات إن الدؤلي انتبه للخطر الذي يحيط باللغة العربية، فذهب إلى أمير البصرة يُخبره عن فساد اللسان العربي باختلاط العرب مع الأعاجم، طالبًا من الأمير إذن ليضع للعرب ما يعرفون به كلامهم، لكن الأمير رفض طلبه.
مضت مدة من الزمن، وجاء رجلٌ إلى الأمير يُخبره "توفي أبانا وترك بنون"، فتهكم على جملته الأمير، ودعا أبو الأسود الدؤلي قائلًا له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه.
والسامعُ للسان السياسيين العراقيين قد لا يُصدق أن الحادثة أعلاه حدثت في هذه البقعة الجغرافية قبل حزمة من القرون، ولكم أن تسمعوا عينة من ذلك. هذا بيانُ تحالف المحور الوطني الذي ألقاه أحمد الجبوري المعروف بـ"أبو مازن"، والذي وصفه نشطاء بأن البيان شهد "مجزرة من مجازر اللغة العربية في العراق".
مشكلة التعليم: المُدرس، المناهج.. أم الطلبة؟
أصبحت موضوعًا للسخرية، بعض الأسئلة الامتحانية وأخطاؤها الإملائية والنحوية، يتناقلها المدونون في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي دليل على المستوى التعليم الذي وصل إليه العراق، وذلك من العوامل الرئيسية التي ساهمت بتدهور حال اللغة العربية لدى الأجيال الجديدة في العراق، وهو الأمر الذي يتفق عليه غالبية المختصين.
الأخطاء الإملائية والنحوية في الأسئلة الامتحانية أصبحت موضوعًا للسخرية وهي دليل على مستوى التعليم في العراق
الدكتور أحمد الظفيري، أستاذ جامعي مختص باللغة العربية، تحدث لـ"ألترا عراق" عن المشكلة التي وصلت إلى الجامعات العراقية بالقول، إن "مستوى الطلبة في اللغة العربية محدودٌ، لا سيما في القراءة والإملاء، فكثير منهم لا يجيدون الكتابة بصورة صحيحة، ويلحنون في اللغة، وهذه مشكلة كبيرة لأننا نضطر بالعودة إلى أبجديات اللغة الأولى"، مبينًا أن "مادة اللغة العربية كبقية المواد الدراسية تعتمد التلقين والحفظ وتفتقد المناقشة والتطبيق، كما أن جزءًا كبيرًا من اللغة يعتمد على الأداء والإلقاء وهذ ما يفتقده الطلبة".
اقرأ/ي أيضًا: القطاع العام في العراق.. المحاصصة في التعليم الابتدائي أيضًا!
الظفيري وزّع أسباب المشكلة على كافة الأطراف، مشيرًا إلى أن "المناهج بحاجة إلى المراجعة والتطوير، وكذلك الطالب الذي لا بد أن تتسع ثقافته وقراءته المتنوعة، والأستاذ الذي قد يتهاون ويستاهل كثيرًا لأسباب عديدة، كما أن أساليب التعليم الحديثة تَغيب عن دائرة معرفته".
مدرس اللغة العربية للمرحلة الإعدادية محمود حميد، حدّد المشكلة في التدريسيين وفي غاية الطالب، إذ قال لـ"ألترا عراق" إن "دراسة اللغة العربية تعاني من مأزق تكاد تعانيه بقية الدروس. مأزق التعلم لأجل النجاح في الامتحان، وليس التعلم لأجل التطور والاستفادة بشكل أوسع من ذلك الحد، وهذا ما ساهم في التأسيس له نظام التعليم، والمدرس بطريقة تدريسه لمادة اللغة العربية المقتصرة على تلقين القواعد بما ييسر الامتحان مع عدم الالتفات إلى جانب الممارسة واستعمال اللغة".
حميد أشار إلى أن "المدرس يجعل علاقة الطالب بالإنشاء قائمة على الحشو، إن لم ينصح بنسخ الإنشاء الجاهز. المدرس يجعل من القصيدة محفوظة، ومن الطالب ببغاء يُلقن، في حين نحن بحاجة إلى خلق طرائق تعليم تعتمد على خلق فضاء إبداعي وعدم الاقتصار على الإطار الضيق للتنافس الامتحاني".
