ألترا عراق - فريق التحرير
لم تكن الأحزاب الكبرى المسيطرة على المشهد السياسي العراقي والتي تُعرف معظمها اليوم بقوى السلاح أو بالإطار التنسيقي، تمتلك سرديات تجذب بها جماهيرها سوى السرديات المذهبية والتخويف من "الآخر".
اتهمت قوى سياسية عبر أذرعها الإعلامية تظاهرات تشرين بالوقوف ضدّ الاتفاقية الصينية
وبينما استغرقت هذه القوى بهذا الملف طويلًا، كانت المشاكل الحقيقية التي تثير استياء الجماهير مجملها اقتصادية وتتعلق بسوء الخدمات وعدم توفر سبل العيش. وواجهت القوى احتجاجات واسعة في الوسط والجنوب، قابلتها بسردية "الاتفاقية الصينية" وما يرتبط بها فيما بعد بما يسمى مبادرة "الحزام والطريق" أو طريق الحرير.
اقرأ/ي أيضًا: مسجدي يتحدث عن سلاح الفصائل والربط الخليجي: نريد إحياء طريق الحرير
واتهمت هذه القوى عبر أذرعها الإعلامية والشخصيات الدينية المرتبطة بها عبر المنابر والمنصات التلفزيونية، تظاهرات تشرين بأنها "وقفت ضد الاتفاقية الصينية التي كانت ستعمر العراق" وذلك عبر إسقاط رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الذي وقع على الاتفاقية الصينية، حسب ادعائهم.
ادعاء تكذبه حقيقتان
ويحمل هذا الادعاء معلومتين مغلوطتين: الأولى هي أن الاتفاقية الصينية لم تلغى، بل ما زالت ماضية، وكانت أولى المشاريع المحالة التي ستنفذ وفق هذه الاتفاقية هي تسليم مواقع ألف مدرسة إلى الشركات الصينية لبنائها. وبدأ العراق بالفعل في إيداع أموال 100 ألف برميل يوميًا في الصندوق العراقي - الصيني المخصص لهذه المشاريع.
أما الثاني، هو ادعاء أن "الاتفاقية الصينية ستبني العراق"، حيث أن الاتفاقية الصينية عبارة عن مشاريع يختارها العراق بقيمة لا تتجاوز 10 مليار دولار فقط ولمدة 15 عامًا، وتُجمع هذه الأموال عبر اقتطاع إيرادات 100 ألف برميل يوميًا ووضعها في الصندوق العراقي -الصيني.
ومؤخرًا، تتداول مواقع التواصل الاجتماعي ومجاميع إلكترونية معلومات حول "طريق الحرير"، بوصفه "المنقذ لاقتصاد العراق" واعتبار ميناء الفاو البديل عن النفط، وهي معلومات وصفها متخصصون بـ"المبالغ بها"، وأنها جاءت في الكثير من الأحيان بدفع من "الماكنة الإعلامية المقربة من الفصائل"، كقضية تضرب من خلالها خصومها وتوهم الجماهير بأنها تمتلك الحل الاقتصادي للبلاد، عبر تفعيل الاتفاقية الصينية - المفعلة أصلًا - والانضمام لطريق الحرير، بالرغم من أن العراق غير موجود أساسًا على طريق الحرير في التقارير الصينية.
تعادل إيرادات قانة السويس السنوية رواتب شهر واحد فقط في العراق
ولا يجد مراقبون أية "مؤامرات" محلية أو خارجية تمنع العراق من الانضمام لطريق الحرير عبر عرقلة ميناء الفاو، كما تروج هذه القوى عبر شخصيات مرتبطة بها بشكل مباشر أو غير مباشر.
ويتم تداول أرقام "خرافية" تتعلق بطريق الحرير، من قبيل أن الصين ستقوم بصرف أكثر من 400 مليار دولار كمشاريع استثمارية في العراق، وهو رقم هائل ويعادل موازنة العراق لـ 5 سنوات دون عائد مادي من الممكن أن تحصل عليه الصين لاسترداد هذا المبلغ الكبير.
وفي وصف ميناء الفاو بأنه "بديل للنفط"، من الجدير بالذكر أن قناة السويس التي تعد المنفذ الرئيسي الأكبر للبضائع بين آسيا وأوروبا لا تتجاوز إيراداتها السنوية 4 مليارات دولار، وهو ما يعادل رواتب شهر واحد فقط في العراق، الأمر الذي يجعل الترويج لكون ميناء الفاو هو بديل عن النفط "كذبة"، فإذا كانت إيرادات ميناء الفاو في أحسن أحوالها ملياري دولار في العام الواحد وهو ما لا تحققه أكبر الموانئ العالمية، فإنّ هذا الرقم سيمثل 2% فقط من الموازنة السنوية للعراق التي يحتاج لتغطيتها نحو 100 مليار دولار.
لسنا في الطريق!
الباحث في الشؤون الاقتصادية رامي جواد أشار في إيضاح ورد لـ"ألترا عراق"، إنه "في 2015 تم طرح مشروع مدينة الفاو الاقتصادية للاستثمار في البنى التحتية من خلال مذكرة تفاهم بين حكومة حيدر العبادي وحكومة الصين، وتشمل مصانع للبتروكيمياويات ومصافي نفطية عملاقة إضافة لمناطق تبادل تجاري عالمية وبضمنها إكمال مشروع ميناء الفاو الحالي".
لم تدرج الصين طريق العراق - تركيا ضمن تقاريرها الصادرة بخصوص مبادرة الحزام والطريق حتى هذا اليوم
ويضيف: "وفق هذه المذكرة فأن المدينة تبنى بطريقة الاستثمار بأسلوب المشاركة، أي أن العراق لا يدفع أي تكاليف عن المشروع ثم تؤول ملكية جميع المشاريع إلى الحكومة العراقية بعد انتهاء فترة التعاقد التي قدرت بين (20 - 25) سنة وبمبلغ يصل إلى (450) مليار دولار، وهو الرقم الذي يتداوله العراقيون دون معرفة مصدره".
ويشير جواد إلى أنّ "المذكرة هذه تحولت إلى اتفاقية الإطار الاستراتيجي والتي وقعت بتاريخ 11 أيار/مايو 2018 بين وزير المالية العراقي بحكومة العبادي وجمهورية الصين، وتغير مفهوم المذكرة السابقة من أسلوب أستثمار الى أسلوب التعاقد (النفط مقابل الإعمار) وبقيمة لا تتجاوز (10) مليار دولار كحد أعلى".
ومن ثمّ جرى توقيع ملحق حسابي في تشرين الأول/أكتوبر 2019 من قبل حكومة عادل عبد المهدي لتفعيل الاتفاقية، إلا أنّ انهيار اسعار النفط وعدم تشريع قانون للموازنة لسنة 2020 أديا إلى عدم تفعيل الاتفاقية وإيداع مبالغ عن صادرات النفط للسماح للشركات الصينية بالمباشرة، بحسب الباحث.
وفيما بعد تم إعلان المباشرة بالعمل في الاتفاقية الصينية بعد التصويت على قانون الموازنة العامة والبدء بالمرحلة الأولى منها مثل مشروع بناء 1000 مدرسة في عموم العراق وباشرت الشركات الصينية حاليًا باستلام كافة المواقع في بعض المحافظات.
وحول مشروع طريق الحرير في العراق، يؤكد جواد أنه "لا توجد أية مباحثات بين حكومة الصين والعراق حول الموضوع، ولم تدرج الصين طريق العراق - تركيا ضمن تقاريرها الصادرة بخصوص مبادرة الحزام والطريق حتى هذا اليوم".
من جانبه، يعتبر الصحافي الاستقصائي المغترب رياض محمد الذي يكتب منذ فترة بموضوع طريق الحرير، بأنه "كذبة وشماعة للفساد والفشل أطلقتها أحزاب حكمت العراق منذ 17 سنة، وغطاء لاتهام كل معارض لهذه الأحزاب بأنه عميل، ونظرية مؤامرة جديدة يريدون بها أن تنسى الناس من هو الفاشل والسارق والقاتل الحقيقي، وهجوم ضد تشرين ودفاع عن نظامهم الآيل للسقوط".
الإسهام الصيني في المشاريع التي تنفذ داخل العراق أكبر من مساهمات الدول الأخرى ما ينسف ادعاءات وجود مؤامرة
وبينما تنقسم المبادرة الصينية العالمية بين "حزام بري وطريق بحري"، فإنّ العراق غير موجود في خرائط التقارير الصينية بمجال الطريق البحري، ما يجعل ميناء الفاو خارج حسابات طريق الحرير. أما الحزام البري، فهو يمثل استثمارات الصين في المشاريع المختلفة ولا سيما مشاريع الطاقة في دول العالم، وهو إجراء موجود بالفعل من قبل الجانب الصيني في الاستثمارات داخل العراق التي تقدّر بأكثر من 10 مليار دولار تقوم بها الصين فعليًا في العراق خلال عام 2021، بحسب تقرير لرويترز.
لا مؤامرات
ونقلت رويترز عن دراسة لجامعة فودان الصينية، أن العراق كان "الهدف الرئيسي لمبادرة الحزام والطريق" عام 2021، وتلقى تمويلًا بنحو 10.5 مليار دولار، من أجل مشاريع تشمل البنية التحتية ومحطات توليد كهرباء، حيث يشكل العراق إحدى أهم المحطات التي يمر عبرها "الحزام"، أو طريق الحرير الجديد كما يطلق عليه البعض.
وكشفت الدراسة التي أجراها مركز التمويل الأخضر والتنمية بجامعة فودان في شنغهاي، ونشرتها رويترز أن العراق حل في المرتبة الأولى في ما يخص عقود البناء في إطار المبادرة خلال العام 2021، تلته صربيا في المرتبة الثانية، وإندونيسيا في المرتبة الثالثة.
يتضح من التقرير، أن المشاريع الاستثمارية التي تقوم بها الصين في العراق، هي ضمن مبادرة "الحزام" البري، وبالنظر لحجم الاستثمارات الصينية الضخمة والمشاريع التي تنفذها في العراق، فهذا ينسف الأحاديث عن وجود عقبات و"مؤامرات" تبعد العراق عن المساهمات الصينية في بناه التحتية ومشاريعه، بل أنّ الإسهام الصيني في المشاريع التي تنفذ داخل العراق أكبر من مساهمات الدول الأخرى.
اقرأ/ي أيضًا:
مشاريع الربط السككي.. مخاوف من تحويل العراق إلى "محطة" لنقل البضائع