منذ آلاف السنين أبصرت الحضارة السومرية فجر النور على أرض العراق مسطَّرة صفحات تاريخية مذهلة ورافعةً لراية الحضارة والتقدم. وقد كانت تلك الأرض مهدًا لأحد أقدم الحضارات التي عرفها العالم، حيث ازدهرت حضارة السومريين بين نهري الرافدين، دجلة والفرات.
وبمدنهم المزدهرة، وأنظمتهم الاجتماعية المتقنة، وإسهاماتهم الثقافية الهائلة، أضاء السومريون درب البشرية نحو التقدم والتطور. وازدهرت مدنهم، وبنوا معابد شاهقة ومنظومات ري لزراعة الأراضي، وصاغوا أولى القوانين المدونة وأولى أنظمة الكتابة فأثرت حضارتهم على العديد من الحضارات اللاحقة.
إن الحضارة السومرية لم تكن مجرد صفحة في تاريخ البشرية، بل كانت بداية لرحلة طويلة من التفوق والإبداع. ومع أن أطياف الزمن قد مرت على ذلك العهد، إلا أن بصمات السومريين لا تزال حاضرةً، تروي لنا قصة عظيمة عن بذل الجهد والتطلع إلى المستقبل، مما يجعلنا نتأمل ونستلهم من إرثهم الثري في بناء حاضرنا وتشكيل مستقبلنا.
الحضارة السومرية.. أولى الحضارات على أرض العراق
الحضارة السومرية هي واحدة من أقدم الحضارات في تاريخ البشرية، ونشأت في منطقة بلاد ما بين النهرين، تحديدًا في الجزء الجنوبي من العراق الحالي (ذي قار وميسان) كأولى الحضارات فيها. ويُعتقد أن السومريين استقروا في هذه المنطقة حوالي عام 4500 قبل الميلاد، حيث أسسوا أولى المدن الكبرى مثل أوروك (الوركاء) واور (الناصرية) وإريدو (تل أبو شهرين).
مظاهر وجوانب تطور الحضارة السومرية في العراق
تطورت الحضارة السومرية بسرعة كبيرة بفضل عدة عوامل، منها الموقع الجغرافي الملائم بين نهري دجلة والفرات، والذي وفر موارد مائية وزراعية غنية. وبالتالي قدمت هذه الحضارة إسهامات كبيرة على أرض العراق في مجالات متعددة مثل الكتابة، القانون، الفنون، والعمارة، وتُبين هذه المظاهر مدى تقدم الحضارة السومرية وتأثيرها الكبير على الحضارات اللاحقة في المنطقة. وفيما يأتي أهم مظاهر الحضارة السومرية، وهي:
- اللغة السومرية وآدابها: اللغة السومرية هي أقدم لغة مكتوبة وكان السومريون أول من استخدم هذه اللغة، واستخدموا نظام الكتابة المعروف بالكتابة المسمارية، الذي ظهر حوالي 3100 قبل الميلاد. وقد استمرت هذه اللغة في الاستخدام حتى 2000 قبل الميلاد، وبعدها حلت اللغة الأكدية محلها، لكنها بقيت تُستخدم للأغراض الدينية والأدبية لقرون عديدة. وقد أسهمت هذه الكتابة في توثيق العديد من مظاهر الحياة السومرية، بما في ذلك القوانين والآداب والقصص الملحمية، مثل ملحمة جلجامش التي تروي قصة الملك جلجامش ومغامراته في البحث عن الخلود.
- الفن والعمارة: اشتهرت الحضارة السومرية بفنونها وعمارتها المميزة، وقد برع فيها السومريون، حيث بُنيت المعابد والأبنية من الطوب الطيني وقصب الأهوار. وقد تميزت هذه المباني بأسقفها المسطحة والمداخل المقوسة، والزخارف المتنوعة. ومن أبرز معالم العمارة السومرية الزقورات، وهي معابد متدرجة يصل ارتفاع بعضها إلى أكثر من 50 مترًا. وتعد زقورة أور من أشهر الأمثلة على ذلك. وقد كان فن النحت من بين أبرز أنواع الفن التي تميزت بها الحضارة السومرية. برع السومريون في نحت المسلات والتماثيل وصناعة النصب، وكانت هذه الأعمال الفنية تعبر عن مختلف جوانب حياتهم الدينية والثقافية والاجتماعية. وقد كان الفن أحد الطرق التي أسهمت في تعزيز الهوية الثقافية للحضارة السومرية، وإبراز إبداعها وتقدمها الفني والتكنولوجي في العصور القديمة.
- إدارة الموارد المائية والزراعة: كان للسومريين نظام متقدم لإدارة المياه، بما في ذلك بناء القنوات والخنادق للري والسيطرة على الفيضانات في نهري دجلة والفرات.وقد ساعدت هذه الأنظمة على تحسين الزراعة وزيادة الإنتاجية الزراعية، مما دعم استقرار وازدهار الحضارة. وقد طور السومريون أنظمة ري معقدة ساعدت في التحكم في فيضانات الأنهار وزيادة الإنتاج الزراعي، مما ساهم في استدامة المجتمعات الزراعية الكبيرة.
- العلم والمعرفة: اهتم السومريون بالعلم والمعرفة بشكل كبير وكانوا يعتبرونها جزءًا أساسيًا من تقدم حضارتهم، حيث أسسوا المدارس لنقل المعرفة وكانت هذه المدارس تعلم القراءة والكتابة والرياضيات والعلوم الفلكية وغيرها من المواضيع. وتركوا سجلات مكتوبة توثق جوانب حياتهم العلمية والثقافية مما يمثل مصدرًا ثمينًا لدراسة تطور العلم والثقافة في تلك الفترة التاريخية. وكانوا من أول من كتبوا الشعر الملحمي ووصفت القصص الأسطورية والأحداث التاريخية بأسلوب شعري فني، وعرفوا بصناعة الآلات الموسيقية.
- القوانين: كانت الحضارة السومرية من أولى الحضارات التي وضعت قوانين مكتوبة لتنظيم المجتمع وهذه القوانين تعكس القيم والمبادئ التي كانت مهمة للسومريين. ويُعتبر قانون أورنمو من أقدم المدونات القانونية، والذي شكل أساسًا لشريعة حمورابي فيما بعد. وقد كان ينظم العديد من جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الحضارة السومرية. ويُعتقد أنه كان يحتوي على تعليمات بشأن العقوبات والتعويضات لمختلف الجرائم والخلافات، وكان هذا القانون وغيره من قوانين الحضارة السومرية تأثير بارز على تطور نظم القانون والعدالة في المنطقة على مر العصور.
- علم الفلك: برع السومريون في علم الفلك وكانوا من الأوائل في وضع أسس الفهم العلمي للأجرام السماوية. ويمكن تلخيص أهم إنجازاتهم الفلكية كما يأتي:
- التقويم الشمسي والقمري: طور السومريون تقاويم شمسية وقمرية دقيقة. وقد استخدموا هذه التقاويم لتنظيم الزراعة والمناسبات الدينية، مما يدل على فهمهم العميق للدورات الفلكية.
- صناعة العدسات: يُعتقد أن السومريين صنعوا العدسات المحدبة والمقعرة، مما يدل على معرفتهم ببصريات الضوء وقدرتهم على تكبير الأشياء.
- معرفة كواكب المجموعة الشمسية: السومريون كانوا على درايةٍ بعدد من كواكب المجموعة الشمسية، وهو ما يُستدل عليه من النقوش والآثار التي وجدت، مثل الحلي التي نُقشت عليها خرائط للمجموعة الشمسية.
- الصناعة: السومرية كانت من الحضارات الرائدة في مجالات متعددة بما في ذلك صناعة الأدوات المنزلية والزراعية، والخزف، والتزيين باستخدام المعادن، وصباغ الشعر. وفيما يأتي نذكر تفاصيل هذه الإنجازات:
- صناعة الأواني المنزلية: السومريون أتقنوا صناعة الأواني المنزلية التي كانت ضرورية للاستخدام اليومي. وقد استخدموا الطين لصناعة الأواني التي كانت تستخدم للطهي والتخزين.
- الأدوات الزراعية: طوّر السومريون أدوات زراعية متقدمة لتقليب التربة وزراعتها. وتشمل هذه الأدوات المحاريث المصنوعة من الخشب والمعدن التي ساعدت في زيادة كفاءة الزراعة وإنتاجية الأراضي.
- صناعة الخزف: كانت الحضارة السومرية من أولى الحضارات التي استخدمت تقنية الخزف. وكانوا يصنعون الفخار باستخدام تقنيات متقدمة مثل العجلة الدوارة، مما أتاح لهم إنتاج أشكال معقدة وزخرفات جميلة.
- استخدام المعادن في التزيين: السومريون استخدموا المعادن مثل الذهب والفضة والنحاس في صناعة الحلي والأدوات التزيينية. وكانوا يبرعون في صهر وتشكيل المعادن لإنشاء قطع زخرفية مميزة.
- صباغ الشعر: من المعروف أن السومريين كانوا من أوائل من استخدموا الصبغات لتلوين الشعر. وقد استخدموا مواد طبيعية لصباغة الشعر، مما يعكس اهتمامهم بالجمال والزينة الشخصية.
ندرك أهمية الحضارة السومرية كواحدة من أقدم الحضارات في التاريخ الإنساني، وكذلك كونها رائدة في العديد من المجالات التي تركت بصماتها البارزة على تاريخ البشرية من ابتكار نظام الكتابة، وبناء المدن الضخمة إلى تطور الفنون والعلوم، كانت الحضارة السومرية عاملاً رئيسيًا في تشكيل مسار التاريخ. ورغم مضي آلاف السنين على هذه الحضارة إلا أن آثارها الثقافية والتقنية ما زالت تؤثر في العديد من جوانب حياتنا اليومية. فهي تذكير بقوة الإبداع البشري وقدرته على التطور والتغيير. مما يستدعي ضرورة المحافظة على تراثها واقتباس الدروس والإلهام منها لبناء مستقبل أفضل.