22-مارس-2020

أدت انتفاضة تشرين إلى بروز ثقافة سياسية جديدة لدى الأفراد داخل المجتمع (Getty)

السياسة لا تعني فقط المواقف والقرارات والوقائع والمؤسسات السياسية، بل هي أيضًاأفكار وأيديولوجيات وتوجهات تشكل بمجموعها ما يسمى بـ"الثقافة السياسية" التي تعتبر الجزء الأساسي من تشكيل العملية السياسية باعتبارها تهتم بماذا يشعر الفرد، وكيف يفكر بالرموز والمؤسسات، والقواعد التي تكوّن النظام السياسي في مجتمعه، وكيف يستجيب لها ويتفاعل معها سلبًا أو إيجابًا.

ما يميز انتفاضة تشرين طوال مسيرتها أنها لم تفكر بالتغيير الجذري أو التصفير كما هو المشاع في تاريخ العراق

خلال الاحتجاجات العراقية كنت أفكر كيف حدث هذا التحول المفاجئ في الثقافة السياسية للفرد العراقي؟ كيف يتحدث الشباب عن نظام انتخابي وقانون أحزاب وحكومة مستقلة وانتخابات مبكرة بهذا الوعي سواء تحققت أو لم تتحقق؟

اقرأ/ي أيضًا: عصر الجماهير: لا جديد تحت نصب الحرية

أقولها صراحةً؛ لا أثق بالثورات أو الاحتجاجات في العراق، فتاريخها كان كارثيًا، وما زلنا إلى الآن ندفع ثمن تفكير العراقيين الراديكالي بحرق "الأخضر واليابس" كما يقال على طول مسيرتهم التاريخية، لكن ما يميز هذه الاحتجاجات عن غيرها، أنها لم تفكر بالتغيير الجذري كسابقاتها (ثورة ١٤ تموز) مثلًا، وما قامت به من تغيير في طبيعة النظام وما أنتجته من وضع مرتبك وانقلابات متتالية، بل ركزت في مطالبها على تغيير قواعد سير هذا النظام، وأنا أعتبر أن هذا التفكير هو لحظة فارقة في تاريخ الشخصية العراقية، كذلك التعامل وفق قواعد الاحتجاج السلمي على الرغم من أن المجتمع العراقي مجتمعٌ عنيف وانفعالي والسلاح متاح لدى الجميع، لكنهم استطاعوا الحفاظ على السلمية والاحتجاج ضمن قواعدها.كل هذه الأمور، من دون استثناء، الفساد السياسي وعجز السلطة عن بناء الدولة والقمع البشع الذي جابهت به الشباب، جعلتني أؤمن بهذه الانتفاضة، وأكون معها وجزءًا منها.

يقول صادق الأسود إن "الثورات أو الحركات الاحتجاجية ما هي إلا عملية اجتماعية تهدف إلى التوفيق بين ذهنيات الأفراد والمؤسسات القائمة في المجتمع"، أو بعبارة أخرى أن الثورات هي حركة اجتماعية لتقويض المؤسسات التي فقدت فاعليتها، وإعادة بناء الروابط الاجتماعية على أسس جديدة، ووفقًا لهذا الرأي، أعتقد أن بروز ثقافة سياسية جديدة لدى الأفراد داخل المجتمع أخذت تتعارض مع الثقافة السياسية التي يتبناها النظام السياسي ومؤسساته في العراق، وهذا التعارض وصل إلى مرحلة الصِدام عندما عجز النظام السياسي عن احتواء هذه التغييرات في ثقافة وذهنيات الأفراد داخل المجتمع.

لا يوجد نظام سياسي يحظى بقول جميع أفراد المجتمع وهذا أمرٌ طبيعي، لكن أفضل النظم السياسية هي النظم التي تستطيع احتواء الاختلافات والمتغيرات داخل المجتمع، وتحولها الى أداة منتجة ومحفزة للنظام نحو التطور والاستقرار، بدلًا من التعارض والاصطدام وهذا مالم يدركه القادة في العراق. الثقافة السياسية العراقية بطبيعتها، هي ثقافة خضوع فالمواطن العراقي الذي اعتاد على التعامل بسلبية تجاه القضايا السياسية من دون أن يشعر بأن له دور أو مسؤولية تجاه النظام السياسي وأنه قادر على التغيير، والسبب في ذلك يكمن في غياب دور المؤسسات المسؤولة عن التنشئة الاجتماعية السياسية، فقد عملت الطبقة السياسية على تجهيل المواطن العراقي من خلال الحروب التي أدخلت فيها العراق واعتمادها سياسة التجهيل وقتل الفاعلين وهجرة العقول، كلها عوامل أتت ثمارها وأنتجت ثقافة سياسية خاضعة وجاهلة.

الثقافة السياسية تتأصل في الوقائع العامة والتاريخ السياسي للمجتمع الذي ينتجه النظام السياسي وكذلك في التجربة الشخصية للأفراد، وهذه التجربة الشخصية نستطيع أن نقول إنها عامل مهم في تكوين ثقافة سياسية مغايرة أي (ثقافة مساهمة) من خلال عصر العولمة والانفتاح الثقافي والتكنولوجي الذي حطم الحدود واستطاع تغيير نمط التفكير السائد والثقافة السياسية الخاضعة، وخصوصًا عندما أصبح الشاب العراقي قادرًا على رؤية التجارب السياسية، وما أنتجته من حياة مستقرة مرفهة في الدول الأخرى مما جعله، وببساطة، يخضع الطبقة السياسية وطريقتها في إدارة الدولة أمام التجارب السياسية للدول الأخرى.

 بروز ثقافة سياسية جديدة لدى الأفراد داخل المجتمع أخذت تتعارض مع الثقافة السياسية التي يتبناها النظام السياسي ومؤسساته في العراق

التجارب الشخصية وحدها غير كافية على إنتاج ثقافة سياسية مختلفة، لكن من الممكن أن تكون مؤثرة في خلق هذه الثقافة عندما يتوفر الجو الملائم لها، فالثورات السياسية والكوارث الاجتماعية والهجرة من وسط اجتماعي إلى وسط اجتماعي آخر، كل ذلك يساهم في تعليم ونشر الأنماط الجديدة من التفكير والسلوك.

اقرأ/ي أيضًا: قلاعهم الحصينة

وهنا أصبحنا أمام ثقافتين متناقضتين داخل المجتمع، وهي ثقافة خاضعة وأخرى مساهمة، الأولى نتاج التاريخ السياسي، والأخرى نتاج التجارب الشخصية والعصر السيبراني والظروف الراهنة، وهذا ما يفسر انقسام المجتمع بين مؤيد ومعارض، فأصحاب الثقافة الخاضعة لا يستوعبون فكرة أن يكون للمواطن دورًا في عملية التغيير السياسي إلا إذا كان هذا التفكير مؤامرة خارجية! 

والسؤال هنا: أي الثقافتين سينتصر؟

ليس هنالك أجوبة حاسمة لهذا السؤال، لكن بكل الأحوال، فإن ظهور نوع جديد من التفكير إزاء العملية السياسية في العراق وأخذه بنظر الاعتبار في عملية التغيير والخطاب السياسي، هو بحد ذاته انتصار، ومن الممكن أن نشهد في المستقبل أحزابًا سياسية مستقلة مؤمنة بقضايا الوطن والعدالة والحرية والديمقراطية التي خرج من أجلها شباب تشرين.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

على جسر الجمهورية

خيارٌ ثالث.. موقف المواطن/المحتج من حروب الوكالة