أضاف حميد، أن "المناهج هي الأخرى لا تأخذ شكل الحلقات المترابطة الهادفة إلى تشكيل سلم تطوري لمتعلم اللغة، فما تدرسه في الإعدادية لا نجده مكملًا لما درسه الطالب في المرحلة المتوسطة، وهذا ما تجده في قواعد اللغة العربية للصف السادس الإعدادي على سبيل المثال".
مواقع التواصل الاجتماعي .. عون أم فرعون؟
منذ أن دخل العراقيون بكثافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي ، والحديث عن الأخطاء النحوية والإملائية هو القائم بين الشريحة المهتمة بالأدب والشعر والسياسية. حتى باتت اللغة العربية بحسب بعض المختصين "لغة النخبة"، مقارنة بسيادة اللهجة الشعبية سهلة الاستعمال، ما ولّد فجوة بين الشباب واللغة العربية.
ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بزيادة أخطاء الطالب الإملائية ومحدودية لغته حيث يعتمد على الكتابة الشائعة المليئة بالأخطاء
محمود حميد يرى أن "مواقع التواصل الاجتماعي، وإن ساهمت بقدر بسيط في ولادة علاقة بين اللغة والناس، إلا أنها أوجدت معاييرًا ومتطلبات ملائمة لها، فانعكس ذلك على استعمال اللغة، إذ أن لغة التغريدة أو منشور فيسبوك خاضع لشروط تعامل مستخدمي مواقع التواصل وطبيعة ذلك الاستعمال، وما تفرضه على المتحدث في صياغة مفرادته ومراعاة وضع المتلقي".
فيما يرى أحمد الظفيري أن "مواقع التواصل ساهمت بصورة أو بأخرى بزيادة أخطاء الطالب الإملائية ومحدودية لغته وأصبح يعتمد الكتابة الشائعة المليئة بالأخطاء، كذلك قلّلت من حفظه للنصوص وهذا كلّه يساهم بانخفاض مستوى الوعي اللغوي لدى الطالب".
في مواقع التواصل: تجربة ونتائج
رونق حسن، أو "سارة علي" كما تُسمي نفسها في مواقع التواصل، وهي صاحبة تجربة فريدة في نشر قواعد اللغة العربية بطريقة مبسطة، وملاحقة المنشورات التي تحتوي على أخطاء إملائية ونحوية وتصحيحها في التعليقات أمام الآخرين، ما خلق حالة من "الخوف" لدى أصدقائها حين يكتبون منشوراتهم ويتذكرون المُلاحِق اللغوي!.
اقرأ/ي أيضًا: إضراب طلبة المدارس في العراق: المناهج معقّدة والمعلمون بلا تأهيل!
قالت سارة علي لـ"ألترا عراق"، إن "مواقع التواصل ساهمت بتقوية المستوى اللغوي للعراقيين خاصة الإملاء بسبب المقالات والمنشورات عن اللغة، فضلًا عن منشورات التنبيه على الأخطاء اللغوية، فأنا خلال ثلاث سنوات لاحظت تحسنًا واضحًا في إملاء كثيرين كانوا لا يجيدون إملاء بعض الكلمات لكن بفضل المنشورات التي تصحح الأخطاء الإملائية الشائعة أصبحوا يكتبونها بإملائها الصحيح وهذا بفضل هذه المواقع"، مضيفة "ألاحظ نتائج جيّدة لعملي، وحتى في غيابي أصبح الأصدقاء، وهم من غير اختصاصي، يصحّحون الأخطاء لمن يخطئ، وهذا شيء يدعو للسعادة".
علي اتفقت مع الآخرين حول ضعف المستوى اللغوي للشباب، مبينة أن "العراقيين وبنسبة كبيرة لا يجيدون الإملاء الصحيح مقارنة ببقية الدول"، مرجعة السبب إلى "التدريس السيء ومناهج التدريس الصعبة وطرائق التدريس".
هل من نهضة لغوية؟
التعليم، وليس غيره، هو أساس أي نهضة حصلت لأمة من الأمم. وفي نظام المحاصصة الطائفية لا مناهج ولا خطة عمل لدى الطبقة السياسية، حيث وزارة التربية ووزارة التعليم شأنهما شأن أي وزارة، ستوزّر وفق التقسيمات الحزبية الطائفية، وبقدر حصة حزب ما من المقاعد في الانتخابات.
أساس نهضة الأمم هو التعليم وفي نظام المحاصصة لا توجد خطة للنهوض بالتعليم ولا مناهج بعيدة المدى ترتقي بالأجيال
أما نظريًا، فيشدّد الظفيري على أن "تُقيم الدولة برنامجًا شاملًا للنهوض بواقع اللغة من خلال وسائل الإعلام والبرامج التربوية، وكذلك اختيار المعلمين والمدرسين بصورة دقيقة لأنهم يمثلون الأساس الذي يعتمده الطالب وخلق روح التنافس، لا سيما في الحفظ، لأن كلما ازداد الحفظ كلما اتسع المخزون اللغوي لدى الطالب"، وذلك بهدف النهوض بواقع اللغة العربية.
بينما أكدت سارة علي ضرورة "تعديل مناهج اللغة العربية وتبسيط طرائق تدريسها، وعلى الأقل توزيع كتيبات صغيرة للطلبة ليتم تسهيل دراستها خاصة في الجامعات كون الأغلبية تعتقد بأنها لغة صعبة لا يمكن تعلمها، مبينة أن "الطلبة يتخرجون من قسم اللغة العربية وهم لا يجيدونها ولا يجيدون الإملاء الصحيح، إضافة إلى أن اللغة الإنسانية بشكل عام وليست العربية وحدها تنمو وتقوى وتُتقن من خلال الاستعمال سواء كان هذا الاستعمال كتابيًا أو نطقيًا أو تدريسيًا، فالأستاذ حين يدرس قواعد تراكيب الجملة العربية عليه ألا يكتفي بملء ذهن الطالب بكيف يُرفع الفاعل وكيف يُنصب المفعول، بل عليه أن يعلم الطالب كيف يستعمل هذه القواعد في النطق أو الكتابة أو المعاملات".
علي استشهدت بأحد أقوال الجاحظ في كتابه الشهير "الحيوان"، "أما النحو فلا تُشغل قلب به "أي المتعلم" إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه وشعر إن أنشده وشيء إن وضعه وما زاد على ذلك فهو مشغَلة عما هو أولى وعويص النحو لا يجري في المعاملات ولا يضطر إليه شيء".
فيما يؤكد محمود حميد على ضرورة ترسيخ فكرة أن "اللغة أحد أركان هوية المجتمع الثقافية، وبأنها وسيلة التعبير عن الأفكار والرؤى، وليست مجرد درس صعب يرتجى منه في الامتحان"، مضيفًا "لا مانع من التأسيس لفعاليات تمارس فيها أنشطة متعلقة باللغة، كإقامة ورش في كيفية كتابة المقال والبحوث باللغة العربية. جعل البراعة فيها إنجاز عليه مكافأة".
أشار حميد إلى الموضوع الأهم حسب وجهة نظره، وهو "تطوير طرائق التعليم بما يراعي وضع اللغة الراهن، ووضع منهج متكامل في تعليمها يجعل من الناجح فيها ناجحًا في استعمالها".
التسليم بوضع اللغة في خانة الهوية والثقافة يجعل منها رهينة الواقع السياسي بموازاة التعليمي
بينما يرى مختصون أن التسليم بوضع اللغة في خانة "الهوية" و "الثقافة" الخاصة بمجتمع ما، يجعل منها رهينة الواقع السياسي بموازاة التعليمي. فحالة التجاهل السياسي التي تتعرّض لها الهوية العربية في العراق تنعكس على الواقع اللغوي كذلك، والمشروع النهضوي في أي مفصل من مفاصل الأمة يرتبط بهويتها الثقافية ـ الاجتماعية، فكيف بأساس ثقافتها: اللغة؟.
اقرأ/ي أيضًا: