تعد القدرة الشرائية للمواطنين، مقياسًا لقوة الاقتصاد الوطني، إذ يقاس التطور الاقتصادي في بلد ما، عادةً، بالاستناد إلى تطور مستوى معيشة سكان هذا البلد، والذي يشمل الأجور مع قيمتها الحقيقية، والخدمات العامة المختلفة من تعليم وصحة وسكن وغيرها، فيما ترتبط القوة الشرائية لأي فرد بمحددين أساسيين هما: مستوى الدخل المُتاح للفرد، والمستوى العام للأسعار.
خرجت العراق بعد حربها مع إيران بخسائر قدرت بـ452 مليار دينار، وهو ما يعادل 10 أضعاف معدل الناتج المحلي الإجمالي أثناء فترة الحرب
وتُقاس القدرة الشرائية بشكل عام من خلال نصيب الفرد من إجمالي الدخل المُتاح الحقيقي (المصحح من التضخم) داخل البلد، إلا أن بعض الدول تعمد إلى تعديل هذا المؤشر من أجل دمج الخدمات التي يستفيد منها المواطنون مجانًا (التعليم والصحة نموذجًا) في الدخل المتاح.
اقرأ/ي أيضًا: 9 ملايين عراقي تحت خط الفقر
ويرتبط ضعف القدرة الشرائية بشكل مباشر بسببين: الأول سبب محلي مستمر، وهو انخفاض مستوى الدخل العام للمواطنين، والثاني خارجي وطارئ، وهو الأزمة وارتفاع أسعار سلع أساسية عالميًا.
وفي غالب الأحيان، تنخفض القوة الشرائية للنقود في ظل استخدام العملة النقدية الورقية عند قيام الدولة بطبع المزيد من العملات النقدية الورقية، وإنفاقها على مجالات غير إنتاجية. وهذا الإنفاق الاستهلاكي للدولة، يمثل زيادة في الدخل النقدي من دون أن يقابل ذلك أي زيادة في إنتاج السلع، ما يتسبب في ارتفاع الأسعار للسلع والخدمات ويؤدي إلى التضخم.
وفي المقابل، فإنّ تقوية العملة الوطنية ورفع قيمتها سيؤديان تلقائيًا إلى تحسن القدرة الشرائية للمواطنين. وقد يحصل ذلك أيضًا من خلال ضخّ قروض استهلاكية في شرايين الاقتصاد، تؤدي إلى زيادة السيولة بين أيدي المواطنين وبالتالي تحسّن قدراتهم الشرائية وتمكينهم من شراء الحاجات الأساسية وفق مستوى الرواتب التي يتقاضونها، شرط ضبط مستويات التضخم المحققة.
العراق قبل 2003
وفي العراق، فإن الحرب العراقية الإيرانية تعد نقطة التحول التي أدت إلى أزمة اقتصادية عميقة في العراق، خلال القرن الماضي، وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين، حيث خرجت البلاد مفلسة بعد ثماني سنوات من الحرب قدرت خسائرها بـ452 مليار دينار، وهو ما يعادل 10 أضعاف معدل الناتج المحلي الإجمالي أثناء فترة الحرب، بحسب الدكتور توفيق المراياتي، المحلل الاقتصادي.
بعد ذلك قرر النظام السابق بقيادة صدام حسين اجتياح الكويت في آب/أغسطس 1990، والذي انطلق أساسًا من رغبة النظام في إيجاد حل لأزمة الاقتصاد العراقي العميقة نتيجة للأبعاد الإفلاسية للحرب العراقية الإيرانية، ليراكم أعباءً جديدة على اقتصاد يعاني أساسًا من صدمات مضاعفة لحرب انتهت قبل سنتين فقط.
وقع العراق بعد ذلك تحت طائلة قرار مجلس الأمن رقم 661 في السادس من آب/أغسطس 1990، والذي فرض عقوبات اقتصادية على البلاد. وكان الهدف من هذا الحظر، التضييق على نظام الرئيس السابق صدام حسين، لإرغامه على سحب قواته من الكويت.
لكن قبل أن تصل الأمور إلى هذه المرحلة قادت الولايات المتحدة قوات التحالف، وأخرجت القوات العراقية، واستمرت العقوبات نافذة بذريعة التأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، وتطبيقه قرارات مجلس الأمن، حيث شملت هذه العقوبات حظرًا تجاريًا كاملًا، باستثناء المواد الطبية والغذائية والمواد التي لها صفة إنسانية.
وأدت الحرب العراقية الإيرانية ما بين 1980 و1988، إلى زيادة واضحة في المستوى العام للأسعار، في حين تعتبر العقوبات الاقتصادية الدولية على العراق عام 1990، وتدمير معظم البنى الارتكازية الوطنية عام 1991، ومحاولات الحكومة لملء فجوة الإيرادات العامة عن طريق الإصدار النقدي الجديد، سببًا مهمًا في إحداث لولب تضخمي أكسب التضخم سمة أوسع مدى مما كانت عليه خلال عقد الثمانينات.
وأصبح التضخم مفرطًا بعد أن كان جامحًا خلال العقد المذكور، فقد بلغت نسبة التضخم 187%، قياسًا بأسعار عام 1990، ثم أخذت ترتفع بوتائر نمو عالية حتى بلغت حوالي 85000% عام 2002، بحسب دراسات اقتصادية جرت وفق إحصائيات أعدتها وزارة التخطيط العراقية والجهاز المركزي للتخطيط والإحصاء.
أما الرقم القياسي العام لأسعار المستهلك، فقد ارتفع من 161 عام 1990 إلى 136752 عام 2002، وبمعدلات نمو سنوية عالية بلغت بعد فرض العقوبات الاقتصادية الدولية عام 1991 187% ثم وصلت إلى 351% نهاية عام 1995، بعد استئناف العراق ضخ نفطه على ضوء مذكرة التفاهم بين العراق والأمم المتحدة.
بعدها سجلت وتائر نمو منخفضة، بدأت بمعدل سالب قدره 15.4-% عام 1996 ثم بمعدلات نمو إيجابية بسيطة بين 23% عام 1997 و19.3% عام 2002.
ونتيجةّ للتدهور الاقتصادي بعد غزو الكويت، تعمقت مظاهر التردي والترهل الاقتصادي إلى الحد الذي أفقد المجتمع العراقي سمات المجتمع المتحضر المتماسك الذي كان عليه قبل الغزو، حيث تم تسريح ما يقارب ثلثي القوى العاملة نتيجة توقف القطاعات الصناعية بسبب الحصار، مما ساهم في زيادة معدلات البطالة وتمزق الحياة العائلية وارتفاع معدلات الجريمة، العنف الاجتماعي، الرشوة، الانتحار، السرقة، التهريب، البغاء، جنوح الأحداث، وظواهر اجتماعية أخرى.
ويمكن بسهولة تقدير مدى تدهور الاقتصاد العراقي والقدرة الشرائية عقب حرب الخليج الثانية 1991، وطوال سنوات الحصار الـ12، من خلال النظر إلى وضع الدينار العراقي، فقد شهدت هذه العملة هبوطًا حادًا في سوق تبادل العملات حتى أصبح الدولار الأميركي الواحد يساوي أكثر من 2000 دينار.
وأدى هذا الهبوط الحاد في قيمة العملة وشح المعروض من النقد الأجنبي اللازم لعمليات الاستيراد المسموح بها، إلى زيادة الأسعار. واستنادًا إلى الأرقام التي قدمها صندوق السكان التابع للأمم المتحدة، فإن الدخل الفردي السنوي انخفض من 3416 دولارًا عام 1984 إلى 1500 دولار في عام 1991، ثم انخفض إلى حوالي 36 دولارًا فقط في العام خلال السنوات الأخيرة من الحصار.
بعد عام 2003
ومع الغزو الأمريكي للعراق والإطاحة بنظام صدام حسين في 2003، ساد الاعتقاد بأن الوضع الاقتصادي سوف يميل نحو التحسن بسبب الانتقال من المركزية إلى اللامركزية، والتوجه نحو اقتصاديات السوق، لكن الوضع أصبح مغايرًا، إذ اصبحت حالة التدهور واضحة في الاقتصاد العراقي، بعد أن أهملت الحكومات المتعاقبة الاهتمام بجوانب التنمية والخدمات بكل أشكالها: التعليمية، الصحية، الاتصالات، وشبكات المياه والمجاري، على مدى الـ15 سنة الماضية.
وتفاقم الفساد بجميع أنواعه في البلاد نتيجة للفساد السياسي بعد عام 2003، واستنزاف الموارد المالية الهائلة ضمن موازنة الدولة ابتداءً من 2003، والتي قدرت بحدود 790 مليار دولار، والتي كان من الممكن أن تنقل الاقتصاد العراقي إلى مصاف الدول المتقدمة لو استغلت بالشكل الصحيح، كما تشير دراسة "واقع الاقتصاد العراقي والتحديات التي تواجهه بعد عام 2003" لمحمد عبد صالح.
وعلى الرغم من ذلك، شهدت القدرة الشرائية للمواطن العراقي تحسنًا ملحوظًا، نتيجة ارتفاع الناتج المحلي للبلاد، نظرًا لارتفاع معدلات إنتاج النفط وأسعاره، مقارنة بما قبل عام 2003، وبالنتيجة ارتفاع مستوى الدخل المُتاح للفرد: الرواتب والموارد الممكنة مثل الأجور والتعويضات العائلية والاجتماعية وعائدات الملكية (فوائد، أرباح، إيجارات وغيرها)، فضلًا عن الخدمات المجانية المقدمة للمواطنين، كما يؤكد الخبير الاقتصادي باسم أنطوان لـ"ألترا صوت".
ويشير أنطوان، إلى أن "الإيراد الحكومي ارتفع بشكل كبير على مدى السنوات التي اعقبت عام 2003، وانعكس بشكل ايجابي على القدرة الشرائية للمواطنين، وهو ما تظهره الموازنات المالية الكبيرة للبلاد خلال السنوات الماضية، على الرغم من حصول تضخم نقدي كبير".
وسجل معدل الدخل السنوي للفرد العراقي، أعلى ارتفاع له في عام 2013، حيث بلغ 7500 دولار، مع ارتفاع أسعار النفط، بحسب المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي، مبينًا أن ذلك "أدى إلى تغيير إيجابي في نمط حياة المواطنين، على الرغم من وجود نسبة فقر في البلاد، حيث لم يك متوسط الدخل السنوي للفرد العراقي خلال فترة الحصار يتجاوز في أفضل الحالات ما بين 300 و500 دولار سنويًا".
أزمة النفط وداعش
لكن العراق تعرض لأزمتين كبيرتين متلازمتين بعد ذلك، تمثلتا في الانخفاض الحاد لأسعار النفط، وسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على نحو ثلث مساحة البلاد، وحدوث موجات من النزوح إلى اقليم كردستان وأغلب المحافظات العراقية الأخرى، في النصف الثاني من عام 2014.
رغم أن مستوى الدخل في العراق يقع ضمن نطاق الدخول المتوسطة عالميًا إلا أن مستوى الفقر بلغ 22.5% وفقًا لآخر دراسة رسمية
وتسببت الأزمتان بانخفاض مستوى نمو الاقتصاد العراقي إلى 6% بين عامي 2013 و2014، فيما كان متوقعًا ان تكون نسبة النمو 9%، كما شهد قطاع الصناعة والإنشاءات انخفاضًا كبيرًا في معدل نموه من 27% إلى معدل نمو سالب بلغ 18%، بحسب وزارة التخطيط.
اقرأ/ي أيضًا: عراق "عقوق" الإنسان
ويقول المتحدث باسم وزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي لـ"ألترا صوت"، إن "ذلك أدى إلى انخفاض مستوى الدخل خلال عامي 2015/2016"، مشيرًا إلى أن "مستوى الدخل للفرد بلغ 5000 دولار في عام 2017". ومع تعافي أسعار النفط وهزيمة تنظيم داعش مع نهاية العام الماضي، عاد مؤشر مستوى الدخل إلى الارتفاع في عام 2018 الجاري، حيث رجح الهنداوي أن يبلغ 6500 دولار.
وبحسب تلك الأرقام، فإن مستوى الدخل في العراق يقع ضمن نطاق الدخول المتوسطة عالميًا، لكن ذلك لا يُعد مقياسًا كافيًا لمستوى الرفاهية الاقتصادية للمواطنين، لعدم تحقق العدالة بتوزيع الناتج المحلي على المواطنين، حيث يبلغ مستوى الفقر في البلاد 22.5%، وفقًا لآخر دراسة نفذتها وزارة التخطيط عن الفقر في نهاية عام 2014.
المؤشرات الدولية
وأطلق البنك الدولي، توقعاته وتقديراته للاقتصاد العراقي خلال عام 2018، كاشفًا عن أرقام صادمة بالنسبة للفقر والاحتياجات العامة، مع تحذيرات من هشاشة الوضع بسبب مخاطر محدقة بالحالة العراقية، رغم إشارته إلى تسارع وتيرة النمو.
وبحسب تقرير البنك الدولي، فإن عدد سكان العراق يبلغ 38.5 مليون نسمة وإجمالي الناتج المحلي 197.7 مليار دولار، ومعدل الفقر وفقًا لخط الفقر المحدد بـ3.2 دولار في اليوم، هو 17.9%، فيما ترتفع النسبة باحتساب 5.5 دولار دخل في اليوم إلى 57.3 دولار، لكن خط الفقر الوطني تم تحديده بـ22.5٪. فيما يبلغ معدل العمر في العراق 69.6.
ويتوقع التقرير تسارع وتيرة النمو للاقتصاد العراقي بفضل تحسن الأوضاع الأمنية، حيث سجل 4.4% في القطاع غير النفطي في 2017، رغم البطء في أنشطة إعادة الإعمار بسبب تداعيات الحرب وانخفاض أسعار النفط، وسط آمال معقودة على عمليات إصلاح هيكل الاقتصاد ومعالجة مشكلة النزوح حيث مازال 10% من العراقيين يعانون من النزوح.
وقدر التقرير احتياجات العراق لإعادة الإعمار بـ88 مليار دولار، إلا أن المؤشرات الإيجابية سيدة الموقف بشكل طفيف، وفق التقرير، حيث سجل التضخم معدلًا منخفضًا في 2017 بنسبة 0.1٪ والعجز الكلي للموازنة انخفض إلى 2.2% في العام الماضي.
وساعد تحسنُ النواتج المالية على استقرار الدين العام في 2017، بعد زيادة نسبته جراء عمليات الاقتراض وإصدار ضمانات الديون حيث استقرت نسبة الدين قياسًا بإجمالي النتاج المحلي في 2016، على سبيل المثال عند 64%، وبدأت احتياطات النقد الأجنبي بالازدياد في 2017 لمواجهة الصدمات الخارجية، بحسب التقرير.
وأشارت إحصاءات سوق العمل إلى مزيد من التدهور في أوضاع الفقر، حيث سجل معدل مشاركة الشباب بين 15 و24 عامًا تراجعًا ملحوظًا، وزاد معدل البطالة نحو الضعفين في المحافظات المتضررة من العنف المرتبط بداعش والنزوح حيث سجل 21% مقارنة بباقي المحافظات 11%.
ويتوقع البنك الدولي أن تتحسن آفاق النمو في العراق بفضل بيئة أمنية مواتية والانتعاش التدريجي للاستثمار لإعادة الإعمار وسط تنبؤات بنمو الناتج المحلي رغم اتفاق خفض الإنتاج لـمنظمة أوبك الذي يلزم العراق.
وتشمل المخاطر التي تهدد النمو الاقتصادي في العراق، احتمال تصاعد التوترات السياسية واحتمال وقوع هجمات إرهابية قد تفسد الآفاق المستقبلية على المدى المتوسط، أما على المدى البعيد ثمة مخاطر تلوح في الأفق مثل احتمال تقلب أسعار النفط، والفشل في تحسين البيئة الأمنية، وعدم تنفيذ التدابير الكبيرة المتوقعة لإصلاح المالية العامة واحتواء النفقات الجارية، وعدم إعطاء الأولوية للاستثمار في إعادة الإعمار، كما لا يزال الدين العام عرضة للتأثر بصدمة حدوث تراجع في أسعار النفط أو هبوط سعر الصرف الحقيقي للدينار.
خطر الاقتصاد الريعي!
ويُعد الاعتماد على النفط كمصدر أحادي للإيرادات المالية، من أبرز الثغرات التي تهدد الاقتصاد في العراق، وتجعله يتأثر بالمتغيرات الاقتصادية الخارجية وتتراوح معها القدرة الشرائية للمواطنين، كما يؤكد الخبير الاقتصادي باسم أنطوان.
وتشير دراسات اقتصادية اطلع عليها "ألترا صوت"، إلى ضرورة تنويع الاقتصاد العراقي والابتعاد عن الارتكاز على النفط كمورد اقتصادي رئيسي وتطوير الزراعة والصناعة والارتقاء بخدمات المياه والصرف الصحي والمواصلات وتحسين البيئة، للحد من الفقر في العراق ورفع القدرة الشرائية للمواطنين.
وتبين الدراسات، ضرورة الاهتمام بسوق العمل وخلق الموازنة بين مخرجات التعليم، بعد إعدادهم وتدريبهم وحصولهم على المؤهلات، مع الطلب على العمل في السوق العراقي، بالاضافة إلى إنعاش الاستثمار ووضع سياسات مالية ونقدية كفيله بدعم الاقتصاد العراقي وامتصاص البطالة وزيادة حجم التشغيل للقوى العاملة العراقية بغية حصولهم على دخول حقيقية تحميهم من مشكلة الفقر.
الاعتماد على النفط كمصدر أحادي للإيرادات المالية، من أبرز الثغرات التي تهدد الاقتصاد في العراق، وتجعله يتأثر بالمتغيرات الاقتصادية الخارجية
وتدعو تلك الدراسات إلى تبني الدولة العراقية إصدار تشريعات قانونية تحمي السكان من الفقر وتطوير البرامج الموجودة مما ينعكس على تخفيف حدة الفقر، فيما يرى المتحدث باسم وزارة التخطيط في "تفعيل قطاع التنمية الصناعة، الزراعة، السياحة، وفسح مجال للقطاع الخاص، مقومات من شأنها تحريك عجلة الاقتصاد وبالتالي تنعكس إيجابًا على حياة الناس بتوفير فرص العمل وتقليل البطالة وخفض نسب الفقر ورفع القدرة الشرائية".
اقرأ/ي أيضًا: