قبل غزو نظام صدام حسين للكويت في 1990، كان العراق قد حقق اكتفاءً ذاتيًا من الخضار والفواكه والحليب، ولم تشكل هذه المواد قبل 1988 سوى 6%من الطلب الداخلي، لكن بعد العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليه، تدهور الإنتاج الزراعي، وصارت البلاد تعاني من التبعية للخارج فيما يتعلق بالمنتوجات الزراعية، وخاصة الحبوب، ومن 600 مزرعة لتربية الدواجن، انخفض العدد ليصل عام 1998 إلى 23 مزرعة فقط، ومن 15.7 مليون رأس من المواشي والأغنام، هبط العدد إلى 9.4 مليون، نصفها مصاب مريض.
هيمنت شركتان أمريكيتان على قطاع الزراعة في البلاد بقرار بريمير بعد 2003، وحققتا أرباحًا طائلة على حساب المزارعين العراقيين عبر "مؤامرة" البذور المعدلة جينيًا
رغم ذلك، يشير الباحثون في هذا المجال، الى أن الدولة كانت مهتمة بالزراعة، عن طريق خطط سنوية أعدتها وزارة التخطيط والمجلس الزراعي الأعلى، فوفرت المياه والكهرباء والبذور المحسنة والعلف والمبيدات والأسمدة الكيماوية، وبنت مصانع لإنتاجه وحتى تصديره.
اقرأ/ي أيضًا: قدرة العراقيين الشرائية.. من مغامرات صدّام إلى فقدان 790 مليار دولار!
ولكن، بعد أن نجح الغزو في الإطاحة بنظام صدام حسين، اتخذ الحاكم المدني الأميركي للعراق بول بريمر 100 قرار بخصوص البلاد، أوكل القطاع الزراعي في أحدها، الى شركتين أميركيتين "هيمنتا" عليه وحققتا أرباحًا طائلة على حساب المزارعين العراقيين، وعلى إثرها وجهت إليه اتهامات بتدمير الزراعة العراقية.
تقول الناشطة البيئية الأميركية من أصل عراقي داليا وصفي، في تقرير نشره موقع Mint Press News الأمريكي في 13 آيار/مايو 2016، إن "بريمر أصدر 100 أمر حددت جهود إعادة اعمار العراق، ومن بينها ذاك المرقم 81 الذي دمر قطاع الزراعة"، مبينة أنه "أوكل مصير القطاع الى شركتي مونسانتو Monsanto العملاقة لتقنية الحيوية وإنتاج البذور، وكارجل اند داو كيميكال Cargill & Dow Chemical للتصنيع الكيمياوي والزراعي".
توضح وصفي، أن "هذا الأمر لم يسمح للمزارعين العراقيين بخزن البذور أو تبادلها بينهم، كما لم يسمح لهم أيضًا بإعادة زراعة ما حصدوه من بذور، ما أدى، فضلًا عن عوامل أخرى، منها الحصار الذي كان مفروضًا على العراق، إلى انهيار تصنيع البذور في البلد"، لافتة الى "قيام (مونسانتو) الأميركية بتسويق بذور معدلة جينيا للعراق، يتعذر على المزراعين إعادة زراعتها مجددًا بعد جنبي المحصول"، فيما تؤكد أن "الأمر 81 فتح الباب على مصراعيه أمام شركات زراعية عملاقة مثل لجني أرباح طائلة من خلال انتاج ذلك النوع من البذور".
لا يقف الأمر عند هذا الحد، اذ تشير الباحثة الأميركية، التي زارت العراق في 2006 وتجولت في البصرة، الى أن "إدارة الرئيس بوش عينت حينها، دانيل امستوتز، نائب رئيس شركة كارجل للصناعات الكيمياوية وتصنيع البذور، للإشراف على مهمة الهيمنة على القطاع الزراعي العراقي وجعله بمثابة مختبر لتطبيق تجارب ما تنتجه الشركة من بذور معدلة جينيا"، مشددة في خطاب سابق لها أمام الكونغرس أن العراق أصبح "أسوأ حالًا بعد الغزو مما كنا نتوقع".
مسؤولو المحاصصة.. على خطى بريمر
بناءً على المحاصصة الطائفية التي أعتمدها بول بريمر في توزيع السلطة والمناصب الوزارية على المشاركين في العملية السياسية، تولى قطاع الزراعة مسؤولون عديمو الخبرة في هذا المجال، فلم توضع أي خطة منطقية لإعادة الحياة إليه، ولم توفر المستلزمات المطلوبة للفلاحين، وفق ما تتفق عليه عدة بحوث لأكاديميين مختصين في الشأن الزراعي، ومنهم الدكتور جميل عبد الله.
واصل المسؤولون عن القطاع الزراعي بعد سلطة الاحتلال تدمير القطاع وكأنهم "أدوات لتنفيذ خطة زراعية لخدمة دول الجوار على حساب العراق"
منذ 2003، تتبع الحكومات المتعاقبة سياسية "الباب المفتوح" أمام المنتوجات والسلع الاجنبية، الأمر الذي أدى الى إغراق السوق المحلية بها، ومنافستها "غير المتكافئة" للمنتجات الوطنية، في ظل اتهامات لبعض وزارات الدولة بـ"تعمد ضرب القطاع الزراعي والثروة الحيوانية في العراق".
يقول عبد الله في بحث نشرته المؤسسة العراقية للتنمية والتطوير، إن "أحدًا من المسؤولين الجدد لم يزر حقلًا زراعًيا ولا مزرعة خاصة للإطلاع على أوضاع الزراعة"، مستغربًا بالقول: "وكأن المشاركين في العملية السياسية أدوات لتنفيذ خطة زراعية لخدمة دول الجوار على حساب العراق".
يبين عبد الله، أن "وزارة الزراعة لم تضع خطة للموازنة وحماية المستهلك والمنتج من تقلبات السوق، ولم تدعم الزراعة إطلاقًا، ولم تشجع أصحاب المشاريع الناجحة عبر تقديم ما يحتاجون اليه لتحسين منتوجهم".
في 14 شباط/ فبراير الماضي، نقلت وكالة "رويترز" عن مصدر في وزارة التجارة قوله، إن الوزارة تسعى لشراء ما لا يقل عن 50 ألف طن من القمح في مناقصة عالمية، في وقت تكتفي البلاد فيه ذاتيا من المنتجات الزراعية والحبوب. وأشار المصدر، الى أن آخر موعد لتقديم العروض في المناقصة هو الرابع من آذار/ مارس 2019، على أن تظل العروض سارية حتى العاشر من الشهر ذاته.
في تعليقها على الأمر، أكدت لجنة الزراعة في البرلمان وجود جهات تسهل استيراد منتجات زراعية بالتزامن مع أيام حصادها في العراق، لـ "ضرب القطاع الزراعي والثروة الحيوانية من خلال خطط وأساليب ملتوية"، مستغلة عدم تفعيل قانون حماية المنتج المحلي لعام 2010، وغياب الرقابة.
بعد الغزو وسلطة الاحتلال والمحاصصة، تولت دول الجوار دور تدمير قطاع الزراعة العراقية بقطع المياه وتحويل مجرى الأنهر لضمان البلاد سوقًا لمنتجاتها الزراعية
الكثير من المشاريع الزراعية والثروة الحيوانية تعرضت منذ 2003، إلى كوارث بعضها طبيعية كالجفاف رغم تسبب دول الجوار به، وأخرى يراها المتضررون "متعمدة" كان آخرها نفوق ملايين الأطنان من الأسماك في منطقة الفرات الأوسط، خلال العام الماضي، رغم نفي الجهات الرسمية لذلك، و"اتهام" فايروسات ناتجة عن خطأ في تربية الأسمال بالوقوف وراء الكارثة.
دفع للاستثمار!
في 2017، أعلن الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة الزراعة، أن نسبة الأراضي الصالحة للزراعة حتى ذلك العام، بلغت أكثر من 23 مليون دونم، مجموع المزروع منها 11.4 مليون دونم، وقبلها بعام واحد، كشفت لجنة الزراعة البرلمانية حينها، أن العراق يستورد أكثر من 75% من الخضروات والمنتجات الحيوانية.
نتيجة لكل ما سبق، وإضافة للسياسات المائية الايرانية والتركية التي أدت الى زيادة نسبة الملوحة والتصحر، ببناء السدود على منابع دجلة والفرات، وتحويل مجرى الأنهار نحو أراضيهما، فأن كثير من المزارعين فضلوا، في السنوات الأخيرة، انشاء مشاريع استثمارية أخرى غير الزراعة على أراضيهم، فيما توقع مؤشر الإجهاد المائي العالمي، أن العراق سيكون "أرضًا بلا أنهار بحدود 2040".
وعلى الرغم من منع الحكومة الحالية استيراد عدة محاصيل زراعية متوفرة محليًا، لكن نواب يؤكدون دخولها إلى العراق عبر المنافذ والمعابر "غير النظامية" في إقليم كردستان، فيما تستعد بغداد لإطلاق خطة إستثمارية واسعة في مجال الزراعة تتضمن طرح نحو 20 مليون دونم شمال وغرب البلاد للاستثمار، على دول خليجية من بينها قطر، لـ"توفير فرص العمل وتنشيط السوق المحلية"، بعد أن دمر تنظيم "داعش" الكثير منها خلال سنوات سيطرته عليها.
الصناعة.. بريمر مرة أخرى
قطاع الصناعة هو الآخر لم يكن أقل تضررًا من مجال الزراعة، إن لم يكن أكثر منه مأساةً، فقبل 2003، كانت إيرادته تمثل أكثر من 14% من الناتج القومي، وحقق اكتفاءً ذاتيًا جعل موظفيه يعيشون في حال أفضل من العاملين في القطاعات الأخرى، لكنهم بعد الغزو وحتى أعوام قليلة كانوا يتظاهرون وسط بغداد لإنقاذهم من "الجوع"، بعد أن صارت الوزارة تعاني الافلاس، ما حال دون دفع رواتبهم لأشهر عدة.
بلغت إيرادات قطاع الصناعة في العراق قبل 2003 14% من الناتج القومي بوجود نحو 178 ألف مصنع، وحقق اكتفاءً ذاتيًا، لكن بعد الغزو كان موظفو القطاع يتظاهرون لانقاذهم من "الجوع"
عدد المصانع التي كانت تعمل بكل طاقتها الإنتاجية قبل الغزو الأميركي للعراق، تقدر بنحو 178 ألف مصنع، تتوزع ملكيتها بين الدولة والقطاعين المختلط والخاص، قبل أن يتعرض الكثير منها للدمار بفعل العمليات العسكرية، فضلًا عن تعرض الكثير من الكفاءات العاملة فيها، وخاصة التصنيع الحربي، للاغتيال على يد مجهولين في حوادث وقع بعضها أمام أبواب تلك المصانع أو بالقرب منها، وهجرة آخرين.
بدأ مشوار تدهور الصناعة العراقية، وفق مختصين، عندما خفض بريمر الرسوم الجمركية على السلع المستورة إلى 5%، أعقبه تدهور أشد عندما تولى قيادة هذا القطاع مسؤلون لا علاقة لهم به، فرضتهم المحاصصة الطائفية، فضلًا عن وجود مكاتب اقتصادية لبعض الأحزاب تستغل مؤسسات الدولة للحصول على أموال.
اقرأ/ي أيضًا: فقدان السيادة والإفقار.. اقتصاد العراق يشهد على 16 عامًا من خراب الاحتلال
أما من كان يمتلك خبرة من أولئك المسؤلين، والرغبة بالعمل لصالح الصناعة الوطنية، فهو "ممنوع من ذلك"، بحسب وزير الصناعة السابق محمد صاحب الدراجي، الذي كشف عن شرط غريب يُفرض على أي شخص يتسلم الوزراة. قال الدراجي في تصريح صحافي، إن "البنى التحتية في وزارة الصناعة جيدة جدًا للبدء بعمليات التصنيع سواء المدني أو الحربي، لكن هناك عملية مقصودة ومتعمدة لإفشال الصناعة المحلية".
وأضاف الوزير السابق، أن "الوزير إذا كان يرغب بتقديم منجز في هذا المجال، يقولون له لا نريد منك شيء سوى عدم تشغيل المصانع"، مؤكدًا أن عدد المصانع المغلقة بلغ 10 آلاف مصنع أهلي، وأكثر من 300 حكومي، بسبب غياب الدعم وحماية المنتج المحلي أمام المنتجات الصينية والسعودية والإيرانية وغيرها"، ملمحا إلى تورط نواب ومسؤولين كبار في هذا الأمر.
بدأ مشوار تدهور القطاع الصناعي بقرار بريمير الذي خفض الرسوم على السلع المستوردة إلى 5%، فيما بلغ عدد المصانع المتوقفة 10 آلاف مصنع وفق وزير الصناعة السابق، وتميل التبادلات التجارية بمجملها لصالح دول الأخرى، كإيران وتركيا والسعودية وغيرها
التبادلات التجارية للعراق، كلها تميل لصالح الدول الأخرى، باستثناء تصديره للنفط، فيما تتخذه عدة دول سوقًا أساسية لمنتجاتها، ومنها إيران التي تعده رئة اقتصادية تتنفس عبرها من العقوبات الأميركية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي و"دعمها للإرهاب"، خاصة وأن العراق كان أكبر المستوردين للسلع الإيرانية وطاقتها الكهربائية في العام الماضي بقيمة 11 مليار دولار، وسط سعيها لزيادة الصادرات إلى 20 مليار دولار، وهو ما تطمح إليه تركيا أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: