09-ديسمبر-2021

(وليم بليك)

الشر في الشعر

جانب كبير من الشعر الذي كتبه الإنسان يقع في حقل الخير، ويدعو للحب والسلام والعدالة والمساواة أو يروج لذلك، وهذا ما تدربنا عليه منذ البداية، معتقدين أن الشعر يصنع تلك المثاليات التي نحتها الكائن البشري على الحجر قبل أن تولد اللغة. رُوض الشعر كما حصل الأمر مع غيره، لكن ثمة خيط من الشعر، هو مصدر الخطر الذي تخشاه السلطات التقليدية بأنواعها ومستوياتها المتعدّدة والمتنوعة، ذلك الخيط الذي تعرّض طوال تاريخه إلى نوع من التهميش أو أقيمت الحدود الأخلاقية عليه في أفضل الأحوال، الشعر الذي تعرض للطرد والذي يجب أن ينال حظه من الزوال، هوجم بصفته ملعونًا وشريرًا ومصدرًا للجحيم، فيما يعتبره البعض  المحرّك الأساسي الذي عبره انتقل الشعر من مرحلة إلى أخرى، والشعر المقصود هنا هو ذلك الذي يتناول: الجنس والهتك والشر، الأخير هو ما سندور حوله.

"فليس كمالُ المرءِ بالخيرِ وحدَهُ/ إذا لمْ يكنْ في المرءِ شيءٌ من الشرِّ"

 بيت شعري لابن شمس الخلافة من القرن السادس الهجري يرى فيه أن الشر يكمل الخير، ربما هكذا يرى الشعر الحياة دومًا، أطياف يتشابك داخلها الشر مع الخير مخرجًا ذلك الكائن، وهذا عكس ما يحدث عند غير الشعراء. 

النصوص التي تزدهر بالشر في المجمل تبدو إلى حد ما نوعًا من المقاومة

كتب كثير من الشعراء في موضوعة الشر لكن ليس بالمعنى الأخلاقي، وقد ذهب عديد منهم إلى جعل الشر مادة ملائمة للشعر ومركزية في مشغلهم الشعري، لم يضيع الشعر بالمجمل حقل الشر واستثمر ذلك المحتوى المحظور دينيًا وأخلاقيًا وحتى سياسيًا في جملة من النصوص التي أحدثت الفارق فيما بعد، لم تنصف النصوص المقدسة والعادات الاجتماعية الشر، لكن الشعر حاول ذلك، عبر التجارب هنا أو هناك.

اقرأ/ي أيضًا: وصفة الشعر والنجاة

يطمح بعض الشعراء لصناعة الشعر الموجه لخدمة قضايا أخلاقية واعتبارات اجتماعية، معززًا إياها و مكرسًا وجودها، فيما يرى البعض أن الشعر المؤثر غالبًا يأتي لكسر المهيمنات والانساق المعتادة، ذلك عبر أثارت عديد من الإشكاليات بضمنها وضع الشر ضمن حيزه المقبول وربما انحازت بعض التجارب نحوه بشكل واضح ومباشر، لا يتأثر الشعر في المعتاد والدارج أو هذا المراد منه على الأقل بالنسبة لعدد كبير من الشعراء عبر التاريخ، بل صار الشعر في بعض الأحيان الضد النوعي لطرق التفكير السائدة محاولًا إيجاد صيغ تفكير أكثر إثارة وخارج الأطر، فالشعر يملك طاقته من التحريض، كاسرًا بذلك أفق التوقع الجمعي، على الرغم من أن المألوف جنوح الكتابة نحو الخير والفضيلة وتمجيد الأخلاق وما إلى ذلك، خصوصًا عندنا تهيمن السلطات التقليدية على الخطاب الشعري وهذا قد حصل على امتداد كتابة الإنسان للشعر، لكن هذا عكس ما ذهب إليه أبو نواس مثلًا وغيره من عشرات الشعراء في تاريخ الشعر، وثمة ثلاثة نماذج هي التي لعبت دورًا في وضع الشر كعنصر فعال داخل النص الشعري الحديث بشكل جعلها نقاطًا مضيئة وحيوية في رحلة الأدب الحديث كله.

ربما تكمن القوة التاريخية التي حظي بيها كل من: لوتريامون، بودلير، رامبو في أنهم جعلوا من الشر مادة خفية للتحرك مرة بشكل مباشر، ومرة عبر الإيحاء، ضاربين بذلك الثقافة البرجوازية التقليدية في أعمق أهدافها وضوحًا، في بحثها الدائم عن الخير والعدالة وغيرها، منتجين نصوصًا تشتبك مع الخير والشر معًا، مشكلين نوعًا من التيار المضاد غير مخطط له، وليس هذا السبب الوحيد في اختيار هذه النماذج دون غيرها، بل ثمة انحياز شخصي، ربما كانت هذه التجارب الثلاث هي أول من وضع لي كلمة شر في الشعر، فقبلها يقرأ المرء المواد الشعرية الرائحة في المناهج والمقبولة في الأوساط الاجتماعية والدينية أيضًا.

تزدهر نصوص هؤلاء الشعراء في تمجيد الجحيم والشر ووضعه في سياق جمالي، أو ربما هذا الاحتفاء في القبح هو منطقة إغراء بالنسبة لهم مبتكرين عبرها جملة من الرؤى الشعرية والإنسانية الحيوية وهذا ما تراه غويناييل أوبري، أن "القبح يمكن أن ينطوي على جانب من حيوية الحياة"، وربما هذا الحيوية هي الهدف المنشود، بعد عشرات من التجارب التي تتجاور مع الخير، لكنها أي النصوص التي تزدهر بالشر في المجمل تبدو إلى حد ما نوعًا من المقاومة، مقاومة ذات قمية تاريخية وشعرية وجمالية أيضًا، فكما نعرف أن الشعر الفرنسي والأوروبي قد تغيّر بعد أعمال هؤلاء الشعراء الفرنسيين إلى الأبد، مما انعكس على الشعر الإنساني بالمجمل.

في مدخل كل شاعر منهم سيتعرض طريقك هذا المعنى الذي لا تكرسه المدراس أو الجهات الرسمية حيث سترى رامبو في الجملة الثانية من فصل في الحجيم يتسلح ضد العدالة ويشير للطعم المر للجمال، الجمال بالمعنى التقليدي، خالقًا بذلك جمل من نوع جديد حيال الجمال والعدالة: "ذات مساء، أقعد الجمال على ركبتي، فألفيته مرًا، فهجوته، وتسلحت ضد العدالة"، مستعرضًا تلك الذات القاسية التي هزت وجه الأرض.

فيما يفتتح أيزيدور دوكاس/ لوتريامون النشيد الأول من أناشيده الشهيرة "أناشيد مالدورور" برجاء أن يهتدي القارئ إلى طريق وعر عبر السم طالبًا منه أن لا يتوه، وأنه يرى ذلك نوع من الهداية ليست من النوع الديني أو الأخلاقي: "نرجو السماء أن يهتدي القارئ، المتجاسر وقد أصبح مؤقتًا ضاريًا أسوةً بما يقرأه، إلى طريقه الوعر والمهجور، عبر المستنقعات الموحشة لهذه الصفحات الكامدة والمليئة بالسم"، ثم يوضح لاحقًا أن مالدورور كان طيبًا وأدرك فيما بعد انه وُلد شريرًا وأخفى طبعه قدر المستطاع ثم وجد في مهنة الشر جو لطيف.

في أزهار الشر تتلاحق المشاهد البودليرية التي لا تطرد الشر كما هو السياق، فهو يفتتح على السبيل المثال أنشودة الجمال، يخاطبه ـ أي الجمال ـ "أيها الجمال: أجئت من أعماق السماء أم صعدت من هاوية/ في مقلتيك جحيم وألوهة/ يخلطان الخير بالأثم خلطًا مبهمًا".

تشير هذه الأمثلة إلى أن الشعر المتفرد والمؤثر لا يفرّق بين الخير والشر، ويرى في العدالة أو الأخلاق والقيم ما هي إلا حدود يمكن تجاوزها بل يمكن الحط والارتياب والخوف منها كما هو الأمر عند الماركيز دي ساد وهذا عكس ما تحث عليه الكتابة السائدة.

خارج إطار الشعر التعليمي والتربوي، لا يبدو شعرًا على توافق تام مع الخير والفضيلة، وثمة أمثلة عديدة في كل اللغات، كما أنه لا يروج لأي نوع من القيم التي تم رسمها عبر التراكم والتكرار، لسنا بصدد تقديم استعراض تاريخي للنصوص والتجارب التي صارت في الصفر تمامًا، أي أنها خارج الخير والشر كذلك، لكن يمكن أن نرى إن كتابة شعرية لا تنحاز لا للشر ولا للخير، وهذا ما يشير إليه الشاعر مهند يعقوب "قد تذهب اللغة إلى الخير أو إلى الشر هذا لا يهم في الغالب".

يرجو الشعر المؤثر أن يوضع بعيدًا عن التدريب الاجتماعي والثقافي والسياسي أيضًا، أن يصبح خطابًا خاصًا غير مكترث لهذه التقسيمات والتصنيفات الأخلاقية والدينية وربما هنا تكمن قوة الشعر. 

التصالح مع الشر

يجب أن نتقبل الشر كما نفعل مع الخير هذا ربما ما يطمح إليه الشعر، كي لا يتورط في وليمة تزدهر ببصاق المثاليين، ولقد تورط الإنسان بالعديد من المفاهيم التي هي من ابتكار الواعظين والحكماء والمثاليين والفلاسفة والأنبياء أيضًا.

تورط بالفضيلة والعدل والحق والمساواة ومن على شاكلتها، وربما يحتاج وقتًا طويلًا حتى يدرك هذا الكائن أن في داخله ما يرفض ذلك تمامًا، ليستسلم لقصة الحياة العجيبة تلك المنطقة الخصبة المليئة بالأخطاء والهفوات والمبنية بشكل طبقي كما لو أنها بناية من الممكن أن تنهار في أية لحظة.

عبر عدم المساواة القائم إلى الأبد والمرتبط بالطبيعة البشرية والمنادات الوهمية به تدخل الدين لثقب الدماغ البشري بقصة وجود العدل في مكان مجهول، تسلل الدين كمنقذ من الممكن أن يجد الحدود الدقيقة الفاصلة بين الصواب والخطأ بين الحق والباطل بين المساواة وعدمها، ربما كانت ثمة ضرورة تاريخية لذلك النزوع البشري نحو الغيب لكن عبره صارت الجريمة تسبب ضغطًا نفسيًا وتخيف الإنسان ترهبه تجعله يرتعد حتى يمكنه أن يشنق نفسه بعد الضحية، والجريمة هي تلك الرغبة التي تقع خارج كيس الحق والعدالة والمساواة والخير والصواب.

 ربما أسهم الدين في تجفيف بعض منابع الشر أو ما ينظر له على أنه شرٌ داخل شريحة واسعة من الأجساد الآدمية المنفلتة، لكنه على أية حال يبقى مجرد وهم، وهم لا بأس به، فقبالة كل حقيقة ينبغي أن ينمو وهم ما، وهذه الجملة فيها تناص مع ماركيز في قوله: لا ينمو أدب جيد إلا جوار أدب سيئ، هذا التجاور هو أحد منطلقات الحياة، إذ يتجاور الشر والخير كما لو أنهما واحد، اتحاد من النوع الذي يصنع الحياة في المدينة كما يفعل في الغابة، وما بقاء الانقسام قائمًا حتى اللحظة أي انقسام الشر والخير إلا جزءًا من الدراما البشرية المدوية التي تعبث بالحياة، وربما سينتهي هذا الانقسام لاحقًا ويصل الوعي البشرية إلى صفرية تتساوى فيها الخيارات ويصبح المعيار الأساس هو التماشي مع النفس كما هي، أو قبولها على أنها اندماج بين الشر بما هو شر والخير بما هو خير.

جاءت عصور العقل الذي حاول جاهدًا أن يروض الشر عبر دينامكية التفكير والمنطق والرفاهية والضمانات الاجتماعية وما تبعها من مفاهيم كالمواطنة والسلام وما شاكلها، لكن سرعان ما انهار ذلك الرهان أقصد رهان الحداثة على العقل لحظة انفجار هيروشيما بوجه الجميع، ممزقةً وجه الأرض الذي رسمه العقل، وارتد العقل على نفسه، مخلفًا هشاشة ما بعد الحداثة ولا مركزيتها وانفلاتها وضبابيتها ومن المقولات القديمة.

كل تلك المراحل التاريخية وكل الفلسفة والشعر كل الشعر واللغة والفكر والمعرفة لا يمكنها أن تروض سكينًا موضوعة على رقبة، وهذا ما اكتشفه الإنسان بالتجربة وبعد تجربة طويلة من محاولة إيقاف مجرى الشر أو تحجيمه، كل الأخطاء البشرية تبقى ممكنة في أنصع مناطق المعرفة والعلم، في الأكاديمية وفي الأوساط الثقافية وفي كل مكان تحدث جرائم لا يمكن تقبلها على النحو الديني والأخلاقي، لكنها مبررة من نواح أخرى نفسية مثلًا، فوكو يضاجع صبيانًا في مقبرة، وعدد كبير من عباقرة التاريخ مشتركين بشكل ما في جرائم غير سوية حسب النظرة السائدة التي تروج لها السلطات ورؤوس الأموال طوال التاريخ البشري.

يرجو الشعر المؤثر أن يوضع بعيدًا عن التدريب الاجتماعي والثقافي والسياسي أيضًا

العدالة والمساوة والحق باتت سرادق عزاء تنصبها طبقات تسحق وتهان وتداس رؤوسها عبر الدبابات والفيروسات اللغوية والالكترونية، وتحرز قيم العدالة والمساوة والخير والفضيلة على قوتها من تلك الطبقات التي هي في الغالب تنتظر ذلك المرشد العظيم الذي سيقلب المعادلة، إذ يراهن غالبية الجنس البشري على تلك العدالة المفقودة أو على الله تحديدًا الذي سيقيم العدل في لحظة ما، ويحقق المساواة حينها سيخف الإنسان في إنتاج الشر أو ستختفي المأساة البشرية، رهان أوقعهم في المزيد من النكوص والتلاشي أما رأس المال والتغول العظيم للمادة والطاقة، فهو مستمر في تمرير تلك الكتلة البلهاء من المفاهيم والقيم بكل مهارة وخفة مرة على شكل عدالة ومرة على هيئة عيش وفق المشتركات، لكن الشعر يبقى البالون المليء بالمضادات.

اقرأ/ي أيضًا: لا تفتح الباب للغرباء.. عن العلاقة المأساوية بين الشاعر وقارئه

تصاغ خيالاتنا عن الجنة والنار على أنهما مناطق بكر واحدة للشر المطلق وأخرى للخير المطلق، رغم أن كلاهما أي الشر والخير لا مطلق فيهما، ولا شك أن منبت هذه الخيالات هي الطبقات التي أصبحت ضحية أزلية لكل المفاهيم المثالية التي يديهما نوع من التخادم بين صناع المعنى وصناع العنف، لكن ثمة نوع من الشعر يقف في المعادلة صانعًا تمثلاته وخطابه النوعي المتقدم، وهذه ربما إحدى مهام الشعر، أي أنه ينتج معنى خارج العمى الأيديولوجي والثقافي السائد.

في عصر المثالية عصر الكسل والافتراء والافتتان بالفراديس الافتراضية كان الحكماء يضعون الحجارة فوق الحجارة من أجل بناء جدار سميك من المغالطات سرعان ما تلاشى أمام القوة الداخلية الأصيلة للإنسان، التي حرّكتها الفلسفة مرة والشعر مرات عديدة.

ليس هذا فحسب، بل ثمة تواطؤ تاريخي بين مئات المثاليين مع السلطات بشتى أشكالها من أجل تكريس هذا الوهم الذي هو الآن الحقيقة المطلقة التي يعيش في وحلها غالبية الجنس البشري.

ربما استطاع بعض المتفوقين عقليًا كسر هذا الخطاب في ميدان عديدة بضمنها الشعر، لكننا قد يحتاج الإنسان لقرون أخرى كي يعاد الاعتبار للشر البشري وقبوله على أنه جزء أصيل من اللعبة، الشرارة الأصيلة للحياة فيها نوع من الشر حتى حسب الرؤية الدينية، أو لنقل ربما جاء الوقت الذي يسخر فيه الإنسان العلمي والريؤي من الإنسان الديني الذي يرى في الفضيلة وسيلة في نيل ما هو أسمى لكن كل ذلك كان يحصل حتى تطرد المساواة والعدل والفضيلة وغيرها، وتحال إلى نوع قاس من الأثقال التي يحملها غالبية من تمر أجسادهم على هذه الأرض.

كل النظم الإجتماعية والثقافية، تود أن تقبض على الشر وتحذفه وتلغيه كما لو أنه لم يكن موجودًا منذ البداية، تضعه في المناطق المعتمة من النفس بينما الطر الشعر سؤاله: أما آن لها أن تخلق نوع من التوازن وتقرر أخيرًا أن الشر هو المحرّك الأساس للخير والحياة والندرة الحيوانية في هذا الحيز من الوجود على الأقل.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رسائل من شاعرٍ إلى قاتل

أمسِ جاءَ اللصوص

دلالات: