لم تدم فرحة زينة محمد كثيرًا بتخرجها من قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة المستنصرية ببغداد. زينة التي كانت الثالثة على دفعتها، تصورت لوهلة بعد التخرج أنها ستتعين على ملاك التعليم الثانوي الحكومي، وستبدأ رحلة تعويض أمها التي أضنتها تربيتهم هي وأخيها الصغير بعد موت والدها في تفجير عبثي طال سوق الخضار التي يعمل فيها.
تكاد أسعار الوظائف الحكومية في العراق تكون شبه معلنة، وهي تتفاوت ما بين وزارة وأخرى، حيث تتربع وزارة النفط على رأس قائمة الأسعار
إلا أن زينة صعقت حين قابلها موظف كبير في وزارة التربية بعد أن توسط لها جارهم الإعلامي لتلك المقابلة، قالت إن الموظف طلب منها ثمانية آلاف دولار ثمنًا لتوظفيها مدرسة ثانوية، بعد أن خفض ألفي دولار من السعر السائد "لأجل عيني جارهم الصحفي"، وفقًا لحديث لـ"الترا صوت".
اقرأ/ي أيضًا: موازنة العراق 2017..مكانك راوح
وتكاد أسعار الوظائف الحكومية في العراق تكون شبه معلنة، وهي تتفاوت ما بين وزارة وأخرى، حيث تتربع وزارة النفط على رأس قائمة الأسعار، التي قد تصل إلى 15 ألف دولار نتيجة رواتب الوزارة، التي تكون عادة مرتفعة قياسًا برواتب الوزارات الأخرى، تليها وزارة الكهرباء ثم وزارة التربية وصولًا إلى ذيل القائمة، الذي تقبع فيه الوزارات الخدمية التي غالبًا ما تكون التعيينات فيها وفق نظام الأجور اليومية.
رامي عبدالله، المختص بهندسة النفط، قال في حديث لـ"الترا صوت"، إن "الحصول على الوظيفة لم يتوقف عند المبلغ الذي يدفع لأول مرة، بل إنه يمر بثلاث مراحل، حيث يتم التعيين في بادىء الأمر وفق نظام الأجور ليتحول بعد مرور عدة أشهر إلى نظام العقود وبعد دفع (المعلوم)"، وأضاف: "بعد فترة أخرى يتم التفاوض مع ذوي الشأن في ديوان الوزارة على الانتقال إلى موظف دائم، وثمن هذا الدور يكاد ثابتًا وهو 4 آلاف دولار".
وتبلغ قوة العمل في العراق نحو عشرة ملايين موظف، يعمل ما يقارب الأربعة ملايين ونصف المليون منهم في القطاع الحكومي، حيث يبلغ مجموع مرتباتهم بحدود 41 تريليون دينار (نحو 34 مليار دولار) فيما يعمل الآخرون في القطاع الخاص دون أية ضمانات وتحت طائلة الطرد من العمل دون إنذار مسبق ودون تعويضات، ويضاف لهذا العدد قرابة 600 ألف موظف سنويًا، في ظل نسبة بطالة تصل إلى 30 في المئة، غالبيتهم من خريجي الجامعات.
الإجراءات الحكومية للحد من ظاهرة المتاجرة بالوظائف الحكومية خجولة جدًا، وتكاد أن تشكل عاملًا مساعدًا لانتشار الظاهرة. ومن تلك الإجراءات حصر التقدم للوظيفة الكترونيًا عبر استمارة يقدمها الموقع الخاص بالدوائر والمؤسسات المعنية. لكن تلك الاستمارات لا تعدو أن تكون وهمًا يضع المتقدم للوظيفة في دائرة انتظار حلم غير قابل للتحقيق ما لم يدفع مبلغًا قدره 500 ألف دينار لتحريك الاستمارة ووضعها ضمن دائرة التنافس المحسوم أصلًا لمن يدفع ثمن التعيين للمتنفذين في الوزارات أو لأحد الأحزاب الدينية المشمولة بالمحاصصة في تلك الوظائف.
الإجراءات الحكومية العراقية للحد من ظاهرة المتاجرة بالوظائف الحكومية خجولة جدًا، وتكاد أن تشكل عاملًا مساعدًا لانتشار الظاهرة
اقرأي أيضًا: الانتخابات المحلية في العراق..إلى التأجيل
وتؤكد شروق العبايجي، النائبة عن التحالف المدني الديمقراطي في البرلمان العراقي، أن ظاهرة بيع الوظائف مستشرية في جسد الحكومة العراقية. وأوضحت أن "المواطن يدفع 10 آلاف دولار مقابل حصوله على تعيين بدوائر الدولة"، لافتة إلى وجود "شكاوى تفيد بلجوء المواطنين إلى دفع 10 آلاف دولار لقاء حصولهم على وظيفة و500 دولار لفتح موقع المؤسسة التي تحتاج إلى تعيينات".
وتضيف أن "أكبر مشكلة في مؤسسات الدولة والتي لا يمكن السكوت عليها هي التعيينات ضمن الواسطة". وتبين أنه وفق قرار مجلس الوزراء رقم 1 تكون التعيينات معلنًا عنها في المواقع الرسمية للمؤسسات، وهذا يتعارض مع مضمون الموازنة المصوت عليها داخل البرلمان، التي تنص على أن تكون الأولوية في التعيين لأصحاب العقود والأجور اليومية، الذين تجاوزت عقودهم الثلاث سنوات، مشددة على ضرورة أن يكون القرار لتثبيت العقود. وتوضح بالقول: "هناك من يستغل علاقاته بالأحزاب المتنفذة ويأخذ مبالغ طائلة من أجل التعيينات وهذا يمثل خطرًا على أداء الدولة".
إيهاب عبدالرزاق، المتخرج من كلية الإدارة والاقتصاد منذ عام 2011، لم يدخل دوامة البحث عن وظيفة حكومية لأنه متيقن من عدم قدرته على دفع الثمن المطلوب، وقال لـ"الترا صوت"، وهو على باب محل الخضروات الذي يعمل به بأجر يومي زهيد، إنه "دون وظيفة ودون مجرد الحلم بالزواج وتكوين أسرة لأنه لا يملك تكاليف الزواج ومن ثم لا يمتلك القدرة على معيشة أسرة". ويتساءل "أي مستقبل ينتظرني وأنا أرى شبابي يذوي أمام عيني وسنوات العمر تتآكل في بيع الخضروات والأجر اليومي الزهيد".
هكذا فإن الوظائف الحكومية تدار من المتنفذين في المؤسسات الحكومية وأحزاب السلطة في العراق، ويكون الضحية الشباب الذين أصبحت شهاداتهم الجامعية محض ورقة معلقة على الجدران. وهذه الظاهرة تتفاقم يومًا بعد آخر نتيجة الفساد الذي ينخر في جسد الدولة العراقية، وليس ثمة أمل بالقضاء على تلك المافيات سوى بالقضاء على ظاهرة الفساد التي يبدو أنها ترافق السياسيين والأحزاب الممسكة بالسلطة، ما يعني أن القضاء على الفساد يستوجب القضاء أو تحييد تلك الأحزاب وأولئك السياسيين، وهذا الأمر يبدو بعيد المنال بالنسبة للعراقيين، على الأقل في المستقبل المنظور.
اقرأ/ي أيضًا: