حظي حادث حريق كاتدرائية نوتردام في العاصمة الفرنسية باريس، باهتمام عالمي شعبي ورسمي كبيرين، بعد أن أدت نيران بقيت مشتعلة لنحو 5 ساعات إلى انهيار سقف وبرج الكاتدرائية المشيدة بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، والمعلم الأكثر زيارة في أوروبا، لما تحويه من آثار تاريخية بينها إكليل الشوك الذي وضع على رأس يسوع المسيح قبل صلبه، والقربان المقدس، واللذين تم انقاذهما من النيران بصعوبة، فضلًا عن ارتباطها بأحداث مهمة كتتويج نابليون بونابرت امبراطورًا في رحابها عام 1804 م، وغيرها.
ذكّر حريق كاثدرائية نوتردام والتفاعل العالمي والعربي معه، العراقيين بآثارهم التي نُهبت ودُمرت بعد الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003 أمام أنظار العالم "دون اهتمام"
صور الحريق تصدرت مواقع التواصل الاجتماعي والصحف في شتى أرجاء المعمورة مع وصفه بـ "المأساة" و"الجحيم غير المقدس"، باستثناء موقعي صحيفتي "ألو" وإنفورمر" الصربيتين، إذ عدتاه "عقاب من الله بسبب البصق على الضحايا الصرب بحرب التسعينيات في كوسوفو"، قبل أن يحذفا ذلك لاحقًا، فيما أعلنت عدة حكومات، ومنها العراقية، وزعماء دول وشخصيات سياسية تضامنها مع فرنسا في "محنتها"، وعبرت عن تضامنها مع الفرنسيين ومشاركتهم الحُزن.
اقرأ/ي أيضًا: العراق يعلن رسميًا تضامنه مع فرنسا في محنتها
وتسابقت وسائل إعلام كثيرة عربية وأجنبية في نشر كل تفاصيل الحادثة وما تعلق بها، وأسهب محللون ومقدمو برامج وحتى سياسيون، بينهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في تقديم نصائح للسلطات الفرنسية حول كيفية التعامل مع الحريق، بعد أن نقلت وكالات الأنباء العالمية عن الداخلية الفرنسة، أن رجال الإطفاء المشاركين في عملية الإخماد التي كانت جارية حينها، وعددهم 400، قد لا ينجحون في إنقاذ الكاتدرائية.
"اغتصاب بلاد الرافدين"!
العالم العربي شهد تفاعلًا واسعا مع الحادثة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فنشر الكثيرون وبينهم عراقيون، صورهم أمام الكاتدرائية في زيارات سابقة، متأسفين للدمار الذي أصابها، ومعربين عن تضامنهم مع المسيحيين، مُقابل حالة من "التشفي" أظهرها آخرون، قالوا إن "الحملات الصليبية إنطلقت منها".
وبعيدًا عن هؤلاء، كان لاحتراق الكاتدرائية، التي تُعد رواية فيكتور هيجو "أحدب نوتردام" إحدى أسباب شُهرتها لدى العرب، وقع مختلف على كثيرٍ أيضًا، من أبناء هذا العالم وخاصة العراقيين، حيث ذكّرتهم النيران التي التهمت سقف الكاتدرائية وبرجها، والذي يرجح مسؤلون فرنسيون أنها ناتجة عن خلل فني أثناء عمليات صيانة، بآثار العراق التي نُهبت ودُمرت بعد الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، مرورًا بتنظيم "داعش" الذي طال دماره آثار سوريا أيضًا، و"عدم" أو "قلة الاهتمام" الذي أبداه العالم الغربي تجاه ذلك.
فبعد الغزو، تعرض ما يقارب 15 ألف موقع أثري في العراق للسرقة والنهب والتدمير. أهمها مدينة أور السومرية جنوب العراق، حيث ولد إبراهيم الخليل "أبو الأنبياء" عام 2000 قبل الميلاد، ويوجد فيها معبد "الزقورة" الخاص بآلهة القمر في الأساطير السومرية.
في هذه المنطقة كان هناك 16 مقبرة ملكية، حولتها القوات الأمريكية، عقب دخولها العراق، إلى ثكنة عسكرية للدبابات والمدرعات، ما جعلها عرضة للقصف المضاد، في حين وثقت منظمة "اليونسكو" إستخدام قوات التحالف لآثار بابل "إحدى عجائب الدنيا السبع" كقاعدة عسكرية بين عامي 2003 – 2004. وهو ماعده المتحف البريطاني "تجاوز أشبه بإنشاء معسكر بموقع ستونهينغ في بريطانيا العظمى"، كما وثقت المنظمة أيضًا لحاق اضرار ببوابة عشتار وكذلك دمار أرضية شارع الموكب الذي سار فيه ملوك بابل وشعبها وكهنتها، وتهشم القطع الأثرية على جانبيه، بسبب سير دبابات قوات التحالف الدولي عليه.
وعلى الرغم من أن القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية كانت تفترض على سلطات الاحتلال الأمريكي والبريطاني حماية المتحف العراقي الذي أغلق قبيل الغزو، إلا أن تقارير وشهادت علماء آثار وآكاديميين بينهم الأمريكي لورانس رونفيلد مؤلف كتاب "اغتصاب بلاد الرافدين"، تؤكد أنها "لم تفعل ذلك"، فتمكن لصوص من نهب وتدمير محتوياته، وسرقة نحو 11 ألف قطعة أثرية الكثير منها نادرة جدًا.
وفي نهاية المطاف، لم يتبق من 220 ألف قطعة أثرية كانت في المتحف، قبل الغزو، سوى 4 آلاف فقط. لكن جرى استعادة نحو نصفها لاحقًا، حسبما أعلنت الهيئة العامة للآثار والتراث في 2012.
تعرض ما يقارب 15 ألف موقع أثري في العراق للسرقة والنهب والتدمير على يد القوات الأمريكية وغيرها بعد الغزو عام 2003، فيما دمر "داعش" آثار شمال العراق بعد اجتياح 2014
وبالنسبة لآثار شمال العراق، حيث مملكة آشور، فقد دمر تنظيم "داعش" عقب سيطرته على محافظة نينوى في حزيران 2014، مدينة النمرود التي تأسست في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، التي يصفها المؤرخون بـ"درة الامبراطورية الآشورية"، فضلًا عن الثور المجنح ومرقد النبي يونس والمنارة الحدباء والجامع النوري، وآلاف المخطوطات النادرة، في حملة وصفتها الأمم المتحدة بأنها "تطهير ثقافي".
أما في سوريا فقد دمر التنظيم أيضًا مدينة تدمر الأثرية المدرجة في قائمة اليونسكو، و"معبد بل" القديم الذي يعود تاريخه إلى ألفي عام.
إضافة الى ذلك، سرق "داعش" آثار أخرى من البلدين بينها حلي ذهبية وقطع معدنية وخزفية، نشرت صورها صحيفة التايمز البريطانية ضمن تقرير أوردته في 14 آذار/مارس 2015، وقالت إنها معروضة للبيع في موقع "أي باي" للتسوق عبر الإنترنت مقابل 85 دولارًا للقطعة الواحدة، كما نقلت عن متحدث باسم الموقع قوله إن "الآثار السورية والعراقية المعروضة على الموقع للبيع إنما تمت بتوصية أمريكية".
وأشارت الصحيفة البريطانية في تقريرها، إلى تسجيل هيئة الجمارك الأميركية من جانبها، تضاعف كمية الآثار الواصلة إلى أمريكا قادمة من سوريا والعراق وخاصة بين عامي 2011 و2013.
في 28 آذار/مارس 2015، أعلنت منظمة اليونسكو إطلاق مبادرة "متحدون مع التراث" لصيانة وحماية الآثار العراقية، وفي شهر نيسان/ أبريل الذي تلاه، كما سلمت بعض الدول، مؤخرًا، قطع آثارية مسروقة لبغداد، في حين ظهرت قطع أخرى تعود لحقب بابلية وسومرية وأكدية وإسلامية بمتحف أبو ظبي في 16 تشرين الثاني/نوفمبر، وأخرى في متحف إسرائيلي بالقدس، في كانون الثاني/يناير من العام الجاري.
جغرافية المصاب!
وعند مقارنتهم الخسائر وكيفية وقوعها، يرى ذلك القسم من المتفاعلين مع حادثة إحتراق كاتدرائية نوتردام، أن آثار بلادهم ذهبت ضحية لجغرافيتها، دون أن تشفع لها قيمتها الحضارية الكبيرة جدًا، كما يقول الإعلامي العراقي العامل في قناة الحرة الأمريكية حيدر المحرابي.
فبعد توضيحه لأثر "التحية" أو "السلام" في خلق حالة من الشعور بالأمن بين البشر على اختلاف أديانهم ومذاهبهم الفكرية، وأنه عملية من شقين، المبادرة به والرد عليه، وكيف ينتفي غرضه إن لم يتحقق هذين الشقين، كتب المحرابي على صفحته في فيسبوك: "حين جمع الحزنُ العالم العربي قبل الغربي في مواقع التواصل، وهم يتناقلون صور الحريق الذي التهم كاتدرائية نوتردام في باريس، بسبب خلل فني أثناء عمليات صيانة داخلها بحسب المسؤولين، سألتُ نفسي، هل أشارك في هذه الجوقة؟ أم أبقى متفرجًا، بينما تقلّب يدي صور آثار بلدي التي تم حرقها وتفجيرها وتخريبها عن عمدٍ وقصدٍ وأمام أنظار العالم أجمع، حيث لم يأخذ التعاطف حينذاك طابع "العالمية"، بل لم يخلُ من شماتة بعض ناقصي التاريخ".
وتابع: "إن كاتدرائية نوتردام المنشأة في العام 1160 للميلاد، وما لها من بعد ديني وفني وسياحي، ليست أشرف مكانةً ولا أعلى شأنًا من الجامع النوري والمنارة الحدباء في الموصل التي تم تشييدها سنة 1172 للميلاد، وتم تفجيرها في العام 2014"، مضيفا: "كما أن كاتدرائية نوتردام ليست أكثر فنًا ولا أعرق حضارة من الثور المجنّح الذي يرجع تاريخه لنحو 700 سنة قبل الميلاد، والذي شهد هو الآخر التشويه والتخريب أمام عدسات الكاميرات وفرجة العالم، بل إنّ النفائس المحروقة في كاتدرائية نوتردام ليست أكثر تاريخًا من آلاف الكتب والمخطوطات النادرة التي أحرقها تنظيم داعش حين استولى على الموصل".
رأى المحرابي، أن "جغرافية المصاب لا ينبغي أن تفرّق في التعاطف وتجعله عالميًا تارة ومحليًا أخرى. فما يسمّى بالتراث (العالمي) هو في الحقيقة تراث يخص البلدان بذاتها، وقد جاء وصفه بالعالمي من باب المجاز أو الهيمنة، كما هو الحال حين تم وصف الحرب الأولى و الثانية مطلع القرن العشرين، والتي جرت بين بعض الدول، بالعالمية، رغم أن كثيرًا من بلدان العالم لم تشارك فيها!".
لم تكن كاثدرائية نوتردام "أشرف مكانةً" ولا أعلى شأنًا من الجامع النوري والمنارة الحدباء، وليست أكثر فنًا ولا أعرق حضارة من الثور المجنّح الذي يرجع تاريخه لنحو 700 سنة قبل الميلاد
وختم: "حين لم أشهد بكاء الفرنسيين - على سبيل المثال - على تراثي المدمّر عن عمد وقصد، ولم أرَ شبابهم وشاباتهم يتناقلون صور استئصال حضارتي أمام الكاميرات ويعلّقون عليها: (متعاطفون معكم، وقلوبنا تعتصر حزناً لأجلكم).. مثلما امتلأت صفحات شبابنا وشاباتنا بعشرات الصور المتضامنة، رجعتُ أفكر من جديد بآلية التحية وشقّيها. فإذا كان مبدؤها يخضع للمبادرة أولًا مشفوعةً بالرد، فإنّ موضوع الحزن عندي حينئذٍ سالب لانتفائه!".
اقرأ/ي أيضًا:
منارة الحدباء المائلة تهوي بعد تسعة قرون من الصمود.. فمن الفاعل؟
بإهداء نبوخذ نصر ورسوم الآلهة البابلية.. قطعة عمرها 3000 عام تعود إلى العراق