13-أغسطس-2020

من دلائل عمق هذا الكتاب أنه لم يجعل الصمت ضدًا للغة (فيسبوك)

أهلُ الليل يقطعون مسيرَ ليلهم بكتاب، ويباشرون رحلتهم في الكتاب على ضوء قنديل. فلكلّ ليلٍ كتابُه، ولكلّ كتابٍ قنديله. وأنا من أهل الليل.

وهبني هذا الكتاب قنديله من أولى صفحاته، في المقدمة التي كتبها الفيلسوف غابريل مارسيل له، ودلّني فيها أولًا على منطقة اشتغال الكتاب، ثم على كيفية اشتغاله.

كتاب عالم الصمت تمجيدٌ للصمت الذي إذا فقدتْه اللغةُ أصبحت هزيلة، إذ الصمت يمتلك معرفة عن اللغة وينتمي إليها

أما المنطقةُ التي يجول فيها ماكس بيكارد فهي تلك القارّة التي لم يكتشفها إلا قلّة من العقول والقلوب، تلك التي يسميها مارسيل "أطلنطس الأعماق المفقودة"، وهي المنطقة التي يمتزج فيها البحران، بحر الفلسفة وبحر الشعر. كتب: "الفيلسوفُ يميل اليوم إلى الانجذاب أكثر إلى الشعر، كل ما نستطيع رؤيته حولنا ظهور جديد للأطلنطس المفقود من الأعماق.. وعلى هذا الأطلنطس يمكن بالفعل من دون ريب وضع عمل ماكس بيكارد".

اقرأ/ي أيضًا: لا أحد يعرف أحدًا

وإذ يرسم مارسيل الجغرافيا التي يتموضع فيها بيكارد، وهي جغرافيا مخلّقة من شعر وفلسفة، لا ينسى أن يحذرنا من أن بيكارد مؤمن مسيحيّ كاثوليكيّ رومانيّ، وأن حديثه عن الروح لا يطلع من ذات الجذور التي يطلع منها حديث هيدغر عنها أو حتى ريلكه، ثمّ يسمح لنفسه بأن يتخيّل بيكارد الصموت جالسًا يقرأ "مراثي دوينو" لريلكه مأخوذا بها لكنه يكتم في نفسه بعض التحفظات عليها.

هذه التحفظات التي تخيّلها مارسيل في نفس بيكارد، هي الفحوى التي تعيننا على فهم كيفية اشتغاله في كتابه هذا، فبيكارد المؤمن الذي ترك دراسة الطبّ ليتفرغ لدراسة الدين، يوجّه نشاطه التأمليّ "نحو نوع من كمال الوجود الممكن"، وهو نشاط أشبه ما يكون برسالة استغاثة لأنّ كمال الوجود معرّض للخطر لا بسبب التقدم التقنيّ، وإنما بسبب سلطة أولئك الذين جعلوا من التقنية أدوات عمياء.

هل يختلف فعل بيكارد هنا عن فعل أنبياء العهد القديم ذوي الرؤى القيامية التي تنذر بانتهاء العالم؟

يجيب مارسيل موافقًا ومتحفظًا. يوافق على أن بيكارد نبيٌّ وأنّ عباراته تنبعث من وعي أخرويّ، أيْ من أواخر الأمور التي هي الموت والحساب والجنة والجحيم، لكنه يستدرك هذا الحكم بالقول إن نغمة هذا الكتاب مع ذلك هي نغمة سلميّة بشكل رائع، فالكتاب بمجمله تمجيد "للسلام الذي يفوق كلّ إدراك".

وحقًا، فالسلام ينشر جناحيه على الكتاب كلّه، السلام المعبّر عنه بالصمت، لا الصمت الذي يعني مجرد توقّف الكلام أو انقطاعه، بل ذلك الذي ينتمي إلى البنية الأصلية للإنسان، وليس بالتأكيد الصمت الذي يتنكّر للغة والكلام، بل الصمت الذي يعضد الكلام ويجعله منتجًا. يكتب بيكارد مستبقًا كل سوء فهم "إنها اللغة وليس الصمت هو ما يجعل الإنسان إنسانياً بحقّ" لأن "الكلمة تمتلك غلبةً على الصمت" لأنها وحدها مَنْ بمقدورها إيقاع تأكيدات على الواقع. غير أنّ الكتاب، مع ذلك، تمجيدٌ للصمت الذي إذا فقدتْه اللغةُ أصبحت هزيلة، إذ الصمت يمتلك معرفة عن اللغة وينتمي إليها.

وعلى غرار هيدغر، يمجّد بيكارد ما لا نفع فيه ولا فائدة، يلتقط الصمت ويرفعه علامة تحدٍّ ضدّ كل ما يمكن تسليعه، "الصمت هو الظاهرة الوحيدة اليوم التي بلا فائدة، إنه لا يتلاءم مع عالم الربح والمنفعة، إنه ببساطة موجود، لا يبدو أن له غرضًا آخر؛ ولا يمكن استغلاله". "الصمت غير منتج، لهذا اعتبر بلا قيمة". هذه النبرة الهيدغرية التي لا تخطئها العين، نبرة مديح ما لا نفع فيه تسيطر على نشيد بيكارد الشعري الفلسفي "هناك عون وشفاء في الصمت أكثر من كل الأشياء النافعة".

