"كذلك أخذ هذا الخنزير البري يشن هجمات ضارية على قطعان الماشية، فلم ينج منه لا الرعاة ولا كلابهم، ولم تفلح الثيران شديدة البأس في حماية القطعان التي تحرسها، وكان الناس يهربون منه متفرقين هنا وهناك، ولا يحسون الطمأنينة إلا حين يجتمعون خلف أسوار المدينة، وظل الحال على ما هو عليه حتى اجتمع ملياجر مع جملة من الأبطال وحّدت بينهم الرغبة في نيل المجد والشهرة بالقضاء على هذا الوحش الرهيب".
لم يكن الخنزير ذاك الحيوان العادي، كان دائمًا ما يوصف بالسوء والتوحش، كان له مُحبّون وكارهون، والطرفان يصلان حدّ التقديس أو التدنيس
هذا النص مأخوذ من كتاب التحولات أو "مسخ الكائنات" للشاعر الروماني أوڤيد - توفي عام 18 ميلادية - الذي يتحدث عن الميثولوجيا اليونانية والرومانية، والذي يذكر أنه على مرّ التاريخ، لم يكن الخنزير ذاك الحيوان العادي، كان دائمًا ما يوصف بالسوء والتوحش، كان له مُحبّون وكارهون، والطرفان يصلان حدّ التقديس أو التدنيس، كان مخلوقًا تصنعه أو ترسله الآلهة الغاضبة مثل قاتل مأجور أو أداة انتقام تدميرية. حتى هو لم يكن يُقتل ليُترك، كان دائمًا ما يحتفلُ بقتلته الكارهون والمحبون، أما مهمة صيده أو بالأحرى قتله، كانت دائمًا وأبدًا من نصيب الأبطال المُخلّصين، الساعين نحو المجد العظيم.
اقرأ/ي أيضًا: هل يلزمنا أن نثقَ بالتاريخ؟
لم يكن لغز الخنزير لغزًا عاديًا، ففي كتاب مقدسات ومحرمات يكتب مارڤن هاريس نصًا يبدو أن سوء الفهم يصيبه بشكل كبير "ومضى نبي العبرانيين في طريقه مرة في سفر التكوين، ومرة في سفر اللاويين، ليعلن أن الخنزير نجس، وأنه بهيمة ستسبب التدنس إذا جرى تذوقها أو لمسها، وبعد قرابة 1500 سنة قال الله لنبيه محمد القول نفسه عن الخنزير بالنسبة إلى أتباع الإسلام".
ويبدو أن وجهة نظر هاريس هي وجهة نظر عامة عند أغلب الباحثين، فيما يخص فكرة كراهية اليهود والمسلمين للخنزير. لكن المشكلة أن الله "لم يقل الكلام نفسه" كما يعتقد هاريس أبدًا.
تُعلن التوراة "إِلاَّ هذِهِ فَلاَ تَأْكُلُوهَا مِمَّا يَجْتَرُّ وَمِمَّا يَشُقُّ الظِّلْفَ: الْجَمَلَ، لأَنَّهُ يَجْتَرُّ لكِنَّهُ لاَ يَشُقُّ ظِلْفًا، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. وَالْوَبْرَ، لأَنَّهُ يَجْتَرُّ لكِنَّهُ لاَ يَشُقُّ ظِلْفًا، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. وَالأَرْنَبَ، لأَنَّهُ يَجْتَرُّ لكِنَّهُ لاَ يَشُقُّ ظِلْفًا، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. وَالْخِنْزِيرَ، لأَنَّهُ يَشُقُّ ظِلْفًا وَيَقْسِمُهُ ظِلْفَيْنِ، لكِنَّهُ لاَ يَجْتَرُّ، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. مِنْ لَحْمِهَا لاَ تَأْكُلُوا وَجُثَثَهَا لاَ تَلْمِسُوا. إِنَّهَا نَجِسَةٌ لَكُمْ".
بعدها بسنوات مديدة، سيقول القرآن "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ".
بهذه الآيات، فأن التوراة والقرآن يتفقان على كراهية الخنزير. لكن في الحقيقة، لم يكن هناك أي اتفاق، فما يقال عن التشابه كان "ترويج" سيء، لأن كلمة "نجس" في التوراة لا تعني نقيض "طاهر" كما هو دارج عند المسلمين، هي ببساطة - فيما يخص المأكولات طبعا - تعني "مُحرّم" أو "خطيئة".
كل شيء بحسب شريعة التوراة ينقض قانون الإله، يُدخل اليهودي بنجاسة أو دناسة، لذلك فالجمل والأرنب والنسر والعقاب والنعامة والزواحف هي نجسة تمامًا أيضًا، لأن أكلها لا يتوافق مع شَرطَي الشريعة التي وضعتها التوراة "يجتر ومشقوق الظلفين"، الشريعة التي استخدمت هذه الحيوانات كـ"أمثلة" لقاعدة عامّة للطعام المحلل والمحرم، لذا فالكلام لا يختص بالخنزير وحده.
إن التوراة - شريعة موسى - تُعلن بصراحة عن اعتبار جُثث الحيوانات الممنوع أكلها على اليهود، هي "جُثث" نجسة، ولا يجوز مسّها، لكنها لا تتحدث عن هذا المس فيما لو كانت هذه الحيوانات حيّة – كان العبرانيون يستخدمون الإبل في تنقلهم - وهذا تشريع مشابه جدًا لتحريم مسّ "الميتة" في الإسلام، فهو محكوم بالنجاسة. ويبدو أن لا مشكلة من مس الحيوان المحرّم أكله في اليهودية وهو حي.
كلمة "نجس" في التوراة لا تعني نقيض "طاهر" كما هو دارج عند المسلمين، هي ببساطة - فيما يخص المأكولات طبعا - تعني "مُحرّم" أو "خطيئة"
في أحد نصوص التوراة السابقة، حيث الكلام موجه للنبي نوح، يمكن ملاحظة اختفاء نجاسة كل المخلوقات الحية "كل دابة حية تكون لكم طعامًا كالعشب الأخضر. دفعت إليكم الجميع غير أن لحمًا بحياته دمه لا تأكلوه"، وهذه إشارة واضحة جدًا، في السماح بمس "كل دابة حيّة" بما فيها الخنزير، بل وحتى هي تحليل لأكله.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يكره العرب الغربان؟
هذا المعنى السابق في "نجاسة الخنزير" وبقية الحيوانات المحرم أكلها عند اليهودية، لا نجده عند المسلمين، فباستثناء الخنزير، كل الحيوانات المحرمة كطعام، ليست نجسة بعينها، مثلًا. المسلم لا يتنجس من الأسد أو الصقر أو الأرنب أو بعض أنواع السمك - عند الشيعة مثلًا - فيما لو مسّها.
إن الخطأ الذي وقع فيه عالم الانثروبولوجيا مارڤن هاريس، وكل شخص يعتقد أن هناك تشابهًا بين نصوص اليهودية والإسلام في فكرة تحريم أكل بعض الحيوانات ونجاستها، هو بسبب الإيحاء الذي يمارسونه - أو الذي مورس عليهم - عند الاستشهاد بنصوص التوراة، فهم بالعادة يأخذون النص ويقتطعونه بشكل يوحي كأن الخنزير في اليهودية هو الوحيد النجس المحرّم بذاته - لنلاحظ أن هاريس يقول: إذا جرى تذوقها أو لمسها - وهذا يعني أنه يعتقد أن الخنزير كما في شريعة الإسلام "مسّه نجس" في حين أن المقصود هو أي "جثة" لأي حيوان أو حتى إنسان ميّت.
وبشكل ما، يبدو أن الإسلام لديه مشكلة مع الخنزير بالذات لذاته، حيث خصّه بآيات تحريم من دون تحديد سبب واضح، في حين أن اليهودية لا تعاني من المشكلة هذه، لأنها لا "تتقصد" الخنزير بالتحريم.
على هذا الأساس يجب ذكر أن "الله لم يقل القول نفسه لنبيه محمد" كما يعتقد مارڤن هاريس.
*
ناب الخنزير يشقّ يدي
ويغوص لظاه إلى كبدي
ودمي يتدفق ينساب
لم يغدُ شقائق أو قمحًا
لكن ملحًا..
بدر شاكر السياب
*
في مقدمة الموضوع، ذكرت أن الخنزير كان كلمة تتردد تقريبًا في جميع الميثولوجيا والأديان، وبالعودة للبدايات، نجد في أسطورة دلمون السومرية ذكرًا لبعض الحيوانات، حيث تحدد الأسطورة صفات هذه المخلوقات:
في دلمون قبل ذلك لم يكن أي غراب ينعق
ولم يكن أي حجل يغرّد
لم يكن هناك أي أسد يفترس
لم يكن هناك ذئب لينقض على الحملان
لم يكن الكلب البري يختطف الجديان
لم يكن معروفًا الخنزير البري ملتهم المحصولات..
ما يهم في هذا النص، هو الخنزير مُلتهم المحصولات. وهنا، تظهر بشكل واضح مشكلة حضارة وادي الرافدين والتي من الممكن عدّها المشكلة الأولى مع الخنزير، فأحد أهم مصادر قوة هذه الحضارة تتمثل بالمزروعات.
يذكر هيرودوتس في مشاهداته عن آشور وبابل، أن "الأراضي المزروعة بالحبوب شديدة الخصب" يضيف "من لم يزر بابل لا يصدق ما قلت في خصب أرضها". ويؤكد طه باقر في كتابه مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، وعامر سليمان في كتابه اللغة الأكدية، وديلابورت في كتاب بلاد ما بين النهرين، حقيقة انتشار الزراعة والاهتمام بها في بلاد ما بين النهرين.
الخنزير مُلتهم المحصولات. وهنا، تظهر بشكل واضح مشكلة حضارة وادي الرافدين والتي من الممكن عدّها المشكلة الأولى مع الخنزير، فأحد أهم مصادر قوة هذه الحضارة تتمثل بالمزروعات
لهذا السبب سيكون من الطبيعي جدًا أن تكره حضارة ميزوبوتاميا الخنزير عدو الزرع ومُلتهم المحصولات، وسيترسخ هذا الكره انتقالا من أساطير ديموزي في سومر، إلى تموز في بابل، وأدونيس في سوريا.
اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "لي لي ليش" وحقيقة معبد "لالش" الأيزيدي
السؤال الذي من الممكن أن يكون لغزًا هو: لماذا تختار الآلهة الخنزير لقتل آلهة أخرى؟
إن الحل يجب أن لا يتجاهل ملاحظة "مسرح الجريمة" فيمكننا ملاحظة أن الضحايا "ديموزي أو تموز وأدونيس وحتى آتيس في روما - برغم اختلاف النظرة - " هم آلهة النبات والخصب والرعي في مناطقهم، إن وظيفة الخنزير التي حددتها أسطورة دلمون کـ "مُلتهم المحصولات" تحلّ اللغز، وتوضّح لماذا لم تختر الآلهة حيوانًا آخر لتنفيذ مهمة "القتل"، فالخنزير الحيوان الوحيد الذي من الممكن أن يؤدي الغرضين "يقتل ويأكل المحصولات" وهو الوحيد الذي يكون تواجده بكثرة مُسوغًا على "مسرح الجريمة"، والذي هو في أغلب الميثولوجيا عبارة عن "حقول"، فمن النادر تواجد النمور أو الأسود في الحقل الزراعي.
إن قوة هذه الأسطورة وتأثيرها بالناس، جعلتها تنتقل إلى كتاب مقدّس كالتوراة، حين تتحدث عن حزن نسوة على موت تموز "فَجَاءَ بِي إِلَى مَدْخَلِ بَابِ بَيْتِ الرَّبِّ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ، وَإِذَا هُنَاكَ نِسْوَةٌ جَالِسَاتٌ يَبْكِينَ عَلَى تَمُّوزَ".
وعلى مسافة قريبة من حضارة وادي الرافدين، كانت حضارة وادي النيل تعاني من ازدواج غريب في تعاملها مع الخنزير. في تاريخ هيرودوتس مثلًا، يقول: إن "المصريين يعتبرون الخنزير حيوانًا نجسًا، حتى إن المرء إذا مسّه هذا الحيوان ولو مسًّا خفيفًا ولو عرضًا هرع إلى النهر ليغطس فيه بكل ما يرتدي من اللباس، لذلك وجدنا المصريين يحرمون دخول صاحب الخنزير معابدهم، ولو كان مصريًا قحًا، وهو وحده المحروم دون كل المصريين من هذا الشرف، كذلك لا ترضى أسرة بمصاهرته، فلا يزوجونه من بناتهم، ولذلك فإن أصحاب الخنازير يتزاوجون فيما بينهم، والمصريون لا يقدمون الخنزير لأي من آلهتهم سوى أوزيريس، وربة القمر إيزيس، ويقيمون لهما الأعياد في ذات الموعد كل عام، بتضحية الخنازير لهما حين يكتمل القمر، ثم يبدأون بأكل لحم الخنزير بعد تقديم القرابين".
إلا أن هيرودوتس يضيف "وقد جرت عادة الفقراء الذين لا يقدرون على مثل هذه الأضاحي المُكلفة على تقديم خنزير بصورة كعك، بدلاً من الخنزير الحي".
علينا أن نلاحظ في النص السابق، أن التضحية بالخنزير كانت "مكلفة" لا يقدر الفقراء على تحملها، وهو ما يعني أن الخنزير فيما لو كان مكروهًا أو منبوذًا فعلًا، لما أصبح غالي الثمن أو ذا قيمة. في بعض مناطق جنوب العراق مثلًا، يرمي الشيعة سمك الجرّي الذي يصطادونه للكلاب ولا يقدمونه لعزيز أبدًا، بسبب أنه مكروه حسب المعتقدات الشعبية.
التضحية بالخنزير كانت "مكلفة" لا يقدر الفقراء على تحملها، وهو ما يعني أن الخنزير فيما لو كان مكروهًا أو منبوذًا فعلًا، لما أصبح غالي الثمن أو ذا قيمة
وهذا دليل على أن تقديم التضحية للإله، لا تكون بشيء سيء أو كريه أو منبوذ، فالمنطق يقتضي أن تكون التضحية بالمقبول بأقل حال.
الغريب أن هيرودوتس يرفض التصريح عن سبب كراهية المصريين للخنزير فهو كما يذكر في كتابه "يمسك عن عرض السبب حرصًا على اللياقة". ومع ذلك فإنه يعدّ مربو الخنازير من طبقات الشعب المصري السبعة. ويضيف: أن الفلاح المصري كان يُطلق الخنازير كي تدوس الأرض حتى يزرعها!
اقرأ/ي أيضًا: هناهين الأعرس وزغاريدها.. طقوس الغواية ولهيب الحرب
لقد ذكرت كلام هيرودوتس - فيما يخص وضع الخنازير - في مصر، لكن هناك مؤرخين آخرين يرفضون كلامه بصورة عامّة. فالمؤرخ ديودور - توفي 30 قبل الميلاد - عندما يكتب عن مصر يذكر أن الصيادين المصريين كانوا يصيدون التمساح المقدس بوضع شص فيه قطعًا من لحم الخنزير، وهذا يعني بطبيعة الحال لمسه وتقطيعه. أيضًا من الممكن التفكير أن استخدام الخنزير كطعم بسبب أنه سريع التكاثر، يسهل تعويضه وإطعامه، عكس الماشية الأخرى.
يضيف في مكان آخر متحدثًا عن الزراعة في مصر "وبعد بذر الحب يستخدمون ماشيتهم في غرسه في الأرض" هذا التوثيق يخالف توثيق هيرودوتس في أن الفلاح المصري كان يُطلق الخنازير لغرس الزرع.
لقد كان رأي ديودور في رؤية هيرودوتس لمصر حادًا جدًا "وسنضرب صفحًا عما لفقه هيرودوتس، وبعض المؤرخين الآخرين عن مصر، فهم عوضًا عن التزام الحقيقة، آثروا عامدين الإغراب وابتكار القصص لتسلية القارئ".
أما المؤرخ اليهودي يوسفوس فلافيوس - توفي 100 ميلادي - في كتابه ضد آبيون فإنه يذكر "لا يوجد في الحقيقة بين المصريين شخص واحد يقدم للأرباب أضحية من الخنازير".
السؤال الذي يُثار، لماذا يتم اعتماد كلام هيرودوتس ورفض أو تجاوز كلام المؤرخين الآخرين؟
اقرأ/ي أيضًا: