أثارت زيارة الوفد العراقي إلى الصين في نهاية أيلول/سبتمبر، والتي استمرت لبضعة أيام، قبل اندلاع التظاهرات الشعبية، عدة تساؤلات في الشارع العراقي، والسياسي والإعلامي، بدءًا من العدد الكبير الذي رافق رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في رحلته، مرورًا بحجم الاتفاقيات وجديتها، وليس انتهاءً بالموقف السياسي، الأمريكي على سبيل المثال، من هذه الاتفاقيات.
رغم مرور أربعة أعوام على زيارة العبادي إلى الصين، إلا أن الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الصيني لم تُنفذ حتى الآن، ما يُزيد من عملية التشكيك بالفائدة العملية من زيارة عبد المهدي الأخيرة إلى الصين
الوثيقة التي سُرّبت قبل الزيارة، والتي ضمت قرابة 55 فردًا بينهم وزراء ومحافظون (نحو 10 وزراء و16 محافظًا)، أثارت امتعاض العديد من المراقبين فضلًا عن المواطنين على مواقع التواصل، ما دعا المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، عبد الله الهنين، إلى التصريح بأن الزيارة التي يُجريها الوفد العراقي إلى الصين "لم تكلف العراق فلسًا واحدًا"، وإنما "تكفل الجانب الصيني بجميع تكاليف الضيافة".
اقرأ/ي أيضًا: وفد عبد المهدي يشعل فيسبوك.. "فساد" أم خروج عن الخط الأمريكي؟
أما رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي فوصف الزيارة إلى الصين بـ"المستعجلة وغير المدروسة"، إذ لم تكن لها تحضيرات سابقة. كما وصف اصطحاب عبد المهدي لهذا العدد من الشخصيات بـ"الأمر المُبالغ فيه".
في السياق، برر عبد المهدي العديد الكبير الذي رافقه، خلال كلمة أمام المنتدى بالقول: "لقد حرصنا على أن يُرافقنا أكبر عدد من أعضاء السلطة التنفيذية، وأن حضور الوزراء والمحافظين يُعطي جدية للوفد في الذهاب للتعاقدات والأعمال بشكل مباشر".
وربما يُعيدنا الحديث عن "الجدية" في زيارة عبد المهدي، إلى زيارة العبادي ذاته الذي وصف زيارة عبد المهدي بـ"المستعجلة"، ففي كانون الأول/ديسمبر من عام 2015، وقع العراق مع الصين خمس اتفاقيات ومذكرات تفاهم في مجالات عدة بينها اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية ونفطية. وبحسب مكتب رئيس الوزراء آنذاك حيدر العبادي فأن الزيارة تأتي ضمن توجه الحكومة لدعم الاقتصاد وتنويع مصادر السلاح.
ورغم مرور أربعة أعوام على زيارة العبادي، إلا أن الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الصيني لم تُنفذ حتى الآن، ما يُزيد من عملية التشكيك بالفائدة العملية من زيارة عبد المهدي الأخيرة إلى الصين.
توقيت الزيارة: هروب من الاستجواب؟
تزاحمت التصريحات خلال الفترة الماضية، عن استعداد مجلس النواب لاستجواب رئيس الوزراء عادل عبد المهدي خاصةً بعد الإعلان عن نسب الإنجاز الحكومي، الذي تناقض مع النسب البرلمانية المُعلنة من لجنة متابعة البرنامج الحكومي، ما دعا تيار الحكمة المُعارض إلى إرجاع سبب الزيارة للهروب من الاستجواب. واعتبر النائب عن الحكمة علي البديري زيارة عبد المهدي إلى الصين "إنقاذية للخلاص من تطبيق البرنامج الحكومي".
أرجع تيّار الحكمة سبب زيارة عبد المهدي إلى الصين للهروب من الاستجواب معتبرًا أنها "إنقاذية للخلاص من تطبيق البرنامج الحكومي"
وذهب البديري إلى أن "عبد المهدي سيعول كثيرًا على زيارة الصين لإقناع الآخرين بمنجزاته وإسكات من يتكلم عن قضية البرنامج الحكومي وكذلك ملف استجواب الوزراء الذي قد يطال رئيس الوزراء نفسه.
اقرأ/ي أيضًا: لجنة مراقبة الحكومة تكشف بالأرقام: عبد المهدي "فشل" على جميع المستويات!
فيما كشف عضو لجنة متابعة وتنفيذ البرنامج الحكومي، محمد كريم، عن طلب قدمه عبد المهدي للبرلمان بالتريث في مناقشة تقرير ما نفذته الحكومة خلا الستة أشهر المرفوع إلى المجلس".
هدف أمني؟
جاءت زيارة عبد المهدي إلى الصين بعد أكثر من عملية استهداف لمقار الحشد الشعبي في العراق، والتي أشارت أصابع الاتهام إلى تورط إسرائيل في تلك العمليات، ما أثار العديد من الدعوات السياسية إلى تطوير منظومة الدفاع الجوي العراقية للتصدي لمثل تلك الاستهدافات. وذهب سياسيون ومحللون إلى أن زيارة عبد المهدي إلى الصين تحمل معها الملف الأمني وتسليح القوات العراقية، وهو ما أشار إليه النائبان عامر الفايز، وعالية نصيف، الذين شددا على وجود ضغوط أمريكية لمنع العراق من الذهاب نحو دول متعددة في مجال التسليح.
في هذا الصدد، يقول مصدر مطلع رفض الكشف عن هويته لأسباب وظيفية، إن "القصف الإسرائيلي أثار حفيظة السلطات العراقية، لكنها غير قادرة على عقد اتفاق عسكري مع الصين دون رضا الولايات المتحدة"، مشيرًا إلى أن "واشنطن قد تغض النظر عن بعض العقود العسكرية، لكنها لا تقبل بالتسليح الثقيل للعراق".
ومن الجدير بالذكر، أن عبد المهدي، وبعد عودته من الصين، صرح في حديث متلفز بأن "التحقيقات في استهداف بعض مواقع الحشد الشعبي تشير إلى أن إسرائيل هي من قامت بذلك"، مبينًا أن "لا أحد يريد حربًا في المنطقة باستثناء إسرائيل".
فيما كان عبد المهدي قد أعلن في 19 أيلول/سبتمبر عدم امتلاك العراق "الأدلة المادية على ضلوع إسرائيل بقصف معسكرات الحشد الشعبي". وقال إن "الكثير من الأطراف لديها مصلحة في استهداف الحشد من بينها منظمة (مجاهدي خلق) الإيرانية المُعارضِة".
هدف اقتصادي؟
يعيش العراق في وضعٍ اقتصاديٍ محرجٍ، بعد الخروج من حربه العنيفة مع تنظيم الدولة (داعش)، التي استنزفت القدرات المادية للبلاد، فضلًا عن حجم الدمار الذي لحق بالمناطق المُحررة، والتي تحتاج إلى إعادة إعمار شاملة، في ظل موازنة اتحادية تُعاني من العجز بترليونات الدينارات.
يذهب مراقبون إلى أن الحكومة العراقية وصلت إلى قناعة بأن الأمريكيين لن يتقدموا بعملية إعادة الإعمار والاستثمار في العراق طالما لم يحسم الأخير موقفه من العلاقة مع إيران
ويعوّل سياسيون ومراقبون على مثل هذه الاتفاقيات التي تُعقد مع ثاني أكبر دولة اقتصادية في العالم، تمتلك التكنولوجيا المُتقدمِة، والشركات العملاقة التي زار الوفد العراقي البعض منها، والتي من الممكن أن تُساهم في تنشيط الاقتصاد وتحسين الخدمات في العراق.
اقرأ/ي أيضًا: هبوط مفاجئ لبومبيو في بغداد للتحذير من إيران.. ماذا دار بينه وبين عبد المهدي؟
وسبق للحكومات العراقية أن وقعت خمس اتفاقيات تجارية مع الصين منذ عام 2003، بحسب الخبير الاقتصادي صلاح العبيدي.
من المفترض أن يكون العراق قد عقد مؤخرًا ثماني اتفاقيات في قطاعات مختلفة، فضلًا عن التوقيع على الاتفاق المالي المشترك لتمويل المشاريع بين وزارة المالية العراقية ومؤسسة دعم الصادرات الصينية (سايناشور)، بحسب مستشار عبد المهدي الاقتصادي عبد الحسين الهنين، الذي أعلن أن حجم الأعمال بين العراق والصين سيتجاوز الـ 500 مليار دولار السنوات العشر المقبلة.
معوقات خارجية
فيما يذهب مراقبون إلى أن الحكومة العراقية وصلت إلى قناعة بأن الأمريكيين لن يتقدموا بعملية إعادة الإعمار والاستثمار في العراق طالما لم يحسم الأخير موقفه من العلاقة مع إيران، ودار حديث طويل على رفض الولايات المتحدة إعطاء سمات دخول (فيزا) لرئيس الوزراء العراقي في أكثر من مرة أراد بها زيارة واشنطن. ورغم ذلك قد تسعى الولايات المتحدة لمنع المزيد من الاستثمارات العراقية الصينية، كما يُعطي الخبير الاقتصادي صالح الهماشي مثلًا باتفاق العراق مع شركة سيمنز، حين "تدخلت الولايات المتحدة من أجل إشراك شركة جنرال إليكتريك في الصفقة".
معوقات داخلية
وسط حالة الفوضى تخشى كبرى الشركات من القيام باستثمارات واسعة في بيئة مثل العراق لا يمسّها الاستقرار حتى تنقلب الأمور بليلة وضحاها. ويرى صالح الهماشي في حديث لـ "ألترا عراق" أن "المعوقات الداخلية هي العقبة الأكبر بوجه الاستثمارات الصينية في العراق بسبب "النظام الإداري والفساد وعدم ثقة المواطنين بالحكومة إذا ما كانت نزيهة في هذه المشاريع".
يصف الهماشي البيئة العراقية بـ"الطاردة للاستثمار"، ويقول إن "النظام السياسي والإداري والمصرفي وعدم سيطرة الحكومة على جميع مؤسسات الدولة من حيث الرقابة والتخطيط وعدم وجود رؤية واضحة للمشاريع والأولويات، كل ذلك يجعل من الصعوبة بمكان تطبيق الاتفاقيات".
خبير: المعوقات الداخلية هي العقبة الأكبر بوجه الاستثمارات الصينية في العراق بسبب "النظام الإداري والفساد وعدم ثقة المواطنين بالحكومة إذا ما كانت نزيهة في هذه المشاريع
في الأثناء، يدور في الأروقة الإعلامية حديث عن وجود رفض وعرقلة لإتمام صفقات الاستثمار التي تحتاج إلى موافقة البرلمان من كتل سياسية أبرزها تيار الحكمة وائتلاف النصر؛ كما يُشير الهماشي إلى ذلك بالقول، إن "هناك جبهة معارضة للاتفاقيات مع الصين، وكذلك مع دول الجوار، لا ترى الخطر الاقتصادي الذي يُهدد العملية السياسية، مع وجود كم هائل من البطالة ومن يعيشون تحت خطر الفقر".
لعبة الاستثمار والفساد
مثلما يؤكد صالح الهماشي أن الصراع السياسي القائم في العراق والنظام السياسي والإداري البيروقراطي "يُنشئ الفساد"، والأخير "يؤثر بشكل كبير على الاستثمار"، يذهب معه في ذلك النائب يوسف الكلابي الذي يقول إنه "لا إمكانية للتقدم بالاتفاقيات مع الصين بوجود الفساد، وعلى عبد المهدي ضرب الفاسدين قبل الشروع بالاستثمار".
اقرأ/ي أيضًا: تقرير بريطاني عن "الفساد المحصّن" في العراق: السلطة تنهب المواطن والمستثمر!
أما عضو مجلس النواب السابق والخبير الاقتصادي عدنان الجنابي له رأي مُغاير، إذ يرى في تصريح تلفزيوني أن "عادل عبد المهدي غير قادر على ضرب الفساد ومحاسبة الفسادين، وخطوته نحو الصين تستهدف الالتفاف على المنظومة الفاسدة من خلال ربط العراق باستثمارات مع شركات صينية رصينة لا يُمكن لمافيات الفساد العراقية مساومتها واختراقها".
لكن مسؤولًا سابقًا تحدث لـ"ألترا عراق" عن الشركات الصينية ذاتها، متهمًا إياها بـ "الفساد"، ووصفها بـ "شركات الخط الثاني والثالث".
أحداث تشرين وتحركات الصين
اندلعت انتفاضة الأول من تشرين الأول/اكتوبر سريعًا بعد الزيارة إلى الصين، وبطبيعة الحال في العراق، هناك من رأى أنها مؤامرة لمعاقبة عادل عبد المهدي بسبب إقدامه على هذه الخطوة. وفي صبيحة اليوم الأول من التظاهرات كان الوفد الصيني برئاسة سفير جمهورية الصين لدى بغداد تشانغ تاو في مكتب وزير الداخلية ياسين الياسري.
كما ظهر السفير الصيني بعد هدوء الاحتجاجات في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر خلال لقائه بزعيم تيار الحكمة عمار الحكيم لبحث الاحتجاجات الشعبية وآخر التطورات، ثم بعد أيام مع وزير الزراعة العراقي. ويؤكد مصدر في الوزارة الخارجية لـ"ألترا عراق" إن "السفير التقى بأغلب قادة الكتل السياسية خلال أيام الاحتجاجات العراقية".
مصدر: الجانب الصيني أرسل ثلاثة مستشارين للاطلاع على الأمور في ظل الاحتجاجات الشعبية والاستعدادات للنزول مجددًا إلى الشارع
في السياق، يُشير المصدر في الخارجية العراقية إلى أن "الجانب الصيني أرسل ثلاثة مستشارين للاطلاع على الأمور في ظل الاحتجاجات الشعبية والاستعدادات للنزول مجددًا إلى الشارع".
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة الغضب: حين يُفقد الوطن والأمل والعمل!
ويؤكد المسؤول السابق أن "الأوضاع المقلقة خصوصًا بعد يوم الخامس والعشرين من الشهر الحالي، موعد التظاهرات المقبل، قد تدفع بالصينيين الراغبين بالمجيء إلى العراق في أوائل كانون الأول المقبل إلى إعادة النظر باتفاقياتهم".
آلاف التأشيرات بطلب المحافظات
خلال شهر مضى بدا الصينيون جادين في الدخول إلى السوق العراقية والاستثمار فيها طبقًا لخطة الحزام والطريق الشهيرة، وقد كشف مصدر في الخارجية العراقية عن "تقديم الصين أكثر من عشرة آلاف طلب لمنح تأشيرات الدخول (فيزا) إلى الأراضي العراقية في الفترة الأخيرة لتفعيل الاتفاقية الأخيرة بين الدولتين".
ويعلق أحد المسؤولين السابقين بأن "طلبات (فيزا) تأتي بعد الصلاحيات الواسعة التي منحها عادل عبد المهدي للمحافظات لإبرام العقود، وبالتالي فإن "المحافظين يطلبون تلك التأشيرات لعدد كبير من مؤسسي الشركات ورجال أعمال صينيين في مجال النقل والطاقة والزراعة للتفاوض معهم في العراق" وبذلك فأن "الاتفاقات الفرعية في المحافظات (الآمنة) مستمرة مع الجانب الصيني"، لكنه يؤكد أن الصلاحيات الممنوحة للمحافظات للتعاقد مع الشركات الصينية، خاصةً في الأسبوع الأخير بعد احتجاجات تشرين، جرت "خارج الضوابط المعتمدة سابقًا".
هل من حلول؟
يرهن الخبير الاقتصادي صالح الهماشي تفعيل الاتفاقيات الخارجية وعمل الشركات الذي من الممكن أن يُساهم بشكل كبير بإنقاذ الاقتصاد وتخفيف الأزمة المالية، بالداخل العراقي ذاته، وطريقة التعاقد وطريقة التمويل، وعدم مضايقة الشركات وإجبارها على الانسحاب. كما يرى الهماشي في حديثه لـ"ألترا عراق" أن "حل المشاكل الداخلية إداريًا وسياسيًا قد يُساهم بإعمار البنى التحتية والطرق والجسور والمستشفيات والمدارس ومحطات التوليد الكهربائية".
يرى الخبير الاقتصادي صالح الهاشمي حل المشاكل الداخلية إداريًا وسياسيًا قد يُساهم بإعمار البنى التحتية والطرق والجسور والمستشفيات والمدارس ومحطات التوليد الكهربائية
وبإمكان التعاقد على إنشاء مصاف لتكرير النفط أن يُقلل صرف العراق على استيراد المشتقات النفطية التي تبلغ أكثر من أربعة مليارات دولار بحسب الهماشي، على أن "تسد المشاريع تكالفيها من منتجاتها"، كما في حالة النفط هذه، والمستشفيات، أما الطرق والمدارس فبإمكانها أن تمول من الميزانية بالتقسيط المريح على فترة زمنية محددة وبفوائد قليلة القروض خصوصًا وأن القروض الصينية قليلة الفوائد تصل إلى نصف الواحد بالمئة، حسب قوله.
اقرأ/ي أيضًا: