22-فبراير-2022

التطّهر من أدران الديكتاتورية هو ما يتيح للأفراد والجماعات تشكيل روابطهم الخاصة (Getty)

مقدمة

إنّ المجال الاجتماعي بوصفه الفضاء الفعّال لعلاقة الفرد والمجتمع، هو فعّالية الفرد بوصفه فردًا من جهة وبوصفه داخل حيز المجتمع من جهة ثانية، ولأن ما ينظِّم هذه العلاقة بنية من الإلزامات "إكراهات" هدفها لضم الفرد داخل مجتمعه من خلال شبكة من الإكراهات الخارجية والمعاني الداخلية للأفراد التي تصنع الانسجام بين الفرد والمجتمع، وهذا ما تزامن مع وجود الدولة. إن الإلزامات التي تمارسها الدولة على الفرد والمجتمع هي نفسها أسباب نشوء الدولة، وفكرة الدولة الحديثة بصفتها نهاية لحرب الجماعة ضد الجماعة حسب هوبز تقوم على فكرة الإكراه أو الإلزام الذي تمارسه الدولة التي تمتلك مشروعية سياسية على الأفراد والجماعة. 

منطق الأدب في نظرته إلى الواقع ليس منطقًا شموليًا منغلقًا على تصورات ثابتة بل يكون رحبًا مفتوحًا على إمكانات جديدة ومتغيرة لأنه يعتمد التخيل

هل يمكننا إذًا الحديث عن مجال أو فضاء اجتماعي دون دولة؟ ولأننا نتحدث هنا عن المجال الاجتماعي في ظل مئة عام من السرد في العراق التي هي المدة نفسها التي نشهد على تعثّر إنتاج الدولة الوطنية الحديثة فيها، فإننا هذه المرة غير معنيين بالشعر الذي هو الحامل الأساسي التقليدي لعلاقة الأمة وتطلعاتها بالأدب، وهذا ما اشتغلت عليه "القومية العربية"، إذ أفادت من تأثير الشعر كثيرًا في تعزيز مشروعها، لكننا الآن أمام حامل تخيّلي أكثر شمولًا ودقةً ووضوحًا، هذا الوسيط الحامل صار أكثر نشاطًا ومنهجيةً، هو عالم المدينة الجديدة التي تبلورت بعد نشوء هياكل الدولة الحديثة في منطقتنا وهمومها، هو إذًا عالم السرد.

اقرأ/ي أيضًا: قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (1ـ5)

ولأن الأمة والهوية بوصفهما يشكلان الدافع لعلاقة الذات مع الآخر أو الثيمة التي نصنع من خلالها تصورنا عن المجتمع الذي نعيش فيه، هما العناصر الثقافية التي تشكل المحرك الجوهري للمجتمع، هذه العناصر هي بناءات مخيالية وسرديات تشكل المعنى لاجتماع الناس، ولكن ليس بوصفهما خيارًا طبيعيًا يثبّت الرؤية إلى المجتمع والثقافة "الأمة" عند تصور واحد تنعدم فيه إمكانيات التخيل، بل النظر إلى عناصر الثقافة هذه بوصفها ثيمات "متخيلة" مفتوحة الإمكانات للتشكّل هو ما يجعل فضاء السرد أكثر حرية وجدوى في اختبار إمكانات التقارب وصناعة الهاجس الوطني.

وبالعموم، أنّ تصور الأمة بصفتها مجتمعًا متخيلًا يعتمد في بعض منه على الأدب يحتاج لبعض النقاش، فالافتراض أن المجال الاجتماعي تشكِّله ثيمات ثقافية متخيلة وليست ثيمات طبيعية أثنية، وهو ما يصنع للسرد مناخًا نشطًا لتجريب إمكانات مختلفة للتوحيد الوطني وصناعة هوية ثقافية جامعة، كذلك النظرة الطبيعية الجوهرية للمجال الاجتماعي تمثل نظرة أحادية للواقع يفلت منها عناصر مختلفة للتشكل والاندماج، لا يأخذ فيها الأدب عمومًا مساحته ولا يمارس منطقه الخاص والمنفلت من أي عقال شمولي؛ لأن منطق الأدب في نظرته إلى الواقع ليس منطقًا شموليًا منغلقًا على تصورات ثابتة، بل يكون رحبًا مفتوحًا على إمكانات جديدة ومتغيره لأنه يعتمد التخيل. وإذا ما اعتمد بناء الأمم على نظرة علمية، فيسكون أداة يسيرة للشمولية حسب حنة أرندت لأن هذه النظرة تتقاطع مع الواقع. يشترك الأدب في صناعة سرديات المجال الاجتماعي وفق منطقه، واشتراكه في صناعة هذا الهاجس هو اشتراك أصيل. ولأن سرديات "الدولة" عندنا مثلت النظرة الثقافية التقليدية في صناعة الأمة ومجالها الاجتماعي باعتمادها على الهياكل العمودية الأيديولوجية، قومية كانت أو أثنية أو طائفية، فهل مثلت الأعمال السردية عندنا منذ المحاولة الأولى قبل مئة عام  المقاومة لمنطق السلطة في محاولاتها الدائمة لتشكيل المجال العام للأمة حسب مزاجها الأيديولوجي؟

مدينة الزعفران.. هوية مدينة من حكايات

في مجموعته القصصية "مدينة الزعفران" التي أُعيدَ طبعها في دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد عام 2011، هذه المجموعة التي رفضت الانضواء تحت أية خيمة تجنيسية، يعدّها القاص والروائي عباس خلف علي سيرة مدينة، وهي عبارة عن مجموعة من القصص تصح أن تكتفي بذاتها مع ما يجمعها من خيط واضح يلف هذه المجموعة برباط موضوعي رؤيوي وعضوي، هي رحلة المدينة من خلال حكاياتها وأساطيرها من خلال تبعثرها وأنقاضها، تداخل الأمكنة والأزمان في هذه القصص من خلال شخصية "إبراهيم الزعفران" البطل المتمرد الأسطوري الذي قاوم حصار الدولة العثمانية في واقعة (غدير دم) عام 1882 والذي استمر لأيام وانتهى بدخول الوالي العثماني (سليمان ميراخور) المدينة بعد قصفه المركّز للمدينة وأسوارها وأسره لزعيم المتمردين "إبراهيم الزعفراني" .

تمثل حادثة إبراهيم الزعفراني في بداية القرن التاسع عشر نقطة ارتكاز رمزية يضعها الكاتب تعبيرًا رمزيًا عن تصورات المدينة الخاصة عن نفسها، تصورات المدينة داخل أسوارها فقط، يضع الكاتب هذه التصورات مقابلًا موضوعيًا ـ على شكل تناصات يستدعيها بأزمان وحوادث متعددة، سواء في القرن التاسع عشر أو في نهاية القرن العشرين أو حتى في الزمن البابلي ـ مقاومًا  لأي تصور سلطوي عن هذه المدينة، سواء أكانت تصورات الهيمنة عثمانية أم ديكتاتورية.. استحضار شخصية إبراهيم الزعفراني بمحمولاتها الأسطورية بشكل شبحي داخل متون المجموعة القصصية التي تشكّل حسب وصف الكاتب بأنها سيرة لهذه المدينة يمثل استحضارًا لهامش المدينة الذي يحاول أن يتشكل بصفته هوية لها تصوراتها الخاصة ومن ثمّ فضاؤها الخاص.

 في قصة "المطحنة" يصف الكاتب التداخل في أنماط الهيمنة التي توالت على حكم المنطقة وهذه البلاد على وجهة الخصوص وكذلك المدينة: "ثم دخل صالته العريضة المزدانة بصور الباشوات والفارمانات التي حصل عليها من خلال قبضته الفولاذية، كانت أصوات البلدوزرات تتعالى في كل مكان وارتطام الأحجار المهشمة المتهاوية لأبنية سابقة، لم يتوقف لحظة هبوب غبارها المترب بوجه الشرفات والسطوح البائسة بينما الأذرع الحديدية ذات الأفواه المسننة كسلحفاة واصلت مد أسلاكها الآلية لتمشيط بقايا الذاكرة". 

هنالك علاقة يحاول النص أن يفضحها ألا وهي علاقة الهيمنة بذاكرة الشعوب، الذاكرة تعني أن هناك مشتركات بين الناس يجتمعون عليها بشكل اعتباطي تشكلها الشواخص المادية والمعنوية من عمارة ومواقف إنسانية وغيرها من عناصر الانسجام التي يرتبط من خلالها الناس مع بعضهم البعض، وهذه تمثل سردية جامعة اعتباطية، تحاول الديكتاتوريات تذويبها وقتلها وفرض سرديتها ورؤيتها الأحادية، وهذه من تقنيات السلطات المركزية التوليتارية؛ إذ أنها تحاول دائمًا؛ إذا ما أرادت أن تهيمن على المجال لاجتماعي، فإنها تجنح إلى تحويل الناس إلى ذرات ليس يجمعهم أي هاجس سوى الذي تتبناه هذه السلطات حسب حنة أرندت، إذ لم يتغير أي شيء من منطق السلطات الحاكمة في هذه المنطقة، وكل سلطة تحاول أن تمحي ذاكرة المدينة، سواء كانت سلطة أمبراطورية دينية أو سلطة ديكتاتورية أو طائفية أو حتى سلطة قبلية صحراوية، فعندما كانت مدينة كربلاء لها وضع يشبه الحكم الذاتي في القرن التاسع عشر وما قبله، ولأجل فرض الهيمنة والسلطة المركزية العثمانية حاصروا المدينة ودمروا ذاكرتها، وكذلك الحال عندما اقتحم البعثيون المدينة، إذ ركزت معاولهم على تهديم هوية المدينة المعمارية، وهو ضرب معنوي ورمزي للمدينة.

سردية الدم في تأسيس الفكرة الكربلائية ترتبط بسردية الألم عند الشيعة عمومًا

يبحث (الزعفراني) عن السرديات التي شكّلت مدينته: "أنت هنا في هذا المحيط الضيق من هذه الغرفة الصغيرة تستطيع أن تقف على زمن هذه المدينة، تاريخها شخوصها، حوادثها، ثم قطب حاجبيه وأردف بعد صمت، استشعرت من خلاله ثمة بوح سري يحاول تثبته في ذهني لا بد أن تحرص على هذا الاهتمام الذي ولجته بمحض إرادتي، رغم شحة الرزق، كنت لا أفرط في أن أقتني كتبًا أو سيرة تتحدث عن هذه المدينة، هي أم تبدأ باكتشاف مثير لرحالة أو مركز هام لعبور القوافل، إنما تكونت بفعل بقع دم، يا لها من مدينة غريبة". 

اقرأ/ي أيضًا: قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (2ـ5)

نحن أمام سردية تحاول فرض نفسها، سردية الدم في تأسيس الفكرة الكربلائية ترتبط بسردية الألم عند الشيعة عمومًا، وهذه سردية شكّلت نمطًا من الهوية، انخرط فيها الشيعة بوصفهم ثيمة مقاومة. الألم عند الشيعة قيمة سردية بما أنه مرتبط بقضية دينية، ألا وهي استشهاد الإمام الحسين، فإنها تعمل بصفتها محركًا إيجابيًا لإنتاج الهوية الدينية الثقافية. شكل الألم لهذه الهوية معاني المقاومة؛ إذ تصنع هذه السردية تناصاتها المستمرة في مواجهة أي سلطة تحاول الهيمنة عليها، فيتمّ استدعاء الألم بصفته رؤية تناصيّة تعمل محركًا إيجابيًا لتفعيل هذه الهوية الثقافية لمواجهة سرديات السلطات على مر التاريخ.

لا يكتفي القاص بالتشبث بسردية الألم التأسيسية بصفتها محاولة لصناعة معنى ثقافي تعويضي عن الاستلاب الذي تتعرض له الهوية الثقافية، فهو في محاولة إعادة إنتاج الذات الجماعية خارج فكرة الألم. يحاول القاص توسل وسائط جديدة لإنتاج معاني ثقافية تداوي ركام المدينة وتعالج استلابها بسردية حيوية. في قصة "مقابض الليل" وفي حوار بين الزعفراني والشيخ (ذو الرائحة الزكية)، يقول الشيخ إنّ "المانخوري غادر المدينة ونصف السكان ماتوا بالوباء الذي هجم عليهم كالبعوض وأصبح نصفهم الآخر يعيش على أنقاض الحيوانات البرية، وإن الفاجعة لم تزل تنهش في نفسها كالنار. ثم أخذ يعد بأصابعه كأنه يصنع شروطًا للمحنة: افتح لهم نهر الحسينية، أجعل ماءه المقدس يمر أمام تخوم بيوتهم ليتطهروا من الأدران والأوبئة الفاشستية". 

الشيخ، ذو الرائحة الزكية، يبدو أنه يشبه المدينة كثيرًا بروائحها وأبخرتها، أو أنه روح المدينة الذي تبحث عن خلاصها بتطّهرها بماء النهر من أدران الدكتاتورية وأمراضها التي تفتك بالناس فتذرّهم جماعات وأفراد ليس لتجمعهم معنى، فالتطّهر من أدران الديكتاتورية هو ما يتيح للأفراد والجماعات تشكيل روابطهم الخاصة بشكل غير مستقطب، ومن ثمّ هذه الحرية هي من تتيح لهم إنتاج مجال اجتماعي ممتلئ بالمعاني التواصلية وهو ما ينتج المعنى من اجتماع الناس.

مثلت مجموعة (مدينة الزعفران) القصصية برمزيتها العالية وتداخلاتها التناصيّة الغريبة، رؤية محلية عن هوية المدينة تحاول أن تتشكّل سردية لها محتواها الثقافي عن المجال الاجتماعي للمدينة، تستحضر التاريخ وتدمجه بالحاضر صانعةً بذلك سردية تعمل بوصفها معادلًا موضوعيًا عن سرديات السلطات الاستلابية. كتبت قصص هذه المجموعة بين أعوام (1994_1999م) وكانت استجابة ثقافية لواقع التصدّع الثقافي والتشتُّت الهوياتي الذي أنتجته السلطات المتعاقبة على حكم هذا البلد. نحن إذًا أمام استجابة محلية لصناعة سردية متخيّلة لهذه المدينة تشكّل مقاومة موضوعية لسرديات السلطة من جهة، وتؤشر لغياب المعنى الثقافي الجامع لهوية المواطنة من جهة أخرى.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (3ـ5)

قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (4ـ5)