في ملحمة جلجامش الخالدة يشير فراس السواح إلى أن بدايات اللغة الأكادية كانت رموزًا بدائية منقوشة فقط وكانت غير مفهومة عند عوام الناس، بعد ذلك ظهرت اللغة الترميزية الموشحة بالرسومات التي يقتصر فهمها على عدد محدود من الناس فقط، إلا أن السعي السومري كان ينحو إلى تبسيط اللغة حتى يتمكن منها العامة والخاصة على حد سواء، وربما هذا الاهتمام الذي أبداه أصحاب أعرق حضارات العالم وأقدمها تجاه اللغة والقراءة والكتابة هو ما جعل من الأكادية حضارة عريقة خالدة، وبفضله كذلك وصلت إلينا مجموعة من أبرز الكتابات والملاحم السومرية بلغتهم الأكادية.
اللغة الأكادية ماهيتها وتاريخها
يعود أصل تسمية اللغة الأكادية بهذا الاسم إلى مدينة أكاد في بلاد ما بين النهرين، والتي لها تنسب الدولة الأكادية التي أسسها شاروكين نحو عام 2350 ق.م، واللغة الأكادية هي لغة ساميّة تداولتها حضارة ما بين النهرين (العراق)، منذ 3000 عام ق.م، ومنها انتشرت إلى كل بلاد الهلال الخصيب، وتعد اللغة الأكادية واحدة من أهم الآثار الحضارية العريقة التي خلفتها الحضارة السومرية منذ آلاف السنين.
مرت اللغة الأكادية بالعديد من المراحل والتطورات حتى وصلت أخيرًا إلى شكلها الذي استقرت عليه، وكانت اللغة الرسمية في المكاتبات الرسمية والتاريخية والأدبية حتى 539 ق. م، وهي الفترة التي وقعت فيها بلاد ما بين النهرين تحت الحكم الفارسي، إلا أن اللغة الأكادية لم تندثر، ليس فقط بسبب الكتابات المسمارية التي وصلتنا من حضارتها، بل لوجود بعض الكلمات الأكادية في اللغة العراقية الحالية.
تعد نصوص فارا (حوالي 2600 ق.م) أقدم دليل على اللغة الأكادية
مراحل تطور اللغة الأكادية
قسم المؤرخون تطور اللغة الأكادية إلى 3 مراحل هي:
-
المرحلة الأكادية
وتمتمد من حوالي 2800 حتى 2000 ق.م، وهي اللهجة القديمة التي كانت تستخدم في شمال بابل، وتكمن أهميتها في كونها اللغة التي كانت معتمدة في المراسلات الإدارية الرسمية في مراكز القوة في سلالة كيش، وتعد نصوص فارا (حوالي 2600 ق.م) أقدم دليل على اللغة الأكادية، وقد مرت اللغة الأكادية القديمة بمراحل 3 هي:
- الأكادية السلالية المبكرة
- الأكادية السرجونية
- أور الثالثة الأكادية
-
المرحلة البابلية
وتمتد من حوالي 2000 حتى 1000 ق.م، وهي اللغة الأكادية التي كانت شائعة في جنوب بلاد ما بين النهرين وتنقسم إلى 4 مراحل هي:
- البابلية القديمة (حوالي 1900 - 1500ق.م)
- البابلية الوسطى (حوالي 1500 - 1000 ق.م)
- البابلية الحديثة (حوالي 1000 - 600 ق.م)
- البابلية المتأخرة (حوالي 600 ق.م - 100 م)
وقد كان للغة الأكادية في هذه المرحلة أثر كبير على الحضارة؛ أدبها وتاريخها، حيث ظهرت النصوص الأدبية المتنوعة، كما استخدمت كذلك في المراسلات الإدارية، إلا أن ميزتها كانت تكمن في الأثر الذي خلفته على ما عاصرها من حضارات، وبالانتشار الكبير الذي كان لها، يعود ذلك بطبيعة الحال كما أسلفنا إلى ميلها إلى السهولة قليلًا وفك عقد رموزها حتى تكون متاحة لجميع الناس.
تسمى الكتابة الأكادية بالمسمارية أو الإسفينية ويعود ذلك إلى كونها كانت تكتب على ألواح من الطين بواسطة أدوات تشبه المسامير
-
المرحلة الآشورية
وتمتد من حوالي 1000 حتى سقوط الدولة الآشورية في القرن ق.م، وهي اللغة التي كانت تستخدم في شمال ما بين النهرين، وتنقسم إلى:
- الآشورية القديمة (حوالي 1900 - 1700 ق.م)
- الآشورية الوسطى (حوالي 1500 - 1000 ق.م)
- الآشورية الجديدة (حوالي 1000 - 600 ق.م)
استخدمت هذه اللغة أيضًا في المراسلات والمكاتبات الإدارية بالإضافة للعديد من النصوص الأدبية ونصوص ووثائق تجارية أيضًا، كما يبدو عليها التأثر بالغة الأكادية القديمة إلى حد ما.
اللغة الأكادية..لغة بلاد ما بين النهرين
كانت اللغة الأكادية هي لغة بلاد ما بين النهرين وبعد المراحل الكثيرة التي مرت بها وتطورت من خلالها عبر قرون من الزمان انتشرت لتصبح اللغة العالمية المستخدمة في دول الشرق الأدنى، وقد أثبت ذلك العديد من الألواح لكتابات مسمارية في سوريا ومصر باللغة البابلية، وعلى الرغم من بعض الاختلافات النحوية في اللغة ما بين بلدان الشرق الأدنى إلا أن الأساس يبقى واحدًا.
يدل هذا بشكل أو بآخر على الحرص الكبير الذي أبداه البابليون في التعلم ونشر العلم في كل البلدان المحيطة بهم بكل ما أوتوا من قوة وعزيمة، أضف إلى ذلك أن الإدراك الذي كان لديهم بأهمية ابتداع اللغة والوعي الذي تشكل لديهم حول ضرورة تبسيطها، يشير بشكل لا مواربة فيه إلى مدى الثقافة العالية التي حازتها الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين.
اللغة الأكادية لا تضم أصواتًا حلقية حسبما وصل إلينا عدا الهمزة والخاء اللذان ظهرا مكتوبين في النقوش التي وصلت من تلك الحقبة.
اللغة الأكادية الأقرب للغة العربية
تتشابه اللغتان العربية الأكادية مع اللغة العربية بأكثر من أمر، ومن أهمها:
- معظم كلماتها لها جذر ثلاثي.
- تجتمع اللغة الأكادية مع اللغة العربية بظاهرة الإعراب والحركات الإعرابية المرسومة على نهايات الكلمة، كعلامة الجر والرفع والفتح.
- تتبع اللغة الأكادية قاعدة تبعية الصفة للموصوف.
- العد باللغة الأكادية من 3 إلى 10 يخالف المعدود.
ومن الجدير بالذكر أن حروف اللغة الأكادية لا تضم أصواتًا حلقية حسبما وصل إلينا عدا الهمزة والخاء اللذان ظهرا مكتوبين في النقوش التي وصلت من تاريخ تلك الحقبة.
وتسمى الكتابة باللغة الأكادية بالكتابة المسمارية أو الإسفينية ويعود ذلك إلى كونها كانت تكتب على ألواح من الطين بواسطة أدوات تشبه المسامير، ولأن الرموز والحروف فيها تشبه المسامير كذلك، وقد كان عدد الرموز المسمارية كبيرًا في البداية؛ إذ بلغ ما يقرب الـ 2000 رمز في عام 3000 ق.م، على أن الأمر أخذ بالتناقص تدريجيًا إلى نحو 500 رمز في عام 1000 ق.م. عدا عن تغيّرشكل الرمز عبر الزمن، وتقوم الكتابة المسمارية على مبدأ كتابة الأصوات المنطوقة على شكل رموز تؤلف مقاطع في الكلمة المكتوبة.
ومن الملامح التي اختصت بها اللغة الأكادية "التمييم" الذي يقابله التنوين باللغة العربية، لكن الميم اختفت من حركة "التمييم" في اللهجات اللاحقة، وبقيت حركة الإعراب المطابقة للإعراب في العربية كما سلف، وتشير الألواح المسمارية إلى أن الكلمات الأكادية كانت تدون بالطريقة المقطعية، فيما اعتمدت 17 حرفًا صحيحًا صامتًا وهي:
- الحروف السنِّية (ت، د، ط، ن)
- الحروف الشفاهية (ب، ب، م)
- الحروف الحنكية (جـ، ق، ك)
- الحروف الصفيرية (ز، س، ش)
- الحروف الانسيابية (ر، ل)
- الحروف الحنْجرية (خ، الهمزة)
كما أن هناك تشابهًا كبيرًا في ضمائر المتكلم، والضمائر المنفصلة والمتصلة بين اللغتين الأكادية والعربية. والأسماء في اللغة الأكادية تؤنث وتثنّى وتُجمع من ناحية العدد والحركة الإعرابية والجنس والموقع في الجملة.
تعد الحضارة السومرية حضارة أرست قواعدها بين جذور الحضارات كلها لما لها من أثر كبير على ما لحقها من حضارات، وإن كنا ذكرنا في المقال علاقة اللغة الأكادية شاهدة الحضارة السومرية مع اللغة العربية فقط، فلا ينفي هذا العلاقة الوثيقة بين اللغة الأكادية واللغات الأخرى، إضافة إلى ذلك الإرث الحضاري الكبير الذي تداولته الحضارات بفضل ابتكار اللغة الأكادية.
في جداريته يقول محمود درويش "هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها"، واللغة أداة الفن والتعبير.. وقد كان أجدادنا السومريون على درجة من الوعي قادتهم إلى اليقين بأن السبب الأول في مقاومة الاندثار من وجه العالم هو الخلود من خلال اللغة، فابتكروها، وطوروها، وخطوا بها العديد من الآداب والعلوم التي ما زالت إلى الآن مثارًا للنقاش ومدعاة للدهشة والغرابة، غرابة تحاكي أساطيرها وحكاياتها.