من دلائل عمق هذا الكتاب، ومن بركات رهانه على تواشج الشعريّ والفلسفيّ، أنه لم يجعل الصمت ضدًا للغة، ولم يسع إلى خلق ثنائية يكون معها البحث غارقًا في المقايسة السهلة أو تعداد الفوارق بينهما. ليس من بُعدٍ إنكاريّ "مرة أخرى: الإنكار مقتل كلّ فكر". يكتب بيكارد أن الصمت نقيضٌ للكلام، لكنْ ليس كعدوٍّ، إنه الجانبُ الآخر فقط.

كم يبدو الصمت هنا، هو البدء، هو المعطى المبدوء به الوجود كلّه، بالضدّ مما قررته المدوّنة الدينية "في البدء كانت الكلمة"، يمكننا القول "في البدء كان الصمت"، فقبل أن يكون ثمة وجود، كان يرين الصمت، صمت ما قبل الكلام الذي يعني في الآن ذاته صمت ما قبل الخلق، صمت ما قبل الولادة. تحضرني هنا العبارة التي يكررها لوكليزيو في الوجد الماديّ عن حالة ما قبل الولادة "صمتُ ما قبل الولادة يحيط بي من كلّ جانب"، ثم حين وُلد وأصبح قادرًا على النطق دهمتْه الكلمةُ التي لها فعل الولادة والقتل معًا "في قاعة المسلخ البيضاء يدخل المسمارُ الرهيفُ في عنق الثور. إنّ تلك التي أنجبتني في العالم قتلتني أيضًا". فما هي هذه القوّة التي أنجبت الإنسان وجعلته قادرًا لا على إدراك العالم وحسب بل على إنشاء تأكيدات عن نفسه والعالم؟ أليستْ هي الكلمة التي قطعت أخيرًا فردوس الصمت، فردوس ما قبل الولادة. ولعلّ حنيننا إلى ما قبل الخلق، هو ذات حنيننا وتوقنا إلى الجنّة التي لا يرفّ في آمادها سوى سلام الصمت.

يكتب بيكارد بكل عدّة الشاعر والفيلسوف هذه العبارة التي تشعّ كآبةً مفرحة وحزنًا سعيدًا:

(الصمتُ يوقظُ الحزن في الإنسان، لأنه يذكّره بتلك الحالة التي لم تكنْ فيها قد وقتْ بعدُ تلك السقطةُ التي سببتها الكلمة. يجعل الصمتُ الإنسانَ يحنُّ إلى تلك الحالة قبل سقطة الإنسان، مع الكلمة تقع السقطة الأولى في الإثم. لهذا يعتبر الناس الشاعر متغطرسًا لأنه لا يبدو منزعجًا حول حقيقة أن الإنسان سقط في الإثم بسبب كلمة. لكن الإنسان يشعر بنفسه منجذبًا نحو الشاعر أيضًا لأن الكلمة لا تزال في حالتها الأصلية في الشعر، مثل الكلمة الأولى التي جعلته إنسانًا؛ وهذا يجعله سعيدًا).

من دلائل عمق هذا الكتاب أنه لم يجعل الصمت ضدًا للغة، ولم يسع إلى خلق ثنائية يكون معها البحث غارقًا في المقايسة السهلة أو تعداد الفوارق بينهما

أنا من أهل الليل، أقطعُ الليلَ كلّه بكتابٍ، وأقطعُ الكتابَ بقنديل، وأعرف ذلك الصمت الذي يسبق كل وجود، وأعرف أن الإنسان كان إلهًا بالصمت قبل أن يغدو إنسانًا بالكلمة.

لي قصيدة قصيرة "منشورة في كتابي دليل على بهتان العالم" أردتُ فيها اختزال الليل والكتاب والصمت والكلام. وهذه هي القصيدة:

وقعَ على العالمِ كلامٌ كثيرٌ

.....................................

وقعَ على العالمِ كلامٌ كثير

وكانَ الإنسانُ ساهرًا على كرمَتهِ

مثل فزّاعةٍ

صامتًا في كلامِ حديقتهِ

حينما فجأةً

شَفرةُ الفجرِ اخترقتْ وجهَه وأنبتتْ له لسانًا وشفتينِ؛

ومن يومِها

صارت الريحُ تأتي وتذهبُ منه إليهِ

محمّلةً بالغبارِ

محمّلةً بالكلام.

كان الإنسانُ إلهًا

حتى وقعَ على العالمِ كلامٌ كثير.

..................................

هذه المقالة نتيجة قراءتي كتاب

عالم الصمت ـ ماكس بيكارد

ترجمة: قحطان جاسم

دار التنوير ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 2018. 







اقرأ/ي أيضًا: 

كيف ومتى أصبحنا معدة تطحن نفسها؟

هل الصفحُ المستحيل ممكن؟